جدل الزكاة: هل تطوير الشريعة سيكون لمصلحة أنظمة الرعاية الاجتماعية؟

جدل الزكاة: هل تطوير الشريعة سيكون لمصلحة أنظمة الرعاية الاجتماعية؟

على مدار شهر رمضان، وفي كل عام، تتكرر تساؤلات المسلمين حول بعض الأمور شبه الثابتة، المتعلقة تحديدا بزكاة الفطر. هذه ليست بمشكلة، بل حقّ للجميع، ومستحب دينيا، منعا لأي لغط كان.

إلا أن الملاحظ، لاسيما خلال الأعوام القليلة الماضية، ظهور جدالات مُتعلّقة بأمور لم تكن محلّ لغط أو حيرة في السابق، إلى أن تمت إعادة إنتاجها، بوصفها مسائل محورية في الحيز العام، نتيجة معادلات سياسية واجتماعية معاصرة، تدّعي أنها تعيد، بكل أمانة، إحياء ما كان سائدا في القرون الغابرة.

ومن اللافت للنظر، بل المُثير للدهشة، ما يظهر من تساؤلات وآراء، تنمّ في باطنها عما يُصيب السائل من حيرة، وما يستند إليه صاحب الرأي من أفكار وقناعات، تبدي جمودا، إن لم يكن تشددا، وعدم مواكبة للمسائل المستجدة في المجتمعات المعاصرة.

ولكن هل علينا أن نلوم المتدينين، إذا فكروا بشكل عقائدي وليس اجتماعي؟ وهل المشكلة فعلا في عدم مواكبة الفتاوى لـ”العصر”، أم في حاجتنا الدائمة إلى فتاوى، كي نستطيع “المواكبة”؟

مشكلة الدراهم: هل مازالت الحبوب والتمر قادرة على إعانة فقير؟

وفقا لحديث ابن عمر، الوارد في الصحيحين، فإن “رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فرض زَكَاةَ الفِطْرِ من رمضان على الناس، صاعا من تَمْر، أو صاعا من شعير، أو إقط، على كل حُرٍّ أو عَبْدٍ ذكر أو أنثى من المسلمين، ويخرجها العائل عمَّن تلزمه نفقته“.

وببحث بسيط عن أسئلة المسلمين حول الزكاة، سنجد غالبيتها تدور حول الصورة الواردة في هذا الحديث، وما ظهر بعده على مر العصور من فتاوى. ورغم ما صدر عن دار الإفتاء المصرية بشأن إمكانية تنويع الزكاة، إلّا أن إجابات بعض المفتين، تأتي متشددة في ضرورة أن تكون طعاما فقط. بل ومنها ما استبعد أطعمة مثل السكر والزيت والزبد، من قائمة الأطعمة المباح إخراجها زكاة، باعتبارها “إداما أو حلوى، حتى لو كثر استعمالها”.

لكن السؤال: هل اليوم، وفي ظل الارتفاع المستمر لأسعار مثل هذه الأطعمة الأساسية، في منازل صار أغلبها تحت خط الفقر، ويصطف أهلها أمام الجمعيات العامة للحصول عليها بسعر منخفض، مازال من المنطقي التعامل معها بوصفها “حلوى”، ممنوع إخراجها زكاةً؟

كيف يمكننا اليوم الالتزام بهذه الصورة فقط من “أطعمة مُحددة” دون غيرها؟ لماذا وصل الأمر حدّ صدور فتوى برفض إخراج الزكاة لحما، طالما لم يكن قوت أهل البلد، ولأنه يوزن ولا يُكال؟ نحن بهذا نفرض على الفقير صورة مُحددة لقوته، ونحرمه من طعام آخر يشتهيه، وربما لا يمكنه تذوّقه إلّا في فترات متباعدة بسبب الأحوال الاقتصادية.

ولماذا الالتزام بالطعام فقط أو حتى الأشياء العينية؟ إذ أن تلك الفتوى نفسها، التي تستند إلى صورة إخراج الزكاة في عصر النبي، تنصّ على أن الزكاة “لا تجزىء من الدراهم، ولا من الثياب، ولا من الفرش”، رافضة الأخذ بقول بعض أهل العلم، ومنهم بالمناسبة الإمام أبي حنيفة، لأنها “تُجزئ من النقود”، مُستندة في ذلك إلى أنه “لا استحسان للعقول في إبطال الشرع”.

والسؤال هنا: أين الإبطال للشرع في دعم فقير بأمر يحتاجه؟ وهل يخالف الدين أن أقدّم لأي محتاج مالا، يصبح هو حُرا بالتصرف فيه؟ في مجتمعات اليوم، حيث لا طحن ولا خَبز. لن يفيد المُحتاج أرز أو قمح في محاولاته الحصول على علاجه، أو كسوة أبنائه، أو شراء ما يلزمهم في التعليم، أو غيرها من الأمور.

يبدو بالفعل أن الجدل الشرعي والعقائدي، يصعب أن يراعي قضايا المجال الاجتماعي. فلماذا المحاولات المتكررة لجعله كذلك؟

المنظور المقاصدي: هل يمكن “عصرنة” الزكاة فعلا؟

إذا فكرنا بالموضوع من زاوية “مقاصد الشريعة”، يتبين أن الفكرة في زكاة الفطر، سواء كانت طعاما أو مالا أو غيره، هي الدعم والتكافل بين الناس، وفقا لقول النبي: “اغنوهم عن طواف هذا اليوم“، وهو الطواف الذي يمكن أن يكون سببه حاجة للمال.

ومن الإغناء عن “الطواف” في هذا اليوم (أي العيد)، طُرح سؤال آخر، يتعلّق بأوقات إخراج الزكاة، التي امتد الخلاف إليها، إذ يُفضّل البعض أن تكون في العشر الأواخر من شهر رمضان، باعتبار أن “ثوابها أكبر”، بينما يتساءل البعض الآخر عن حُكم إخراجها في أيام أخرى، بل امتدت النقاشات إلى فكرة الساعة نفسها، بين غروب آخر يوم رمضان، وشروق أول يوم العيد.

ربما يأتي هذا بسبب اختلاف آراء الأئمة، بين مالكي، وحنبلي أفاد بـ”عدم جواز إخراجها أول رمضان أو أوسطه، بل قبل يومين أو ثلاثة من عيد الفطر”، وبين حنفي وشافعي رأى أنها، ومن اسمها، “زكاة الفطر”، مُرتبطة برمضان نفسه، ما يعني أنه يمكن اعطاؤها منذ اليوم الأول في الشهر.

هنالك أمر آخر مهم يدور حوله الجدل، عن مستحقي الدعم بالزكاة، ولماذا يُحرم البعض منه؟ فطالما تأكد فقهيا صحة وجواز إخراجها أموالا، فلمَ يتشدد البعض في اقتصار توجيهها لصالح أفراد فقط؟

الزكاة، وانطلاقا من مبدأها المقاصدي، المعني بالدعم الاجتماعي، ستكون ذات فائدة أكبر إذا تم توجيهها إلى جهات خيرية، مثل دور الأيتام والمستشفيات، التي تُقدّم العلاج المجاني، وغيرها من المؤسسات، والتي صارت اليوم، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، في أشد الحاجة إلى الأموال، ويعدّ رمضان بالنسبة لها فرصة مناسبة للحصول على ما يدعمها.

لماذا أيضا تقتصر الزكاة على أهل البلد وحدوده؟ ما الأزمة في توجيهها إلى لاجئين، ساقتهم الأقدار والظروف العصيبة في بلدهم إلى أرضنا؟ أو دعما لبلد آخر، صار مواطنوه أكثر عوزا وأشد حاجة للمال مقارنة بنا؟ للعلم، فإن هذه الأمور أجازها فقهاء، لكن وربما لدوافع “التعصّب الوطني”، يتمسّك البعض بتوجيهها لبني جلدته فحسب.

الأمر نفسه ينطبق على ما يخصّ مستحقي الزكاة وفقا للديانة، فرغم ما أصدرته دار الإفتاء  من جواز الزكاة لغير المسلمين، فإن فالجدل والخلاف دائر حتى الآن بشأن هذا الأمر، بين مجيزي إعطائها لغير المسلمين، وآخرين هم الأغلبية، رافضين بصورة قاطعة لهذا الأمر. لكن بالتفكير المقاصدي، ماذا لو كان غير المسلم أحوج للزكاة ممن تعرفهم من المسلمين؟ أو ماذا لو كان قائما على جهة تُعين الناس بالفعل، وبلا تفريق ديني، في الحصول على خدمات، مثل العلاج أو التعليم، أو غيرها من أمور حياتية ضرورية، وصار في حاجة مُلحّة إلى المال للاستمرار؟

هنا، ولو كان المقصد التكافل الاجتماعي فعلا، لا توجد ضرورة للتزمت، والأفضل التعامل بتسامح وتيسير مع الجميع، لاسيما وأن أئمة مثل أبي حنيفة أجازوا إعطائها، حتى لمن يُعدّ بصورة صريحة “كافرا”. وهذا أمر يبدو مناسبا لعصرنا، خاصة وأننا منذ عقود نجد كثيرا من غير المسلمين، سواء بصورة فردية أو عبر هيئات، يقدمون المنح والعطايا لأفراد آخرين وبلاد مختلفة، دون النظر إلى عقائد أهلها.

المقاربة المقاصدية قد تغيّر كثيرا مما هو نص فقهي أو شرعي، بناء على دعاوى عقلية واجتماعية، وبالتأكيد سيجد المتدينون صعوبات كبيرة في الموافقة عليها، والمضي بها حتى النهاية. فهل يجب أن نطالبهم بذلك؟ وهل هذا مفيد لعموم المجتمع؟

التكافل عبر الأسلمة: هل يجب أن نلقي على الشريعة عبء الرعاية الاجتماعية؟

من الاختلاف الأخير حول تحديد مستحقّي الزكاة، يمكن طرح سؤال، غير متوقع لكثيرين: هل يمكن لمد أحكام الزكاة أسلمة المجتمع؟

الزكاة واحدة من أركان خمسة للدين الإسلامي، فهل نحن في حاجة لأن يتحوّل الدين من كونه أمرا عقائديا وروحانيا، إلى منظومة رئيسية، ملتزمة بتحقيق التكافل الاجتماعي، وهكذا تصبح الوظائف الاجتماعية الرئيسية شأنا دينا؟

بالنظر إلى أن أغلبية المواطنين يعتنقون الدين الإسلامي، وكذلك كون الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع، وفقا للمادة الثانية من الدستور المصري، يحضر لدينا جدل الزكاة، بطريقة توكل لذلك الطقس العقائدي الإسلامي لعب أدوار، من المفترض والأصح أن تلعبها جهتان: الأولى الدولة، التي من المفترض أن تكون دولة لجميع مواطنيها، على اختلاف عقائدهم؛ والثانية المنظمات الاجتماعية والخيرية متعددة الاتجاهات والأفكار. يمكن للمتدينيين أن يشاركوا بالعمل الاجتماعي والخيري، وفق ما ترتئيه عقائدهم، ولكن أن تصبح تلك العقائد هي أساس فهمنها السياسي للوظائف الاجتماعية، فهنا المشكلة.  

لذا نسأل: لماذا ينتظر مئات الآلاف، إن لم يكن ملايين من المحتاجين، حلول شهر مُقدّس مثل رمضان أو الأعياد، لنيل “العطاء”؟ نتحدث هنا عن أشخاص تعجز منظومة الرعاية الاجتماعية الرسمية عن سدّ حاجتهم، هذا إن لم يكونوا سقطوا من قوائمها أساسا، ما قد يربط الدعم بأحكام دينية، واجتهادات متدينين، تتعلق بفترة مُحددة، وبعدها تعود الأمور إلى ما كانت عليه.

في المقابل، نجد أنه في كثير من دول العالم الأخرى، لا دور مُلزما للمؤسسات الدينية في تقديم الدعم، ولا يُعتبر ذلك واجبا مفروضا عليها، رغم ترسّخ تقاليدها في العمل الخيري. بعضها بالتأكيد اختار لعب دور المهتم بحقوق المواطنين، والبحث عن عدالة التوزيع، لسد فجوات عمل الجهات الرسمية، وتلبية الاحتياجات؛ ومنها من يأخذ دعما من الدولة، إلا أنه يُشدد على ضرورة ألّا يكون ذلك “مشروطا بما يقيّد حريته”.

الأمور واضحة تماما: أنظمة الرعاية الاجتماعية ليست شأنا دينيا، حتى لو شارك بها المتدينون بخيارهم، ودون أن يؤثّر ذلك بأي شكل من الأشكال على حرية معتقدهم، وأساليبهم الخاصة في العمل الخيري.

كذلك، نجد النقاشات في الدول الموصوفة بـ”العلمانية”، والأكثر كفاءة غالبا في أنظمتها الاجتماعية التكافلية، تدور دائما حول فكرة االفصل التام بين المؤسسة الدينية والدولة، لما يُرى في هذا الأمر من ضمان لحقوق المواطنين، أيا كانت الاختلافات بينهم، وهو ما لا نجده في غالبية المجتمعات العربية والشرق أوسطية.

بعبارة أخرى، لا أحد يعامل الكنيسة في “الغرب” باعتبارها مسؤولة رسميا عن أي دعم كان، إذ أنها فقط دار عبادة، أمّا الدعم فتقدمه الدولة للمواطنين عبر مؤسساتها الرسمية، بوصفه حقا أصيلا لهم، مُقابل ما يُسددونه من ضرائب ورسوم. وهذا النمط من التفكير يمنح المواطنين نوعا من السيادة، ويخفف عنهم تقلّبات كرم المحسنين، و”التريند” العقائدي السائد بينهم في فترة ما.

لسنا مضطرين أن نصبح فقهاء في الدين الإسلامي كي نساعد الفئات الأكثر حاجة. ومن يريد أن يكسب ثوابا من ذلك فأجره عند الله بالتأكيد، ولكن أنظمة المجتمع يجب أن تعمل بكفاءة أكبر من إحساسنا الداخلي بالتقوى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات