الفحل والديلر: كيف تتعاطى “قيم المجتمع” المصرية مع مخدرات العيد؟

الفحل والديلر: كيف تتعاطى “قيم المجتمع” المصرية مع مخدرات العيد؟

شهر رمضان مقدس للغاية في الدين الإسلامي، وصقلت العادات الاجتماعية والقوانين العربية المعاصرة هذا التقديس، لدرجة أن الخوف من الدولة والمجتمع في رمضان أصبح أكبر من الخوف من العقاب الإلهي ذاته. وكم من حوادث شهيرة، انتشر خبرها على مواقع التواصل الاجتماعي، تم فيها إدانة المفطر في نهار رمضان، والتنكيل به، ويصل الأمر أحيانا إلى طرده من عمله، أو رفع الدعاوى القضائية عليه. والتهمه الجاهزة والمعلّبة تهديد “آداب المجتمع”، و”قيم الأسرة المصرية”. فويل لمن يجاهر بالإفطار في رمضان، أيا كان دينه ومعتقده، وحتى لو لم يكن متدينا، فليفطر إن أراد، لكن في الخفاء، المهم أن عليه الامتناع عن الأكل والشرب أثناء تواجده في الفضاء العام.

في الظاهر، يبدو شهر رمضان شهر العبادات والتقاليد الإسلامية الجميلة، وصلة الرحم والسماحة، ولكن مع ثقل سياط جلادي الدولة والمجتمع، تحوّل رمضان لشهر يدفع كثيرين للنفاق. وهو السبب الذي يجعل البعض ينفر من اقتراب الشهر، ويتمنى لو ينتهي سريعا. وحتى هذا النفور والكره غير مسموح بالتعبير عنه بصوت مسموع. فكرهك لرمضان، كما تكوّن سياسيا واجتماعيا في زمننا، يعني إلحادك وكفرك، والدعوة لتطبيق الحد الشرعي عليك.

وبعد الثلاثين يوما، الصعبة على كثيرين، يأتي يوم “وقفة العيد”، ويظهر وجه آخر لـ”الشعوب المتدينة بطبعها”، فنرى طوابير أمام محلات مشروبات كحولية شهيرة، حتى قبل أذان مغرب آخر أيام رمضان، ليحصل من يصطفون بها على “قناني ليلة الوقفة”.

في الواقع، أحداث ليلة الوقفة مرهقة جدا لكل من يودون المشاركة بها، أو من يضعهم حظهم العاثر في طريقهم. فهناك رحلة البحث عن المخدرات، في أكثر ليالي السنة ازدحاما بالنسبة لـ”الديليرات”، وهناك تجهيز المكان المناسب لإقامة حفلة الكحول والمخدرات، التي تمتد من ساعات منتصف الليل وحتى صلاة العيد، أي ما يقارب الخمس ساعات.

ما معنى هذا الطقس الغريب، في مجتمع من المفترض أنه متدين ومحافظ؟ وألا يهدد هذا المظهر الاحتفالي لاستهلاك المخدرات “قيم الأسرة”، أكثر من الإفطار العلني في رمضان؟

حلم الجنة: كيف تصبح أقوى من مو صلاح؟

يُوصف شهر رمضان، في حياة النوادي الليلية ومحلات الكحوليات في القاهرة، بـ”Dry” (جاف)، لأنه قانونا يمنع تقديم وبيع الخمور خلال الشهر، بدءا من ليلته الأولى وحتى أذان مغرب أخر أيام الشهر، ليعود بعدها تقديم الكحوليات مرة أخرى. وتستعد أماكن السهر لهذا اليوم باعتباره “high season” (ذروة الموسم)، وكذلك بائعو المخدرات الصغار. ويجري بيع المخدرات في مصر عادة في “دولايب”، تنتشر بكثرة في الأماكن المسماة “شعبية”، وتحتوي على أنواع مخدرات معينة، مثل “الحشيش”، “البانجو”، “الستروكس”، “الايس”، “الترامادول”، “الأبتريل”. وهناك أنواع “أعلى” قليلا، تُباع من خلال ديليرات مخصصين للطبقات المخملية، مثل “LSD” و”الهيروين” و”الكوكايين”.

وباختلاف الطبقات، يعتبر اقتراب العيد الوقت الأكثر انشغالا في السنة في سوق المخدرات، فيزداد سعرها، ويرتفع الطلب عليها، وتقلّ الكمية المتوفرة منها، فيلجأ الديلرات إلى الغش، وبيع أنواع أكثر رداءة. ويصبح الحصول على المخدر صعبا يوم الوقفة، بل الوصول للديلر نفسه. وهكذا تصبح رحلة الحصول على مخدر “جيد”، غير مغشوش، مقابل سعر عادل، تحتاج “خبيرا”، أي مدمنا حقيقيا، معروفا لدى الديليرات، ويفهم جيدا في الأنواع والأحجام. بمعنى أصح، يجب أن تكون قد أضعت معظم سنين عمرك في البحث والجري وراء المخدرات، حتى تتكوّن لديك طبقات عميقة من الخبرة فيه، وشبكة علاقات قوية بموزعي المخدرات، وإلا ستقع ضحية الغش.

يستخدم تجار المخدرات في مصر حيلا ذكية لترويج بضاعتهم. هذا العام مثلا، وبعد الشهرة التي حققها مسلسل “الحشاشين”، تصدر تريند “جنة حسن الصباح”، المليئة بالمخدرات، مواقع التواصل الاجتماعي. فظهر في السوق نوع حشيش جديد، تحت اسم “حلم الجنة”، وأعلن عنه الموزّعون من منتصف رمضان تقريبا. وليست هذه المرة الأولى، التي يستغلّ فيها تُجّار المخدرات الرائج في الموسم الدرامي الرمضاني، لبيع أنواع مخدرات، بسعر أغلى من العادي، فقبلها بيع حشيش” حبيشة”، بعد النجاح الجماهيري الكبير، الذي حصده مسلسل “ابن حلال”؛ ومن بعده حشيش “الأسطورة”، بعد نجاح مسلسل محمد رمضان، الذي يحمل الاسم نفسه. حتى حملة “أنت أقوى من المخدرات” التوعوية، لم تسلم من خطط تسويق الحشيش، وظهر نوع باسم “أنت أقوى من محمد صلاح”.

و”أنت اقوى من المخدرات” حملة إعلانية، تنطلق في رمضان من كل عام، برعاية “صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي”، وكان الوجه الرسمي لها، حتى العام الماضي 2023، لاعب كرة القدم المصري الشهير محمد صلاح، لكونه مؤثّرا في الشباب. تقدّم الحملة الإعلانية كل عام قصصا مصوّرة، موجّهة للشباب، تشرح بها نهاية طريق الإدمان، وتلعب على عامل العاطفة والترهيب. ويختار الصندوق شهر رمضان بالذات، موعدا لإطلاق الحملة السنوية الجديدة، بسبب “وقفة العيد”، التي تعتبر الليلة الأشهر في مصر لتناول المخدرات وشرب الكحوليات، وتليها ليلة رأس السنة الميلادية.

ولكن كيف دخل كل هؤلاء المستهلكون سوق المخدرات المصري الواسع؟

سيرة التعاطي: كيف يتعامل “الفحل” مع طقس المخدر؟

في الأغلب، وحسب الإحصائيات الرسمية وغير الرسمية، يبدأ الإدمان في مصر من سن صغير للغاية، (حوالي 9 سنوات وحتى 15 سنة). ويتعرّف الطفل/المراهق على المخدرات، بالأسلوب نفسه تقريبا: يقدّم لع صديق أول “سيجارة محشية” هديةً، وفي الأغلب تكون الهدية بمناسبة يوم الوقفة، وكل عام وأنت بخير.

هذه السيجارة تساعدك في الدخول في أجواء احتفالية لذيذة، بعد طول حرمان وكبت. وهكذا تنطلق، من مرحلة مبكرة، رحلة شباب مصريين كثر مع مخدرات ليلة الوقفة، كما يقترن مفهوم الرجولة والفحولة بين الشباب، بالقدرة على تحمل مخدرات أكثر. فـ”الخَوَل” هو من يتعب من استهلاكها، ولذلك يتم التشكيك في رجولته، بل وقدراته الجنسية كذلك. في حين لن يكون الوضع آمنا، لأي امرأة أو فتاة، تقترب من تلك التجمعات الذكورية الإدمانية للمراهقين والشباب.

بهذا الشكل تكتمل الفصول المعقدة للنظام الذكوري في المجتمع المصري: حرمان شديد، يصل ذروته في رمضان، ثم تحدٍ لإطلاق القدرات الحيوية، عبر تعاطي المخدرات، أو غيرها من الممارسات، التي غالبا ما ترتبط بالإدمان والعنف، فتتحول الطاقة الجنسية بهذه الاتجاهات، فيما يكون الاتهام بالمثلية أو التخنّث، العقوبة الأكبر، التي تُنزل بصاحبها عنفا معنويا، أو حتى جسديا. مع العلم أن أبطال تلك التحديات قد لا يمارسون كثيرا من الجنس المغاير.  

طقس ديني؛ ممنوعات في وقت معين؛ إقصاء النساء من الفضاء العام؛ الاضطهاد عبر الاتهام بالأداء الجنساني والجندري اللانمطي، ضمن جو عام من الكبت الشديد. هكذا يعمل مفهوم “العيد” المعاصر، في كثير من شوارع المدن المصرية الكبرى.

شبح التعوّد: هل تأقلمت “القيم” مع “كيف الملوك”؟

تتمحور سهرات ليلة العيد على اندفاع الأدرينالين، الذي يصاحب المخدرات من جهة؛ والمخاطرة والحماس، الذي يصاحب ترتيبات هذه الليلة من جهة أخرى، وهي العوامل التي في العادة تساعد على تكوين السلوك الإدماني لدى المراهقين. وبما أنهم يعودون للأجواء نفسها كل ليلة عيد، يواجهون مشكلة التعوّد، و”التعوّد”، في مصطلحات الإدمان، هو أن يعتاد الجسم بيولوجيا على المخدر، وتصبح الكميات المعتادة لا تهب التأثير نفسه، بالتالي يحتاج المدمنون لزيادة الجرعة، حتى يصلوا للتأثير المطلوب، وهكذا حتى يبلغوا أقصى درجات الإدمان، وينتهى الأمر ببعضهم ميتا جرّاء جرعة زائدة من المخدر.

كل عام يسعى كثيرون للحصول على متعة تضاهي، أو على الأقل تساوي، متعة العام الماضي، فيزيدون من كمية المخدرات، ويجرّبون أنواعا جديدة، أكثر خطورة، ويجتمعون بأشخاص أكثر خبرة في المخدرات، حتى تكون ليلة ممتعة. وكثيرا ما تمتلئ أقسام الطوارئ في المستشفيات، بأجساد مئات الشباب، الذي يعانون، حتى الموت، من آثار تلك التجربة.

“م.س”، البالغ من العمر أربعة وعشرين عاما، يؤكد لـ”حيز”: “ليلة الوقفة  بتكون كل الحاجات زحمة، وبنرن على الديلير، مش بنعرف نوصله، علشان كدا بنجهز الحاجة من قبلها بكام يوم، بالأخص لو لينا حبايب في محلات الخمرة، بيجيبوا الحاجة بدري، علشان منندمش يوم العيد“.

ولدى سؤاله إن كان يعتبر نفسه مدمنا للحشيش أو المخدرات بشكل عام، يجيب: “لا هو الحشيش مش إدمان، احنا بس بنشرب ليلة الوقفة، علشان نحتفل بالعيد، وبتكون قاعدة حلوة مع الرجالة، بس أكتر حاجه بتضايقني إني بروح اصلي العيد وأنا شارب”,

على النقيض يصرّح م.ص، ابن الثلاثين عاما: “أنا بشرب حشيش من وأنا عندي 12 سنة، أنا عدّى عليا ليالي عيد كتير. بالأول كان الموضوع فن وأشطة، إنما بعد كده بدأ يبقى في زهق، وحتى في الليالي اللي كان فيها كل حاجه: حشيش، خمرة، مخدرات تأثيرها جامد، نسوان، كان بيجي لحظة، وأنا جوا المود، أفكر أن بس كدة؟ هي ديه السعادة؟ مش جامده يعني زي ما تخيلتها“.

وعند سؤاله هل يعدّ نفسه مدمنا. أجاب: “طبعا، انا مدمن حشيش، مش هقدر أهدا ولا أفكر ولا أنام ولا أشتغل، الا لما أشرب كميات كبيرة من الحشيش

وبالرغم من أن الحكومة المصرية صرّحت، في عام 2020، أنها قبضت على ما يقارب 45 ألف كيلو غراما من الحشيش المهرّب، و 1282 كيلو غرام هيروين، إلا أن هذا لا يشكّل إلا نسبة قليلة من الكميات المستهلكة فعلا، لدرجة أنه أكثر من 90% من مرضى الفصام العقلي، في مستشفى العباسية بالقاهرة، لديهم تاريخ إدماني مع الحشيش. وذلك لأن الحشيش، المصنوع من نبات القنب، والمخلوط بعديد من العناصر الأخرى، التي يطلق عليها “كيميا”، مثل الحنة والعقاقير الطبية، هو المخدر الأشهر في مصر، لدرجة أن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات نفسه كان من محبيه، كما يؤكد عدد من معاصريه. وكثيرا ما ظهر الحشيش في الأعمال الفنية والدرامية في مصر على أنه “كيف الملوك”، بل هناك أغان شعبية كاملة عنه، بالأخص بعد أزمة تواجده في السوق المصري، خلال فترة وزيرة الداخلية الأسبق حبيب العادلي.

هل يهدد “كيف” ليلة العيد “قيم الأسرة” و”آداب المجتمع” إذن؟ لا يمكن الإجابة بـ”نعم”، إذ أنه باب خلفي لكثيرين، يكرّس المنظومات الاجتماعية القائمة، ولا يصطدم بشكل فعلي بالمظاهر “الأخلاقية” الأهم بالنسبة للدولة. خاصة أنه يضع النساء و”الخولات” في مكانهم “الطبيعي”؛ ولا يؤدي لأي تغيير، سوى في أجساد فتيان، قد يعتبر كثيرون وجودهم زائدا. ربما مَنْ يهدد “القيم” فعلا، وما وراءها من سياسات، هو مجرّد شخص يشرب الماء في الشارع، في نهار رمضاني حار.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات