ما فوق الاجتماعي: هل “مدونة الأسرة” معركة الأمة في المغرب؟

ما فوق الاجتماعي: هل “مدونة الأسرة” معركة الأمة في المغرب؟

بعد أزيد من عشرين سنة من دخولها حيز التطبيق، يُقبل المغرب على  إصلاح “مدونة الأسرة”، وهي التسمية التي تطلق على قانون الأحوال الشخصية في البلد. ومثلما هو الحال بالنسبة للدول المغاربية والمنطقة ”العربية”، فإن الحديث عن إصلاح مرتقب للقوانين المتعلقة بالأسرة، يحوّل المجتمع لساحة استقطاب أيديولوجي، بين الداعين للإبقاء على الارتباط بين القوانين الأسرية والقوانين الشرعية الإسلامية؛ والداعين لجعل قانون الأسرة قانونا مدنيا تماما، ينسجم والمعايير الحقوقية الكونية.

وبالرغم من ذلك، يظل نقاش الأسرة أبعد من الصفة الاختزالية الثنائية المذكورة أعلاه، بل يُعدّ مقدمة لأسئلة فكرية عديدة، حول المنظومة الأسريّة، والأفكار المحيطة بها، سواء في السياق المغربي، أو في سياقات مشابهة، خاصة من طرف من يقدّمون أنفسهم راعين لـ”القيم الأسرية الخالصة والجوهرية”.

لكن لماذا بالفعل يُعدّ نقاش القوانين الأسرية مفجّرا للصراعات “الهوياتية” بالمنطقة؟ ولماذا تُعتبر “الأسرة” مؤسسة فوق اجتماعية خالصة، وموضوعة خارج السياق الاجتماعي، من قبل مجموعة من الفاعلين السياسيين؟ وهل تنتمي الأسرة إلى الحيز الخاص، مما يحتم فصلها عن الحيز العام للدولة ومؤسستها القانونية؟

الأمة الخالصة: هل “الأسرة” مقولة اجتماعية؟

ليست هذه هي المرة الأولى، التي يُطرح فيها نقاش “الأسرة” بهذه القوة، داخل الأوساط السياسية والمجتمعية المغربية، إذ سبق لخطة “الإدماج الاقتصادي للنساء”، بداية الألفية، وما أعقبها من إصلاح قانون الأحوال الشخصية خلال الفترة نفسها، تفجير خلافات مجتمعية، تطلّبت تحكيما ملكيا، عبر لجنة خاصة، من أجل إقرار صيغة نهائية لقانون الأسرة، تحت مسمى ”مدوّنة الأسرة”. 

وبالعودة للنقاش الدائر في الوقت الحالي، تشير المذكرات الصادرة، حول مقترحات تعديل “مدونة الأسرة”، خاصة تلك الصادرة عن الرافضين أو المتحفظين على مطالب التعديل الشامل للمدونة، إلى تصوّر أقرب لتصور المؤسسة “الخالصة”، المحافظة على “خلاصها” من “شوائب التحولات المجتمعية”.

ففي مذكرته، التي قدّمها حول تصوره عن مدونة الأسرة المغربية، اعتبر حزب “العدالة والتنمية”، ذي المرجعية الإسلامية، أن “الأمر لا يتعلّق بمجرد إصلاح تشريعي عادي، بل يُمثّل، بعد الدستور، أهم تشريع يجسّد مدى ارتباط المغرب بمرجعيته وهويته الإسلامية، وحرصه على سموها، كما نصّ على ذلك دستور المملكة، بما جعل من مدونة الأسرة عنصرا مُحددا لاستقرار النظام الاجتماعي، وأحد ثوابته“.

تؤكد مقولات ”المرجعية” والهوية” والثوابت” على أن الأسرة جزء مما يمكن تسمية ركائز “الأمة”، وهو الخطاب الذي بني عليه تيار الإسلام السياسي جزءا أساسيا من سياساته، ومن جملة مقولاته أيضا “القضية الفلسطينية”، “الآداب العامة”، “تكامل الأدوار بين الرجل والمرأة”. ومثل هذه المقولات، التي لطالما تحدّث عنها قياديون داخل عدد من الأحزاب والحركات السياسية، انتعشت مؤخرا، لتنعش معها، في السياق المغربي، الخطاب الإسلامي.

انتماء “الأسرة” لمقولات “الأمة” و”المرجعية”، يفسّر الصعوبة التي تكتنف الخوض في الإصلاح القانوني والاجتماعي، وسبب تفجيرها لصراع هوياتي لا ينتهي. فهذه المقولات تُعتبر عادة مفاهيم “فوق مجتمعية “، تعبّر عن تصور أيديولوجي، ينطلق من فكرة أن المجتمع ”وحدة صلبة”، ينطلق أفراده من مبادئ وقيم موضوعة سلفا، ولا يخترقها أي تناقض.

يقودنا هذا التحليل للوقوف عند تحولات كبيرة، عرفتها الأسرة المغربية، تدل على وجودها في قلب ديناميكية مجتمعية، تنطلق من الأسفل للأعلى، وليس العكس.

نساء وأفراد: هل ما زالت الأسرة المغربية تعيش في “الأمة”؟

تشهد منظومة الأسرة المغربية تغيرات جذرية، إذ شكّلت الأسرة النووية، وهي الأسرة المكوّنة من الأبوين والأطفال فقط، أكثر من 68% من الأسر المغربية سنة 2015، في حين لم تتجاوز هذه النسبة 60% عام 2005، أما في عام 1982، فكانت نسبتها 51.1%[1].

كما عرفت نسبة الأسر، التي تترأسها نساء، ارتفاعا ملحوظا، إذ بلغت 16,7% من الأسر، البالغ عددها 8.438.000، وهذه النسبة ترتفع أكثر في الوسط القروي (19,1%)[2].

توضّح هذه الأرقام، انتشار نظام الأسرة النووية في المجتمع المغربي، على حساب نظام الأسرة الممتدة، السائد في السابق.

يحدد الانتقال من الأسرة النووية إلى الأسرة الممتدة، انقلابا كبيرا في الأدوار والبنى الاقتصادية للأسرة، والانتقال من نظام يقوم على “التكافل العائلي”، ورعاية من هم خارج سوق الشغل، خاصة الشباب والنساء، إلى نظام اقتصادي جديد، أكثر تعويلا على قدرة الأفراد، بشكل مستقل عن نظام الأسرة.

إضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع نسبة الأسر، التي تترأسها نساء، ارتفاعا ملحوظا، يفيد بتغيير في منظومة الأسر، من مركزية “الأب”، نحو مركزية “الإعالة”، سواء من طرف النساء وحدهن، أو بطريقة مشتركة.

وليست التحولات الاجتماعية فقط من يجعل من مؤسسة الأسرة في قلب التحولات الاجتماعية، بل الطبيعة التي تقوم عليها التنشئة الاجتماعية داخل منظومة الأسرة أيضا. فإذا كانت الأسرة تتولى عملية التنشئة الاجتماعية، فإنها لا تخلق القيم والأعراف، التي تلقنها للطفل. هذه القيم  تتولّد من مصادر أخرى، مثل الدين والعرف والتقاليد ووسائل الإعلام والمدارس، وهو ما يجعل الطابع الخاص للأسرة النووية في أي مجتمع، يتحدد من خلال النظم الاجتماعية الأخرى السائدة فيه[3]، ويمكن الحديث عن تغيير اجتماعي، يحدث في النظم الاجتماعية الأساسية، وينتقل إلى منظومة الأسرة بعد ذلك. إلا أن المقاربات السوسيولوجية لم تعتبر الأسرة مجرد منظومة، تتأثر بمنظومات التنشئة الاجتماعية الأخرى، بل هي نفسها تؤثر في المنظومات الاجتماعية المختلفة، ضمن علاقة تبادلية.

نُذر التفكك: هل “الأسرة” خارج الحيز العام السياسي؟

وإن كان المنظور “الخالص” والجوهراني قد جعل الأسرة فوق التحولات الاجتماعية، فإنه جعل أيضا من أي تحول يطرأ على قوانينها، مبشّرا بنهاية الأسرة وتفككها، وللمفارقة فإن حركات الإسلام السياسي ليست وحدها المتحدّثة عن ”نهاية الأسرة”، نتيجة التحوّل نحو القانون الوضعي، بل تتقاطع  في ذلك مع تيارات مسيحية في الدول الأوروبية، السبّاقة في تغيير قوانين الأسرة.

فقد قام لويس ديبونالد، وهو منظّر كاثوليكي فرنسي، بالحديث عن تفككك الأسرة، وذلك إبان مراجعة فرنسا لقوانينها الأسرية، بداية القرن التاسع عشر، واعتبر ديبونالد حينها أن “الأسرة تنبني على الأخلاق، بينما تنبني الدولة على القوانين“.[4]

وإذا كانت عبارات ديبونالد تؤكد ما قلناه حول اعتبار كثيرين للأسرة منظومةً خالصة، فإنها تضيف فكرة أخرى، مفادها أن الأسرة لا تنتمي للمجال السياسي العام، أي مجال الدولة والسياسة والقوانين، بل لمجال الأعراف والتقاليد.

محاولة الفصل هذه هي من أبرز ما يؤطر النظرة المحافظة للأسرة، غير أن محاولة الفصل هذه يعوقها التداخل الموجود بين الأسرة، بوصفها منظومة اجتماعية، ومنظومات اجتماعية أخرى، تُعدّ في صلب الحيز العام، مثل التعليم.

يفسّر هذا التداخل محاولة الأنظمة السياسية جعل الأسرة في صلب المؤسسات، التي تفرض من خلالها أيديولوجياتها وسياساتها الحيوية فكرها. فالأسرة مثلا كانت في صلب برامج دول ”الرفاه الاجتماعي” في أوروبا، عبر سياساتها في الرعاية الاجتماعية، وبالتالي نحن هنا أما وجه أخر من أوجه عدم استقلال النظام الاجتماعي الأسري، إذ أنه إلى جانب التأثيرات الاقتصادية، يحضر التأثير السياسي، الذي يمنعها من ان تكون “شأنا خاصا”، وهو تأثير حاضر أيضا لدى التيارات الإسلامية، التي تُشكّل مفاهيم الأسرة جزءا أساسيا من تفكيرها السياسي حول الدولة والمجتمع. وبالتالي فإن اعتبار الأسرة، من طرف الإسلاميين المعاصرين، شأنا أخلاقيا خالصا، يتمتع بثبات متعالٍ في “الأمة”، وبعيدا عن كل تغير سياسي واجتماعي، هو منظور متناقض داخليا.

ولكن، هل يعني عدم اعتبار مؤسسة الأسرة مؤسسة “خالصة”، أنه لا جدوى من إصلاح قوانينها، وإعادة تأهيلها؟ وهل يجب الانتظار حتى تتغير كامل المنظومات الأخرى في المجتمع، كي تتحسن الأحوال الشخصية لملايين البشر؟

بالتأكيد لن تكون الإجابة “نعم”، فإعادة الأسرة إلى “الأرض”، بعد إنزالها من فضاءات “الأمة”، وأخلاقها و”روحها” أو “طبيعتها”، يعني بالضرورة إصلاحها، بوصفها مؤسسة اجتماعية، متفاعلة مع المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. كما أن نزع مثالية المؤسسة الأسرية، التي تُحمّلها كثيرا من الأعباء، سيساعد بتحرير أفراد كثر، من قيود تمنعهم من تطوير أنفسهم، واتخاذ الخيارات التي تناسبهم؛ وسيخفف أيضا من أشكال عنف وقمع متعددة، تعاني منها الفئات الأضعف، التي يبدو أن “الأمة” لا يمكن أن تقوم إلا على استضعافها.

الجدل حول “مدونة الأسرة” معركة سياسة وأيديولوجية وثقافية إذن، وهي لا تتعلق فقط بالمغرب، بل يمكن لتطوير إيجابي للتشريعات في البلد أن يكون ملهما لكل البلدان العربية، التي تواجه أزمة “الأمة” نفسها.  

المراجع

1-Martin segalen et Agnes matiel ; sociologie de la famille ; Armand colin   collection   neuvième édition.

2- مذكرة إخبارية للمندوبية السامية للتخطيط بالمغرب بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، 8 آذار/مارس 2021

 3- الأسرة في المغرب: مقاربة سسيولوجية للبنيات والتحولات،Revue Économie Gestion et Société,  N°1 juillet 2015.

4- الأسرة القروية والتغير الاجتماعي، مقاربة سوسيولوجية الاتجاهات التغير الأسري بالوسط القروي المغربي، عبد الرحيم عنبي، ذ. علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن زهر/أكادير.


هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات