واحة نبيهالية: هل ستجد الدولة المصرية ما تبيعه دائماً؟

واحة نبيهالية: هل ستجد الدولة المصرية ما تبيعه دائماً؟

منذ بدايات العام 2022 تعرّضت الدولة المصرية لأزمة اقتصادية طاحنة، دمرت معها أغلب ما كان يُعرف سابقا بـ”الطبقة الوسطى”، فمع اقتصاد حقيقي هش، يقوم بأكمله على الاستيراد؛ وحتى ما ينتجه، يعتمد بشكل أساسي على استيراد المواد الخام والآلات، وجد النظام المصري نفسه أمام خيارات صعبة، لتلافي خطر الإفلاس، وهي “صعبة” ليس على الطبقة الحاكمة بالتأكيد، ولكن على أغلبية الشعب المصري. خاصة إذا علمنا أن نسبة 30% منه كانت تحت خط الفقر قبل الأزمة نفسها، بحسب إحصاءات الحكومة، هذا فضلا عن نسبة 30% أخرى قريبة من ذلك الخط. ومن المتوقّع الآن أن تدفع  “الحلول” أغلبية الشعب إلى الأسفل، بعيدا عن خط الفقر بمراحل، وهي الحلول يمكن اجمالها في كلمة واحدة: “البيع”.

منذ سبعينات القرن الماضي، والدولة المصرية تعاني من كوارث اقتصادية متلاحقة، ففي نهاية السبعينات من القرن الماضي كانت على وشك الإفلاس، فلجأت الي صندوق النقد الدولي، الذي أدت سياساته لاضطرابات اجتماعية كبيرة، ومنها احتجاجات عام 1977؛ وتعرّضت للأزمة نفسها في نهاية الثمانينات، ولم ينقذها من الإفلاس إلا شطب الديون ودعم الدول الخليجية، التي هوّنت من تأثير برنامج صندوق النقد. معضلة الإفلاس المتكررة هذه تدفع الدولة لرد فعل واحد متكرر، وهو بيع الأصول والممتلكات العامة، سواء شركات، أو مصانع، أو حصص في استثمارات أو أراضٍ، وحتى مؤسسات خدمية حكومية، مثل المستشفيات والمدارس، بل وحتى تسريح العمالة الرخيصة، لدفعها للعمل في دول الخليج، وحتى في إفريقيا. هذه الحلول لم تساعد الدولة في حل أي من أزماتها، لا في السبعينات ولا الثمانينات ولا التسعينات، وهي أيضا لن تحلها اليوم، مع بيع حصص ضخمة من شركات ومصالح الحكومة، وأخرها بيع “رأس الحكمة”، لصندوق الاستثمار الإماراتي. لكن لماذا؟

المعضلة في استراتيجية البيع والخصخصة هي أنها لا تساهم بقيام اقتصاد محلي وطني، أو حتى جلب استثمارات خارجية قوية، لأن الدولة المصرية تُحكم سيطرتها على جميع المنافذ الأساسية للاقتصاد، مثل المؤسسات المالية، فهي تمتلك أكبر البنوك (بنك مصر، والبنك الأهلي)؛ والمؤسسات الخدمية، مثل شركات الكهرباء والاتصالات؛ وغيرها من المؤسسات الأمنية والقضائية، ولا تسمح بوجود مجتمع مدني أو تنافس اقتصادي، ولا تدعم اقتصادها الخاص بأية خدمات ائتمانية، إذ تصل نسبة الخدمات، التي تقدمها البنوك في مصر للقطاع الخاص، بين 20% و30% من جملة ما تقدمه من قروض وتمويل، بينما تحوز الحكومة على نصيب الأسد، أي أن القطاع البنكي لا يُساند الاقتصاد الخاص، الذي يعمل به ما يزيد عن 80% من الشعب، وانما يساند الحكومة، في تمويل ديون ومشروعات غير مربحة، ويقيها من خطر الإفلاس.

باختصار لا تريد الدولة أن تُرخي قبضتها، فتفقد بذلك النخبة الحاكمة سيطرتها، أمام منافسين محتملين، اقتصاديين وسياسيين، لكنها، بديلا من ذلك، تقوم بترحيل الأزمة، وتُحصّل ديونا وموارد مالية، تكفيها للطفو فوق شبح الإفلاس مؤقتا، عن طريق بيع أصول الدولة، التي كانت تستفيد منها قطاعات كبيرة من المصريين، سواء بالعمل أو تلقي الخدمات أو المعاشات.

ربما يمكن تشبيه تعامل الدولة المصرية مع أصولها بطريقة “نبيه بيه” في فيلم “البداية”، وهو فيلم مصري من اخراج صلاح أبو سيف وكتابة لينين الرملي، وجاء ليناقش المعضلة في بدايتها عام 1986، إذ تقود الصدفة العمياء رجل اقتصاد “رأسمالي”، أو يظن نفسه رأسماليا شاطرا، الي السيطرة على جميع موارد واحة في الصحراء، بعدما سقطت الطائرة التي كانت تقلّه ومن معه هناك، في محاكاة ساخرة لنظام حكم مبارك، الذي يتلاعب بالشعب، ويتصرّف بموارد البلاد كما يشاء، فيُحكم قبضته على بعضها، ويتخلّى عن بعضها، بدون رقيب أو حسيب.

هل مصر محكومة بعقلية “نبيه بيه” هذه للأبد؟ وبأي حق تتصرف الحكومة الحالية بأصول البلد الأساسية؟ ما يطرح سؤالاً أخر: من الملّاك الحقيقيون لمصر؟ “الشعب” مثلا؟ ولكن، أي “شعب”؟

أسطورة كروزو: هل ما تزال حكايات الاقتصاد السياسي مقنعة؟

كتب الأديب الإنجليزي دانيال ديفو، في بدايات القرن الثامن عشر؛ ثُلاثيته عن مغامرات “روبنسون كروز”، المغامر الشاب، الذي تمرّد على والده، وقرر أن يصبح بحارا ومستثمرا معروفا. ومن خلال رحلاته، يُنشئ مشروعا زراعيا في أمريكا الجنوبية، ويُتاجر بالعبيد. لكنه، في إحدى رحلاته، يقع في أسر مجموعة من القراصنة، وفي طريقه للهرب منهم، ينتهي به المطاف إلى جزيرة مهجورة (أو هكذا اعتقد)، وكي ينجو بنفسه اضطر للبحث عن موارد على الجزيرة، مثل الأرانب البرية والماشية والفواكه، وابتكر طريقة لقياس الوقت الذي قضاه عليها، وقام بإنقاذ مواد غذائية وأسلحة من السفينة الغارقة، وفي النهاية قام ببناء بيت يسكن فيه.

ألهمت هذه الرواية عددا كبيرا من المفكرين والفلاسفة والاقتصاديين، ومازالت مؤثّرة في ثقافتنا الشعبية حتى اليوم، من خلال أفلام مثل Cast away (2000)، The Martian (2015)، وغيرها من الروايات والأفلام، لكن ما يهمنا هنا هو تأثيرها الطاغي على أهم مفكرين في تاريخ الاقتصاد السياسي، على مدار القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحتى القرن العشرين، فذُكر روبنسون كروز في أعمال كل من فريدريك باستيات، ويليام فوستر لويد، كارل ماركس، كارل بولاني، لودفيج فون ميس، وغيرهم كثيرين، لكن لماذا يقتبس الاقتصاديون من رواية أدبية؟

اعتبرت رواية روبنسون كروز مثالا حيا، ونموذج اختبار تخيُّلي لحالة يتم فيها انتاج رأسمال capital وقيمة Value من قِبل فرد واحد، مُنعزل تماما عن أي مجتمع بشري، أي أنه يمثّل الحالة الأولى المُتخيّلة للاقتصاد، التي يتم فيا خلق شيء أولا، ثم تبادله فيما بعد، لينشأ السوق. يقول أدم سميث في كتابه “ثروة الأمم”: “في الحالات المبكرة والبدائية للمجتمع، التي تسبق كلا من تراكم رأس المال وملكية الأراضي، فإن النسبة بين كمية العمل اللازمة للحصول على أشياء مختلفة، هي الظرف الوحيد، الذي يمكن من خلاله توفر إمكانية لتبادل الأشياء. فعلى سبيل المثال، عادة ما يُكلف قتل قندس ضعف العمل المبذول لقتل غزال، وهكذا يتم تبادل القندس بغزالين“؛ فيما يستدرك ريكاردو، في كتابه “مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب”، بالقول: “وحتى في المرحلة المبكرة، التي يُشير اليها أدم سميث، فان بعض رأس المال من الممكن أن يتم التحصّل عليه ومراكمته من قبل الصياد نفسه، وهو ما كان ضرورة لتمكينه في النهاية من قتل طريدته، سواء قندس أو غزال، وهذه الأدوات (رأس المال) تنتمي لفئة واحدة من الرجال (الصيادين)، بينما العمل المبذول في انتاجهم ينتمي لفئة أخرى (الصُناع)، وهو ما يجعل أسعارها تتناسب مع كمية العمل الفعلي المبذول لإنتاجها، وقابليتها على اصطياد الحيوانات“.

جاءت أفكار ادم سميث وريكاردو عن المجتمع البدائي، الذي يُنتج مباشرة، ويقوم بالمُقايضة، بناءً على كمية العمل المبذول والموارد المستخدمة فيه، بمعزل عن أي بحث أنثروبولوجي دقيق، وانما بناءً على فرضيات عقلية، لا تحمل كثيرا من الصحة، كما يخبرنا الأنثربولوجي الأميركي ديفيد جريبر، في كتابه “تاريخ الدَيّن”، وبالتالي فإن فرضيات سميث وريكاردو، كانت أقرب إلى تبنّي أسطورة روبنسون كروز، بوصفه نموذجا تَخيُّليا واختباريا لما بات يعرف باقتصاد “الرجل المُنعزل”، الذي يُدير موارده  (أصول وعمل)، من أجل تعظيم القيمة المُستقبلية للأشياء، قبل أن تظهر مجتمعات التبادل، التي تتيح تبادل السلع والخدمات في السوق. وخصوصا أن رواية روبنسون كروز تنحو في هذا الاتجاه، ففي البداية يقوم بتخصيص موارد الجزيرة وقوة عمله، من أجل خلق وسائل معيشة مناسبة له، بمعزل عن العالم؛ ثم يُقابل إنسانا أخر هو جمعة (Friday)، فينقذه من جماعة آكلي لحوم البشر، ويتخذه عبدا؛ ثم مع الوقت تصبح التعاملات بينهما متكافئة، وكأنهما صديقان، وهي إشارة، استخدمها الاقتصاديون، للإحالة على قدرة السوق على تغير علاقات القوة والسلطة، لتصبح عملية التبادل والتجارة وسيلة سلمية، قادرة على إذابة الفوارق السلطوية والطبقية بين الشعوب، التي تتاجر مع بعضها.

فرضية إدارة الموارد، ثم التبادل داخل سوق محلي أو خارجي، هي التي تبنّاها أغلب الاقتصاديين الكلاسيكيين، الذين أطلق عليهم كارل ماركس، في كتابه “رأس المال”، اسم “الروبنسونيين”، إشارة إلى روبسون كروزو، الذي تحوّل من مجرد بطل في رواية، إلى نموذج حي، يُدلل على صحة الفرضيات الاقتصادية، ليُصبح هذا التيار السائد فيما بعد، وصولا الي فون هايك، والمدرسة النمساوية وتفرعاتها، وهي التي تقدّر دائماً كل ممكنات السوق، وقدرته السحرية على ضبط العلاقات البشرية.

ومع النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديدا مع انهيار اتفاقية بريتون وودز وفك ارتباط الدولار بالذهب، أصبحت عقلية المؤسسات المانحة، مثل نادي باريس، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، وحتى مؤسسات التقييم الاقتصادي الشهيرة، تعتمد بشكل أحادي على أفكار تيار “الروبنسونيين”، وتعتمد برنامجا وحيدا للإصلاح الاقتصادي، يبدأ أولا من تخصيص الموارد وإعادة موضعتها “Resources Allocation” ثم الاتجاه للأسواق الخارجية، من خلال وضع الدولة المدينة على خريطة أسواق الدين، التي يشير الي قدرة الدولة على الاستدانة، من أجل تمويل مشروعات اقتصادية، تقوم على التصدير والانخراط بفعالية في التجارة الدولية.

هذه هي الوصفة و”الروشتة” الوحيدة لصندوق النقد، الذي دأب على تقديم الوصفات نفسها للدولة المصرية، على مدار ما يزيد عن الخمسين عاما، دون تحقيق أي تقدّم ملحوظ. لماذا لا تتحول مصر وقادتها إلى روبنسون كروزو جديد؟ ما العامل المفقود؟ ربما علينا أن نعتمد على مصدر ثقافي أكثر محليّة لنفهم.

سُلطة نبيه بيه: كيف سيطر علينا إنتاج البلح؟

عُرض الفيلم المصري “البداية” عام 1986، ليضعنا أمام المُعضلة التي تحكم عقلية المؤسسات المانحة، والطبقة الحاكمة المصرية.

يقدّم لينين الرملي قصة أشبه بقصة روبنسون كروز: تتحطّم طائرة ركاب فوق الصحراء المصرية، ليجد ركابها أنفسهم على أرض واحة، كان قد سكنها الانجليز في فترة الاحتلال، ليبدأوا بحثهم عن موارد، يستطيعون من خلالها البقاء على قيد الحياة، فيكتشفوا أن المورد الوفير، الذي يمكنهم أن يتغذّوا عليه، هو البلح، والذي يتحوّل تدريجيا الي عُملة، يتم من خلالها قياس جهد عملهم (على رغم أنه مورد وفير وليس نادرا، في إشارة نقدية إلى فرضية النُدرة). وفي خضم استكشافهم للواحة ومواردها، يبرز دور نبيه بيه (جميل راتب)، وهو رجل سلطوي، يحمل حقيبة أموال، في إشارة لنموذج رجل أعمال مثل روبنسون كروز، لكنه يبدأ بفرض نفسه على سكان الواحة، بوصفه الرجل الأذكى (تم اختيار اسم نبيه من النباهة أو الذكاء). وبوصفه رجل استثمار ناجح، تمكّن من الفوز بسُلطة إدارة الواحة كلها، عن طريق الخداع والصُدفة (أيضا للإشارة إلى الطريقة التي يصل بها حكام مصر إلى السلطة)، فيسمي الواحة على اسمه “واحة نبيهالية”.

يُقسم نبيه بيه سكّان الواحة، عن طريق تقسيم وظائفهم، فالفلاح يقوم بجني البلح؛ ومدرّب كمال الاجسام يتولى إدارة الواحة أمنيا، في إشارة الي جهاز الشُرطة؛ بينما يقوم بقية السكّان بمزاولة أي مهنة يطلبها منهم البيه، فيقومون ببناء سكن خاص به، أو يساعدون الفلاح في جمع البلح وغيره. وعندما يواجه نبيه بيه أي اعتراض، يقوم بتحريض الناس ضد بعضهم، وسجن المحتجين، ويلعب دور القاضي والنيابة، في إشارة لسلطة ديكتاتورية فاسدة، تحكم سيطرتها على الموارد الاقتصادية والمدنيّة بشكل كامل، ولا تسمح بوجود منافسين. وعندما تمت هزيمته بشكل ديموقراطي في النهاية، لجأ إلى إحراق سكن العمال، والواحة بأكملها.

يلفت لينين الرملي انتباه المشاهدين إلى عنصر مفقود في الفرضيات الكلاسيكية للاقتصاد السياسي، وبالطبع في رواية روبنسون كروز، وهو العامل السياسي المحرّك للنخب الحاكمة، فهي باحتكارها جميع الموارد (جهد عمل أو أراضٍ أو منتجات أو خدمات) تشكّل السمة الأبرز لما يمكن أن يكون عليه الاقتصاد بأكمله، وليس فقط التبادل بعد إدارة الموارد.

في أحد المشاهد يذهب سكان الواحة إلى “نبيه بيه” للاعتراض على فصلهم من العمل، فيخبرهم أن اقتصاد الواحة يمرّ بمرحلة تضخّم حاليا، وأن مخازن البلح قد امتلأت إلى آخرها، والمسألة مسألة وقت، فقريبا ستنفذ المخازن، وتعود عجلة الإنتاج للدوران مرة أخرى.

يريد الرملي هنا أن يضرب عصفورين بحجر واحد، ينتقد سلطوية النظام والطبقة الحاكمة المصرية في الثمانينات، والتي هي سبب الأزمة بالأصل؛ وكذلك المؤسسات المانحة الدولية، التي تفرض مسودة عمل “لا سياسية”، تتخيّل فيها حلا سحريا نابعا من أسطورة كروزو الحديثة، لتقدّم صورة يوتوبية عن سوق، يقوم بإلغاء الصراعات السياسية، والحروب، والاستعباد والتقسيم الطبقي والوظيفي والسلطوي. ليعطينا نموذجا أكثر واقعية، يمكننا أن نلاحظه يوميا في مجتمعاتنا المأزومة سياسيا واقتصاديا، بلا أية حلول سحرية في الأفق.

تلقّى الفيلم وقتها نقدا لاذعا، واعتُبر رسالة سياسية مباشرة لنظام مبارك، الذي كان يمر بأزمة اقتصادية سيئة للغاية، ويقترب من الإفلاس، رغم تنفيذه برنامجا سابقا لصندوق النقد، أدى الي افقار نسبة من الشعب. الحقيقة أن فيلم “البداية”، لم يكن موجّها فقط إلى مبارك ونظامه وطبقته، وإنما أراد تقديم وجهة نظره عن بداية تأسيس السلطات الديكتاتورية، التي تحتكر موارد الشعب وجهد عمله، وعن بداية رأس المال. فجاء اسمه “البداية” على مُسمى. يحاول إخبارنا عن أصل المشاكل في بلادنا، وكيف يمكن الخلاص منها، باتباع حلول حقيقية، هي فعليا حلول سياسية، وليست مجرد خيالات الجهات المانحة، وأفكار “نبيه بيه”.

 ولكن بعيدا عن “البيه”، هل يوجد آخرون بإمكانهم إنقاذ الواحة؟

السادة وسادتهم: مَنْ يملك “رأس الحكمة”؟

طُرح سؤال “من يملك مصر؟” لأول مرة في رسالة ماجستير، تحت العنوان نفسه، للدكتورة سامية سعيد إمام. تتبّع الباحثة التحولات الاجتماعية التي طرأت على مصر، خلال الأعوام الممتدة من 1974 حتى 1980، والتي عُرفت باسم “سنوات الانفتاح”، وتحالفت فيها نخبة من الرأسمالية التقليدية، والبرجوازية البيروقراطية، والعناصر الطفيلية داخل الدولة، لخلق طبقة جديدة مُتنفّذة، تسعى لعكس مسار التنمية الصناعية، الذي بدأ مع النظام الناصري في الستينيات، وتعويضه بنظام، يسعى لدمج الاقتصاد المحلي في الاقتصاد الخارجي، عن طريق تشجيع الاستيراد والحد من التصنيع. أي أن النظام السياسي وطبقته الجديدة، أراد تدريجيا الخلاص من الأصول، التي أصبح يعتبرها أصولا خاسرة وغير مربحة (القطاع الصناعي، القطاع البيروقراطي)، وقام بالبحث عن موارد ريعية جاهزة، مثل أموال البترول والغاز، وتحويلات العاملين في الخارج، وايرادات قناة السويس، والسياحة وبيع الأصول والأراضي والديون، لتمويل عمليات الاستيراد، وتحقيق فوائض وعمولات للنخب الفاسدة، المرتبطة به. وربما كان هؤلاء، الملّاك الفعليين لمصر.

في شباط/فبراير، من العام الماضي 2023، قدّمت الحكومة المصرية عرضا بخصخصة نحو اثنتين وثلاثين شركة من القطاع العام، فيما يُعرف باسم “برنامج الطروحات الحكومية”، من أجل تعويض النقص الحاد في العملة الصعبة ،التي يعاني منها الاقتصاد المصري، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. وهو برنامج مشابه لما طُرح في التسعينات والثمانينات، يأتي هذه المرة مترافقا مع استثمارات خليجية متزايدة، وشرائها الأصول المصرية، كما حدث في التسعينات أيضا. لتطفو مشكلة الاقتصاد المصري إلى السطح مرة أخرى، وهي مشكلة بنيوية، لا تحلّها أي زيادة في السيولة كما يتخيّل المصريون، وانما تستفيد منها الطبقة الحاكمة بالأصل.

الخلاص من الأصول التي لا نفع لها، مثل الأراضي الصحراوية؛ أو الأصول التي تشكّل عبئا في الموازنة العامة، أو مسؤولية اجتماعية على الدولة، تحقق فوائض للبلدان الأغنى، على حساب الأفقر، كما يخبرنا المفكر الأميركي ديفيد هارفي، الذي يؤكد أن الرأسمالية المعاصرة، تستخدم أدوات الدَين العالمية، لتحقيق توسّع مكاني، عبر إيجاد أسواق استثمارية بديلة، خارج مناطقها الجغرافية التقليدية، وتقرضها الأموال، مقابل نسب ربح عالية، لينتهي “الحل”، المتمثّل في البيع والخصخصة، إلى تحقيق مكاسب عالية للنخبة الحاكمة والمؤسسات المانحة والكيانات التمويلية الخارجية؛ والضحية هي الكتل الاكبر من شعوب العالم الثالث، كما في مصر والهند وبنغلاديش وغيرها.

هذه مشكلة، لا يمكن حلّها في مصر تحديدا، من خلال اتباع الوصفة المكررة نفسها، ولا حتى بيع “رأس الحكمة” وتحصيل 35 مليار دولار، بينما المسؤولون عن المشكلة الأصلية، من أمثال “نبيه بيه”، مازالوا ملّاك مصر الفعليين.

في آخر فيلم “البداية”، يترك الناس “نبيه بيه” وحده في الواحة، ليستمتع بسلطة على الفراغ، ويجدون طائرة تنقذهم من الضياع في الصحراء. هل لنا أن نحلم بإنقاذ من هذا النوع؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.3 6 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات