مسلسل “الحشاشين”: هل تهمة “الإسماعيلية” إساءة للإخوان المسلمين؟

مسلسل “الحشاشين”: هل تهمة “الإسماعيلية” إساءة للإخوان المسلمين؟

مع  بدء عرض المسلسل التلفزيوني المصري “الحشاشين”، للمؤلف عبد الرحيم كمال، وإخراج بيتر ميمي، وبطولة كريم عبد العزيز، اندلع جدل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، حول جماليات العمل، ودقته في استعراض الوقائع التاريخية، أو الدعوة لاعتباره مجرّد عمل فانتازي مستوحى من التاريخ، فضلا عن مناقشة رسائله السياسية المعاصرة. الغريب أن معظم الآراء المستنكرة بشدة لم تأت من مصر، وإنما سوريا، وبالتحديد مدينة سلمية، وبعض المناطق القريبة منها.

 يستعرض المسلسل، من وجهة نظر منتجيه، قصة حسن الصباح، مؤسس جماعة “الحشاشين”، أي الإسماعيلية النزارية، وهي طائفة إسلامية شيعية، لعبت دورا كبيرا في التاريخ الإسلامي، منذ نشأتها، وأثّرت على المخيّلة، الغربية والشرقية، بشدة.

استغرق إنتاج العمل عامين، وخُصصت له ميزانية ضخمة، تُعتبر الأكبر لعام 2024، مع استخدام معدات احترافية غير مسبوقة، مما دفع إلى اعتباره “إنجازا” في الدراما العربية.

كانت التعليقات النقدية في البداية من النوع المألوف: استخدام اللهجة المصرية “العامية”، في عمل تاريخي يروي فترة تاريخية تعود إلى ألف عام مضى، ويصوّر شخصيات غير عربية، بعد أن اعتاد المشاهد العربي استخدام اللغة العربية “الفصحى” في المسلسلات التاريخية؛ كما أشار البعض إلى تصوير أحداث غير واقعية، تتعلق بقدرات روحانية غير بشرية، يتمتع بها حسن الصباح. ثم انفجر الجدل حول الاستخدام المصري المعاصر لمسألة “الحشاشين”، وتلميح صنّاع العمل إلى أنهم يعنون بها جماعة الإخوان المسلمين المصرية المحظورة.

تطور الجدل فيما بعد، ليصل إلى من يمكن اعتبارهم “حشاشي” اليوم. أي الأفراد من أصول إسماعيلية نزارية، سواء كانوا مؤمنين بالمذهب، أم ينتمون له ثقافيا واجتماعيا فقط، والذين رأوا أن العمل يرسم صورة مشوّهة عن التاريخ، ويعبّر عن نظرة مركزية إسلامية/سنيّة، تستسهل تشويه المذاهب والطوائف الأخرى. وهو تشويه لا يقتصر على إنتاج “صور نمطية”، بل قد تكون له آثار عنيفة، في منطقة لم تنقطع فيه الحروب الأهلية والطائفية.

هل حُمّل المسلسل أكثر مما يحتمل، من الناحية التاريخية والمذهبية؟ أم أن على عمل فني، حريص على إرسال رسائل سياسية معاصرة، احتمال أقسى أنواع النقد السياسي والاجتماعي؟ ثم ما سبب الحساسية الشديدة تجاه عمل مصري، “يشوّه” التاريخ الإسماعيلي؟ ولماذا يبدو “الحشاشون” ناقمين على القاهرة؟

الفدائيون الأوائل: كيف استولى النزاريون على مخيّلة الغرب والشرق  

بحسب دراسة، نشرها معهد الدراسات الإسلامية الإسماعيلية، كتبها الدكتور فرهاد دفتري، فإن لقب “الحشاشين” تم استخدامه من قبل الصليبيين وأوروبيي العصور الوسطى، للإشارة إلى الإسماعيليين النزاريين في سوريا، مع بداية القرن الثاني عشر. وكان الإسماعيليون وقتها تحت قيادة الداعية سنان راشد الدين، الذي كان يُعرف بـ”الشيخ الكبير للجبل”. أي أن اسم “الحشاشين” لم يلتصق بالنزاريين إلا بعد عقود من زمن حسن الصباح، الذي ولد في القرن الحادي عشر.

بدأت شهرة الإسماعيلين النزاريين في أوروبا، باسم “الحشاشين”، بعد أن ذاع صيت فدائييهم، عبر شائعات مبالغ بها، عن استهدافهم واغتيالهم الاحترافي لأعداء طائفتهم، ومنهم أمراء صليبيون.  

وقد حمّل دفتري الأوربيين المسؤولية، عن اختلاق ونشر أساطير عن الممارسات السرية للجنود الفدائيين الإسماعيليين، لدرجة أن كلمة “اغتيال” Assassination، في اللغة الفرنسية ثم الإنجليزية، مستقاة من كلمة “الحشاشين”، وصارت كلمة “حشّاش” تشير الى القاتل، الأمر الذي استخدمه مسلمون من طوائف أخرى لاحقا، في وصف الإسماعيليين، بهدف الانتقاص منهم وازدرائهم.

لا يوجد أي  تفسير موثوق لربط النزاريين الإسماعيليين بالحشيش، هنالك فقط روايات الرحالة الأوروبي ماركو بولو وأشباهها، عن الجنة الزائفة، التي وعد بها حسن الصباح أتباعه، وهم تحت تأثير نبتة القنّب، وبولو لم يعاصر الصباح بالطبع، ولا يملك أية معرفة فعلية بالمذاهب الإسلامية وتاريخها وطقوسها.

شاعت روايات عديدة عن أن كلمة “حشاشين” تشير إلى الأعشاب، التي كان يتاجر بها الإسماعيليون في الجبال؛ أو من مفردة “أساسين”، أي مؤسسين قلعة آلموت؛ أو “حساسان” نسبة الى حسن الصباح. يرجّح الباحثون الإسماعيليون المعاصرون حاليا أن يكون أصل التسمية جاء من ضرورة وجود تفسير منطقي لولاء الفدائيين النزاريين الكبير لقادتهم، واستعدادهم للتضحية بأنفسهم، ما دفع الغربيين آنذاك إلى الاعتقاد بأن القادة كانوا يستخدمون مواد مخدرة، لضمان طاعة الفدائيين، رغم عدم وجود أي دليل على ذلك. ثم جاء ماركو بولو ليضيف نسخته المتخيّلة عن “حديقة الجنة السرية”، التي يتلقّى فيها الجنود النزاريون تدريباتهم. ومنذ ذلك الحين، تم تصوير الإسماعيلين النزاريين على أنهم “جماعة شريرة من القتلة المُخدّرين” في المصادر الغربية، التي لم تقصّر أحيانا في نقل بعض التهم والشتائم من مصادر إسلامية معادية للنزاريين، وإن كانت المسؤول الأساسي عن الصورة الخرافية، التي يتداولها البعض اليوم.

ولكن ما المشكلة في أن يستقي مسلسل مصري من أساطير غربية وإسلامية عن طائفة، يظن كثيرون أنها اندثرت؟

البحث عن المُعز: لماذا أنكرت القاهرة الإسماعيليين؟

يعيش الإسماعيليون اليوم  في 35 دولة حول العالم، ويبلغ عددهم حوالي 12 إلى 15 مليون. وتعتبر مدينة سلمية، التابعة لمحافظة حماة في سوريا، عاصمة  الطائفة الإسماعيلية الشيعية في العالم، لأسباب تاريخية كثيرة، منها أنها كانت دائما مركزا أساسيا للدعوة الإسماعيلية منذ بدايتها، وقبل انشقاقها إلى مذاهب كثيرة. بينما يعيش كريم آغا خان، الإمام التاسع والأربعون للطائفة الإسماعيلية النزارية، حاليا في باريس. ومن هؤلاء الملايين من النزاريين المعاصرين، شعر كثيرون بالاستغراب والانزعاج، من تبنّي مسلسل عربي لرواية غربية غير موثوقة، خاصة في ظل اتهامات العرب والمسلمين الحالية لـ”الغرب” بالإسلاموفوبيا، وتنميط المسلمين، وربطهم بالإجرام والتطرف.

قد يكون أهالي مدينة سلمية السورية أكثر من خاب أملهم، مع بداية عرض المسلسل، لأنهم يطلقون على مدينتهم “أم القاهرة”، نظرا لأن القاهرة نفسها مدينة بناها الفاطميون الإسماعيليون، وكانت عاصمة الثقافة الإسماعيلية لعقود طويلة. فقد أسس المعز لدين الله، الخليفة الفاطمي الرابع، والإمام الإسماعيلي الرابع عشر، مدينة القاهرة في عام 969، حيث نشطت الترجمة والحركة الفكرية والعلمية، ومازالت الآثار في القاهرة، مثل الجامع الأزهر ودار الحكمة وشارع المعز، شاهدة على العصر الفاطمي، إضافة إلى مشاريع التنمية، التي تقوم به مؤسسات الآغا خان في مصر حاليا.

كل هذا دفع الإسماعيليين المعاصرين، إلى استنكار اعتبار طائفتهم في مصر “أول تنظيم وظيفي في تاريخ الدين الإسلامي، والنسخة الأولى من تنظيم الإخوان المسلمين الارهابي”، على الرغم من انتساب الإسماعيلية الى الشيعة، والإخوان المسلمين إلى السنة؛ كما رأوا تشبيه مؤسس الفرع النزاري من مذهبهم، حسن الصباح، بمؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، سخيفا إلى حد كبير؛ كذلك أن يتم وصف جماعتهم بأنها “إرهابيو الماضي” و”تتار المسلمين“.

وعلى الرغم من أن المذهب النزاري انشقّ عن خلافة القاهرة الفاطمية الإسماعيلية، بعد أن بايعت الإمام المستعلي وليس الإمام نزار، إلا أن مدينة سلمية السورية بالتحديد، تفتخر بأنها مركز تأسيسي لمختلف المذاهب الإسماعيلية، قبل تفرعها وانشقاقها.

كل هذه العوامل دفعت النزاريين المعاصرين للاستغراب: لماذا يتم تشويه الإسماعيلية في القاهرة بدلا من تكريمها؟

دراما “الجهات السيادية”: ما “شريعة” صناعة الثقافة الجماهيرية العربية؟

يرى تقرير لصحيفةنيويورك تايمز“، نشر عام 2022، بأن هنالك في مصر محاولة لإعادة كتابة التاريخ، من خلال صناعة الدراما، التي تخضع لسيطرة الرئيس السيسي. وهو ما يتفق معه من يؤكدون أن هذا المسلسل من صناعة “المخابرات المصرية“، نظرا للميزانية الضخمة التي خصصت له، في بلد يعاني أزمة اقتصادية، قد تكون الأسوأ منذ أعوام طويلة جدا، ويعيش على الديون والمنح الدولية.

وفقا لهذا التحليل فإن “الحشاشين” هو محاولة للتنويع على صيغة الهجوم على الإخوان المسلمين المصريين، الذين سبق استهدافهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر كثير من المسلسلات. الطريف أن بقايا الإخوان المصريين، استنكروا “شيطنتهم“،  عبر ربطهم بـ”الحشاشين”. يبدو هنا أن “الشيطاني” كل ما هو غير متسق مع العقيدة الرسمية الصحيحة في مصر، التي تتنافس عليها الدولة والإخوان.  

مخرج العمل أصر على أنه يستلهم من التاريخ، والمسلسل ليس وثيقة تاريخية، إلا أن  الدكتور خالد حسين محمود، المتخصص في التاريخ، أكد أنه قد قام، برفقة فريق من زملائه، بمراجعة العمل على مدى ستة أشهر، وقام بتعديل جميع الأخطاء التاريخية فيه، لكن فريق العمل أصر على الإبقاء على المغالطات، مما يوحي بأهداف “خفية ومتعمّدة”، برأي محمود.

ربما يكون من العدل عدم الحكم على عمل فني قبل نهاية عرضه بالكامل، أو توجيه اتهامات لِصنّاعه بأنهم مدسوسون من المخابرات المصرية، لتشويه سمعة جماعة سياسية أو طائفة، أو تزوير التاريخ. إلا أن المشكلة الأساسية تكمن في صناعة ثقافة جماهيرية، ترسم صورا أحادية عن التاريخ، وعن مجموعات بشرية معاصرة، تحت سيطرة أمنية وسياسية كاملة، لا تتيح لبقية الأطراف تقديم روايتها وفنها المستقل.

لم يحتجّ الإسماعيليون المعاصرون مثلا على رواية “سمرقند”، للكاتب الفرنسي اللبناني أمين معلوف، رغم انها قدّمت صورة أسطورية وغير دقيقة عن حسن الصباح، من وجهة نظرهم، وذلك لأنها نشرت في بلد ديمقراطي، يتيح حرية التعبير، وتعددية الأصوات، وبالتالي يمكن تقديم روايات وصور أخرى عن الصباح والإسماعيلية، وأي شخصية أو مذهب آخر، بحرية. أما أن تحتكر “جهات سيادية” تقديم الخطاب، بما يتسق مع روايتها القومية والسياسية، فهذا يدخل في باب العنف المعنوي، والاضطهاد الأيديولوجي، الذي يمهّد للعنف المباشر.

الأعمال الدرامية تؤثر في آراء عامة الناس، وتقوم بتوجيههم وتحريضهم. وربما يكون الجدل حول “الحشاشين” مناسبة  للتفكير بثقافتنا العربية المعاصرة، بوصفها ثقافة أحادية، قمعية، مرتبطة بدول، لم تنقطع يوما عن تشويه وتهميش فئات كثيرة، لحساب تقديم نسختها عن التاريخ والحاضر والهوية، وكل قيم الحق والخير والجمال.

بالنسبة للإسماعيليين المعاصرين، فهم يفتخرون بأنهم من أكثر طوائف الإسلام انفتاحا، وقد ظلّت طائفتهم، حتى وقت قريب جدا، الطائفة الوحيدة في العالم التي تؤم فيها النساء والأطفال الصلاة، قبل أن تحاول بعض النسويات الغربيات إنشاء كنائسهن؛ كما قام إمامهم “الحسن على ذكره السلام”، منذ القرن السادس الهجري، بإلغاء أحكام الشريعة، التي ما يزال يدور الجدل حولها حتى اليوم؛ إضافة لذلك يتذكرون دائما منح جائزة الآغا خان للعمارة، في العام 1980، لفندق موغال شيراتون في مدينة اغرا الهندية، الذي يجسّد روح العمارة المغولية. علما أن المغول هم الذين فككوا الدولة النزارية في سوريا، وقتلوا من الإسماعيليين اعدادا كبيرة، وهدموا قلاعهم. وربما كانت تلك محاولة لعدم ربط الفن بالماضي ومآسيه، وبناء جسور تواصل سلمية في الحاضر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.9 9 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات