عُرض في السينمات الأميركية، في آذار/مارس من العام الحالي 2024، فيلم Dune: Part Two،  (كُثيّب: الجزء الثاني)، وخلال شهر فقط، حقق الفيلم انطباعا إيجابيا، بشكل فاق التوقعات، وحصد ما يقارب 600 مليون دولار عالميا، وهو نجاح يماثل ما حققه الجزء الأول من الفيلم، عام 2021، حين حصد ست جوائز أوسكار، وحقق إيرادات، جعلته الفيلم العاشر الأكثر تحقيقا للأرباح في ذلك العام. الفيلم من بطولة تيموثي كالمت وزندايا وربيكا فيرغسون وخافيير براديم، من اخراج وسيناريو دينيس فيلناف.

يقتبس فيلما Dune من سلسلة كتب خيال علمي، للكاتب الأمريكي فرانك هيربرت، الذي كتب الجزء الأول من السلسلة عام 1966، ثم أتبعها بخمسة أجزاء أخرى، وعدّ كثير من النقاد رواياته من أفضل ما كُتب في مجال الفانتازيا والخيال العلمي، وقورنت مع سلسلة “سيد الخواتم” lord of the rings لتوليكن. هذه الشهرة ساعدت على اقتباس فكرة السلسلة في أكثر من عمل سينمائي وتلفزيوني، أولها فيلم من إخراج الأميركي الشهير ديفيد لينش عام 1984، ثم عملان تليفزيونان عام 2000 و2003.

فرانك هيربرت

تحكي السلسلة قصة عن عالم شديد التعقيد والتداخل، ففي المستقبل البعيد يحكمُ امبراطورٌ المجرة، مع مجلس من قادة العائلات الأكثر تأثيرا ونفوذا في الكون، ومعا يقتسمون السيطرة على موارد كوكب أراكيس Arrakis، وهو كوكب صحراوي، لكنه مورد للعنصر الأهم في المجرة، وهو التوابل، المادة التي تساعد على تشغيل السفن الفضائية، التي تنقل المعدات والأفراد والتجارة من كوكب لأخر. باختصار “من يتحكّم في التوابل، يتحكّم في العالم”. في هذه البنية الهرمية للسلطة والاستعمار تنشأ عدد من الصراعات والخلافات، بين بيتين من أهم حكام المجرة: بيت أتريديس بقيادة دوق ليتو أتريديس؛ وبيت هاركونين بقيادة البارون فلادمير هاركونين، وفي خضم هذا الصراع على الموارد والسلطة والنفوذ تبدأ قصة السلسلة.

إلا أن سلسلة Dune لا يمكن اعتبارها مجرد سلسلة فانتازية مسلّية، بل تقدّم نقدا قويا وشرسا لكل ما نعرفه عن الحتميات السياسية، التي يؤمن بمثلها كثيرون اليوم، خاصة في العالم العربي، وتبيّن سلطة الدين على الحياة والمجتمع، كما تقدّم نقدا لما يمكن أن تتسبب به التقنية من تدمير وخراب.

هل يمكن إذا لسكان المنطقة العربية أن يفهموا دروس Dune أكثر من غيرهم؟ وما هي الحتميات السياسية التي ينتقدها الفيلم؟ وما العقائد والسلطات التي يقدّمها، ويوحي بضرورة التخلّص منها؟

صحراء وتوابل: إلى أي مدى يعرف هيربرت العرب؟

تدور أحداث الفيلم والرواية في كوكب أراكيس، المعروف باسم Dune، وهو كوكب صحراوي يعيش عليه سكان أصليون، يُطلق عليهم اسم “Fremen”، لهم ديانة خاصة ولغة خاصة، في ظروف حياة قاسية وندرة مياه. يمتلك هذا الكوكب بين رماله وفرة من عنصر التوابل، وهذا العنصر له قيمة تبادلية واستعمالية عالية جدا، فمن يمتلك السيطرة على الكوكب وعنصره الفريد من نوعه، يصبح الأغنى في المجرة، بل ويمكنه حكمها أيضا.

يخوض سكان هذا الكوكب صراعا شرسا ضد مستعمريهم منذ مئات السنين، ومن خلال تقنيات وأدوات طوروها في الحرب والتخفّي والملاحة والبقاء على قيد الحياة، أمكنهم أن يواجهوا جيش آل هاركونين المتوحشين، الذين سيطروا على موارد الكوكب لسنين طويلة، واستفادوا من بيع التوابل في إثراء أنفسهم، على حساب السكان الأصليين، وكانت لهم مصلحة أساسية في إبقاء الكوكب على حالته تلك، صحراءَ جرداء بلا أي أمل في الحياة.

لذلك بحث السكان الأصليون “الفريمين” عن مُخلّص ومهدي مُنتظر، يُخلصهم من نير العبودية للاستعمار، وبحسب النبوءة الدارجة بينهم، سوف يأتي في يومٍ من الأيام شابٌ ووالدته، يمتلكان قدراتٍ سحرية، تمكّنهم من أن يعيشوا بين الفريمين كما لو كانوا منهم، وسيُوحِّد الشاب شمل الفريمين، ويقضي على مستعمريهم، ويحوّل الصحراء الجرداء الي جنة غنّاء، يُقيم فيها مملكة العدل، وينصر المظلوم.

نعرف من سير الرواية مدى اطلاع الكاتب فرانك هيربرت على أدبيات التراث الإسلامي، وخصوصا في منطقة شمال أفريقيا، وكيفية ارتباط مفهوم “المهدي المنتظر” بأكبر جناحين في الدين الإسلامي (السنة والشيعة)؛ ومن جانب أخر جاءت الرواية في سياق ميلاد أنظمة التحرر العربي من الاستعمار، سواء في مصر أو الجزائر أو ليبيا وغيرها، عندما علّقت الشعوب العربية كل آمالها على مخلصيها الجدد، وسلّموهم مقاليد الحكم والإدارة دون أي تشكك، وتعاملوا مع “المحررين” وفق المخيّلة العربية القروسطية، التي تنظر إلى الحاكم بوصفه ولي الأمر الذي لا ينازعه أحد، ويُنتظر منه أن يحرر الناس ويوحدهم، كما يفعل المهدي المنتظر أخر الزمان.

نبوءة الفريمين، التي تبدو بملامح عربية، تأخذ في التحقق مع لجوء بول أتريديس لهم، بعدما غدر الإمبراطور وآل هاركونين بوالده، فيتولى الحكم، ويتحالف مع السكان الأصليين من أجل الخلاص من مُحتليهم.

يلاحظ قادة الفريمين مدى مهارة الشاب وشجاعته، وثقته بنفسه حد الجنون، فهو كان قد تعلم على يد أمهر المعلمين من أجل تولي الحكم، فأخذوا يقارنون بينه وبين نبوءتهم عن المُخلّص، ورغم رفضه تلك النبوءة وتشككه فيها، إلا أن بول اضطر في النهاية أن يقبلها على مضض، ويبدأ تدريجيا التصرّف بوصفه المهدي.

يقدّم فرانك هيربرت نقدا لفكرتين أساسيتين من خلال القصة، النقد الأول للحتميات السياسية التي تحكم مخيلة سكان الكوكب الصحراوي المُستَعمرين؛ والنقد الثاني موجّه ضد النظرة الدينية للعالم، التي تراه من خلال حديّة اللونين الأبيض والأسود، من أجل خدمة مصالح المنتفعين.

حروب خلاصية: هل يمكننا نقد المهدي المنتظر؟

نكتشف، خلال الجزء الأول من الفيلم والرواية، أن نبوءة الفريمين مجرد خدعة، فالديانة الرسمية للمجرة تسيطر عليها جماعة دينية اسمها “بيني جيسريت”، وهذه الجماعة من الأخوات الساحرات، يعملن بشكل خاص على تأهيل أبناء العائلات الكبيرة للحكم، من خلال سلطتهن الدينية. فيستفدن من وجودهن قرب العائلات الثرية من ناحية؛ ويقدّمن نوعا من الدين، الذي يؤبّد القائم ويحافظ عليه، من ناحية أخرى.

تقول المرشدة الروحية للجماعة الدينية :”هناك على كوكب Dune لا يمكن العيش بدون إيمان“. إيمان الفريمين المُستعمَرين بميلاد مُخلِّص هو ما يبقيهم منتظرين دهورا طويلة، دون أن يحدث أي شيء حقيقي، ما يؤدي لتكوين مجتمع غير فاعل بشكلٍ كبير، لأن النبوءة لم تتحقق بعد.

تُذكرنا هذه الحالة بفنتازيا انتظار المُخلِّص، الذي يحكم الشعوب العربية، فمع اندلاع موجات التحرر الوطني، خلال منتصف القرن الماضي، لم تتدخّل الشعوب والمجتمعات بشكل فاعل، من أجل تصحيح مسارها وأخذ زمام الأمور، وانما انتظرت ظهور مُخلص يحقق لها ما تريد، وطال انتظارها، حتى أفرز “التحرر الوطني” كل الأنظمة العسكرية الحاكمة منذ حينها حتى الآن. وحتى مع ثورات “الربيع العربي”، لم تتحرر الشعوب العربية من سطوة تلك العقلية المُنتظرة للمهدي، لتأتي واحدة من أشهر أغاني تلك الفترة “مطلوب رئيس”. فماذا حدث بعدما جاء الرئيس المُنتظر إلى مصر؟

لا يمكن نقد المهدي المُخلّص، تلك هي حِكمة فرانك هيربرت، فما أن يُساير بول خرافات السكان الأصليين، ويُمثِّل كونه المهدي أو المسيح المنتظر، ويتقلّد الاسم الذي يعطونه إياه (مؤدّب)، حتى يقرر الخلاص من المستعمرين ومن الإمبراطور نفسه، ويصبح هو الامبراطور والمستعمر الجديد، لكنه هذه المرة إمبراطورا بسلطة إلهية، لا يتخيل إمكانية نقده أو محاسبته، وكل من يخرج عليه هو كافر ومهرطق في المقام الأول.

تذكرنا هذه الحالة بموقف الرئيس المصري الحالي، عندما أظهر امتعاضه من طلب مجموعة من الشباب رحيله عن الحكم، تحت هاشتاغ “ارحل يا سيسي”. لم يفهم الرجل كيف يمكن لأحد أن يُطالبه بالرحيل، وهو الذي يتحدث إليه لسان الغيب، وجاء لتحرير مصر من سلطة الاخوان والجماعات الإسلامية والمؤامرات الدولية التي لا تنتهي، التي هددت حياة عموم المصريين. ينظر السيسي لنفسه باعتباره أسطورة دينية، وشخصا انتظرت مصر وشعبها قدومه لعقودٍ وعقود، فكيف بالأحرى أن ينتقده أحد، أو يطالب برحيله، وهو الذي ما لبث أن أكد مرارا وتكرارا أن من يحاسبه هو الله فقط، وليس المواطنون الفانون؟

تتجاوز المعضلة حدود النبوءة والسُلطة غير المُتنازع عليها للمُخلِّص، من ثم تصل لنوع الصراع نفسه، فبمجرد أن ينتصر بول المهدي على الإمبراطور القديم، يُعلن حربا ضد كل بيوت الحكم والعائلات المتنفذة الأخرى. هو لا يهتم بنهضة كوكب Dune، أو السلام في أملاكه الجديدة، كما بشّر المؤمنين به، بل يقضي على ملايين من البشر، وعشرات الكواكب تصبح غير صالحة للسكن.

إنه استنساخ لطريقة عمل الجماعات العقائدية المعاصرة، التي رأت في نفسها مُحررة الشعوب، وقضايها العادلة، وفي سبيلها تصبح كل الوسائل مشروعة، مهما كانت إجرامية.

ضد البطل: لماذا يجب علينا الشك في قاداتنا؟

أثناء الثورة المصرية عام 2011 خرج عمر سليمان، نائب الرئيس المصري آنذاك، بتصريحه الأشهر “الشعب المصري غير مؤهل للديموقراطية”، وعلى رغم سخرية الثوار منه، إلا أنهم برهنوا على اعتقادهم بهذه المقولة، ففي البداية قبلوا حكم المجلس العسكري، المُعيًّن من قِبل الرئيس المُقال نفسه؛ ثم سعوا بكل السبل للتواصل مع أعداء حكم الاخوان، وتأييد الانقلاب العسكري ضده؛ من ثم ازدهرت مقولات وحتميات سياسية أخرى، مثل “لا يمكن لحاكم مصر إلا أن يكون عسكريا”. وحتى في البلاد التي تحولت ثوراتها إلى حروب أهلية، كما في سوريا واليمن وليبيا، أصبحت الولاءات السياسية للميليشيات والطوائف المُسلًّحة الحتميات السياسية الوحيدة، التي يؤمن بها الجميع، فبمجرد أن ترفع الميليشيا شعارات خاصة بفئة معينة، أو تتبنى “قضايا الأمة العادلة” في معاداة الغرب وإسرائيل، تُصبح سيدةً على رعاياها، دون أي مُنازعة ممكنة.

نرى هذا الدرس في فيلم Dune، فالمُستعمر السابق للكوكب، بارون هاركونين، أخذ في تجهيز وريثه للحكم، ولكي يقدّمه إلى الرعايا المُستَعمرين أخذ يُجمّل صورته (تشبه للمصادفة قصة مبارك وابنه جمال، التي حدثت بعد كتابة الرواية بعقود)، فحاكمكم الجديد لن يكون متوحشا مثل أخيه رابان، ولكنه الشاب الوسيم، الذي يملك قدرة تحرير الكوكب من وحشية وهمجية المُستَعمر (تشبه للمصادفة أيضا قصة حافظ الأسد وابنيه باسل وبشار). الأمر نفسه يتكرر مع بول (المهدي المنتظر) فرغم كونه حاكما جيدا ورحيما للكوكب الجديد، إلا أنه يتحوّل تدريجيا من مُحرر إلى مغتصب للكواكب الأخرى، وقاتل لا يرحم، يتسبب في مذابح لا تنتهي. وعندما يتطلب منه أحد خصومه الرحمة، يقول: “الرحمة كلمة لم أعد أفهمها”. فتصبح كلمته تلك القانون الذي يحكم الإمبراطورية الجديدة، وكل من يُفكّر في مجرد مخالفة أوامره يُقتل، حتى سكان كوكب Dune انفسهم، ما أن يفكروا في التمرد على الحكم الديني المُطلق لبول المهدي، حتى يلقوا المصير نفسه، الذي لقيه أعداؤهم على يديه.

يقول فرانك هاربرت، على لسان أحد الفريمين: “لا توجد مصيبة يمكن أن تحلّ بشعبك أكثر من أن يقعوا في يد بطل“، فكي يصبح الشخص العادي بطلا، عليه أن يؤمن أن لديه قدرات خاصة، ويؤمن بفكرة لها قيمة أكثر من قيمة كل البشر. عندها يتحوّل البطل المُخلِّص، الذي استدعاه الناس، إلى “سرطان”، كما وصف أحد الفريمين بطلهم المنتظر، بعدما شاهدوا ما تسبب به من كوارث.

يطلب منّا هربرت ألا نضع كثيرا من الثقة في قاداتنا، وهم يُخضعون البشر لسلطتهم، فحيثما وجدت طبقة حاكمة، تستخدم الدين أو التحرر من الاستعمار، أو الاثنين معا، فإنها بلا شك تفعل ذلك لمصلحتها الخاصة. وكما فعلت العائلات النافذة في الإمبراطورية، التي استغلت شعوبها والشعوب المستعمرَة لإثراء نفسها، كذلك فعل بول، البطل المُخلِّص، الذي استغل سذاجة السكان الأصليين (الفريمين) وقبولهم بنبوءة مكذوبة، من أجل أن يكونوا جنودا في جيشه، ووقودا لتسعير حربه، فيصبح امبراطورا، من يم يُخلِّد نفسه، بوصفه إلها للمجرة كلها.

 يطلب منا هربرت أن نتعامل مع كل ما نراه واضحا، سواء دينيا أو سياسيا، بعين الريبة أولا، وأن نُقيٍّم الأمور من منظور الفائدة، التي من الممكن ان تحققها الطبقة الدينية والسياسية، مما تدّعي في خطابها، مهما كان شجاعا ومحمّسا، ومهما كان عادلا وربّانيا؛ وثانيا يطلب منا ألا ننتظر مُحررا، بناءً على نبوءة مُتوهّمة، وانما أن نمتلك زمام أمورنا، ونفعل ما لصالحنا، بدون طبقة من الأسياد أو المُحررين.

قد يظن البعض أن هذه الأفكار باتت بديهية في عصرنا، ولكن كل ما حولنا يشير فعلا إلى أن تكرارها يظلّ ضروريا، إذ أن كثيرا من الناس ينجرفون بسهولة للهتاف للمخلّص.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.2 11 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات