النوستالجيا السنوية: لماذا كان “رمضان زمان” أحلى؟

النوستالجيا السنوية: لماذا كان “رمضان زمان” أحلى؟

في كل عام، وحتى قبل إعلان ثبوت رؤية هلال رمضان، تتكرر عبارة مُحددة بين كثير من الأشخاص، سواء في أحاديثهم، أو عبر منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي: “ياريت رمضان زمان يرجع”. هذه العبارة، ومعها عبارات أخرى، تدلّ على الحنين لـ”رمضان” مُعين، هو ذلك الخاص بـ”زمان”، لأنه كان “أحلى”. وكل مفردة من هذه المفردات تستحق علامة استفهام: أي رمضان؟ وأي زمان؟ وما المقصود بـ”أحلى”؟ لا نعرّف على وجه التحديد.

لكن، هذه العبارة، التي صار ترديدها أشبه بالطقس الرمضاني، تفيد على الأغلب بمقارنة الأوضاع، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بين الحاضر، و”زمان” لا يُحدد تاريخه، وإن كان على الأغلب غير مغرق في التاريخ. فالحنين هنا ليس عقائديا بحتا، تجاه طقوس وعبادات السلف الصالح، وإنما حنين فلكلوري، غالبا ما يرتبط بالثقافة الجماهيرية في عقود نهاية القرن الماضي، وبالتحديد الثقافة المرتبطة بالتلفزيون، الذي لعب دورا كبيرا في رسم السمات الفلكلورية والجمالية لرمضان.

هنالك جانب اجتماعي لا يقل أهمية، وهو “لمّة” الناس، الذين كانوا فيما مضى، على ما يبدو، يعانون من ضغوطات أقل، على مستوى العمل والمعيشة، وأقل فردانية من اليوم.

ليس “رمضان” الذي اختلف إذن، بل الشرط الذي نفهم فيه معناه. فما المعنى الذي اختلف؟ وهل رمضان زمان كان أحلى فعلا؟

ضياع “الشعبي”: هل السر في البساطة حقا؟

ربما كانت “البساطة” من أول أسباب الحنين، فقد كانت الأجواء الرمضانية، حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي، بسيطة بالمقارنة مع أجواء اليوم. يبدأ الاحتفال منذ الأيام الأخيرة لشهر شعبان، لا سيما في الأحياء “الشعبية”، على هيئة تجمعات الجيران، لأداء مهام طقسية واحتفالية معيّنة، حسب الأعمار. الأطفال لتصميم زينة، ربما بأوراق مقصوصة من كتبهم ودفاترهم المدرسية القديمة؛ والكبار يجمعون الأموال من أهل المنطقة، لشراء اللمبات الصغيرة وتعليقها.

لا يمكن البت فيما إذا كان هذا المشهد عامّا حقا، أم رسّخته الصور التلفزيونية، حتى حسبنا أنه وجد في كل شارع وحي شعبي. إلا أن الأساس أن هذه المظاهر لم تعد “طبيعية”، فالتجمعات السكانية، خاصة في المدن الكبرى، ليست فضاء آمنا، خاصة للأطفال والنساء. كما أن الهموم الحياتية والمادية لم تعد تمنح الوقت والتفرّغ الذهني، لأداء مثل تلك الطقوس الاجتماعية. ومن ما يزال حريصا عليها يعمد إلى حلول فردية جاهزة. فالزينة مُشتراة من محلات معيّنة، وربما تكون مصنّعة في دول بعيدة جدا، مثل الصين، وتُطلب أحيانا عبر مواقع وتطبيقات على الإنترنت.

هنالك من ما يزالون يحافظون على العمل الجماعي، لتزيين شارع بأكمله أو صف منازل، إلا أنهم ليسوا “شعبيين” حقا، على الأغلب يكون فعلهم هذا لإثبات هوية طبقية وثقافية معينة للمكان، لا تنتمي للمفهوم الكلاسيكي عن “الطبقات الشعبية”.

البساطة كانت تمتد حتى إلى الطعام، ففي “رمضان زمان” كانت القائمة شبه موحّدة، سواء للمُقبلات أو الحلوى، وأشهرها كنافة وقطائف، مطهوة بطرق بسيطة، قبل أن تتحول الآن إلى “بيزنس”، يتندّر المُستهلكون، ليس فقط على أصنافه المستحدثة الغريبة، بل وعلى أسعاره المرتفعة، التي نجحت بالفعل في صُنع فارق طبقي واضح بين الناس، بحسب قدرتهم على الاستهلاك الرمضاني.

ربما يمكن القول إن أحد أهم الاختلافات في رمضان هو مفهوم “الشعب” نفسه، والذي كان من المفترض أن يكون متقاربا طبقيا، متلاصقا اجتماعيا، حميميا عاطفيا، وبات اليوم مجرد مفهوم نوستالجي، لا نعرف إن كان موجودا حقا في يوم من الأيام.

“أهو جه!”: كيف خلق التكرار إيقاع رمضان

حين نتحدث عن النوستالجيا، نجد الأمر يتعلّق غالبا بالفنون. فمنذ ساعات استقبال الشهر الأولى، وبمجرد إعلان الرؤية، تنطلق أغنيات مصرية مشهورة، تنقل، بالكلمات والصور، أجواء رمضان، مثل “أهلا رمضان”، و”مرحب شهر الصوم”، و”رمضان جانا”، و”أهو جه يا ولاد”.

جميع هذه الأغنيات القديمة مازالت مستمرة بنجاح حتى اليوم. ورغم ما يظهر على مدار الأعوام من أغنيات جديدة لرمضان، سواء بأصوات مصرية أو عربية، إلا أنها قد تنال الإعجاب خلال عامها فقط، ثم تنطوي من ذاكرة الجمهور مع الأيام، ويبقى الاستمرار لتلك الأغنيات القديمة، التي أصبحت الإعلان الرسمي لرمضان.

لكن، هذه الأغنيات التراثية، مع ما تحمله من بهجة، تدفع بكلماتها وصورها الأشخاص إلى البحث عما عاشوه وهم أطفال أو شباب، خلال السنوات الممتدة منذ السبعينيات، وربما قبلها، وحتى أواخر التسعينات، فيحاولون استعادة أصوات ومشاهد حقيقة، من قلب البيوت والشوارع. مثل الفوانيس والمسحراتي والباعة الجوّالين.

“المسحراتي” مثلا، كان أحد أبرز علامات رمضان، التي جسّدها الملحن سيد مكاوي، في عمل أدّاه بصوته، بالتعاون مع الشاعر فؤاد حداد، صاحب القصائد الشعبية، التي بروزت بكلماتها وتصويرها الشارع المصري في ليل رمضان.

تكرار أغانٍ معينة إذن، لعقود من الزمن، عبر وسائل إعلام رسمية لها الصدارة، ساهم في إنتاج علامات ثقافية مؤثّرة في الأذهان والعواطف، حتى لو كان ما تحيل إليه من ظواهر ووقائع ماضية غير دقيق. اليوم اختفى كثير من المسحراتية والباعة، فصارت هذه العلامات لا تحيل إلى شيء فعليا. مجرد دوال بلا مضمون، ولكن تثير كل جماليات النوستالجيا، وتخلق “رمضان زمان”.  

ضد “الجديد”: هل الاعتياد ممل حقا؟

في “رمضان زمان”، كان للشهر خصوصية فنية واضحة، أبرزها إنتاج أعمال فنية، متعلقة به تحديدا، وكان طابعها الأساسي هو العائلية، والجمع بين المحافظة الاجتماعية والتسلية.  

من أبرز الأمثلة على تلك الأعمال، مسلسل الدمى “بوجي وطمطم” والذي تميّز بالاستمرارية واعتياد الشخصيات، ما جعله أشبه بطقس مرتبط بتوقيت ما قبل الإفطار، منذ بداية إنتاج سلسلته عام 1983، ليخلق جمهورا، من أجيال ولدت بدءا من السبعينات وحتى التسعينات. ما دفع لإعادته للشاشة عام 2009، ضمن موسم حمل اسم “بوجي وطمطم والكنز المفقود”.

الاعتياد والاستمرارية ينطبقان على عملين آخرين، هما “فوازير عمو فؤاد”، للفنان فؤاد المهندس، الذي تنافس في الثمانينات والتسعينات مع فوازير “جدو عبده”، للفنان عبد المنعم مدبولي. تميّز العملان بالتفاعلية بين الصانع والمتلقي، بدءا من مشاركة الفنانين والأطفال في أغنيات المقدمة والنهاية، وصولا لمكافئة الفائزين منهم بجوائز، لنجاحهم في الإجابة عن الفزّورة المطروحة في الحلقات.

لكن، انتهى عصر بوجي وطمطم وعمو فؤاد وجدو عبده، مثلما انتهت فكرة الاستمرارية والاعتياد. اليوم يبدو منتجو الأعمال الفنية أقرب لمحاولة اصطناع الإبهار، وإنتاج “محتوى” غير مسبوق، وصناعة “التريند”. ومهما كان تقيمنا لهذه المحاولات، إيجابا أو سلبا، فإنها غير قادرة على صناعة فلكلور ما. ربما من أكثر ما نَحِنُّ إليه في “رمضان زمان” هو بالضبط الأشياء الأليفة، المعتادة، المستمرة، التي لا تهتم بـ”جديد”، بقدر ما تحاول طمأنتنا بأن العالم الذي نعرفه مستقر وموجودة.  

جماليات التشذيب: ما وظيفة الرقص بدون “إيحاء”؟

التفاعلية كانت ميزة أعمال أخرى، صارت اليوم تعتبر من “تراث الفن”، وعلى رأسها الفوازير. وهذه اتّسمت بأمرين: الارتباط برمضان؛ والمنافسة السنوية خلال أعوام، بين اثنتين من أشهر نجوم الاستعراض في مصر: نيللي وشيريهان، فضلا عن أحد أشهر نجوم الكوميديا، وهو سمير غانم.

كان التنافس لنيل إعجاب الجمهور مشروطا بعدة أمور، أبرزها أن يكون زاخرا باستعراضات مبهجة، في كلماتها وأغنياتها، تبدو منسجمة تمامًا مع فكرة الفزورة؛ وكثير من الرقص والحركة، ولكن بالابتعاد الكامل عن “الايحاءات”؛ والكوميديا الخفيفة، التي لا يمكن أن تعكّر صفو أي شيء.

هنالك أيضا اللعب على التفاعلية، إذ لم يكن العمل مُجرد استعراضات فقط، فهناك الجائزة التي تُقدّم في نهاية الشهر، وهي جائزة بسيطة غالبا، ولكنها كانت حلما لكثيرين.

لو تمثّلت أعمال رمضان الفنية في صورة أطباق شهية، فربما كان الطبق الرئيسي فيها هو “ألف ليلة وليلة”، العمل الشهير الذي يأخذ مستمعيه أو مشاهديه إلى عالم آخر، كان يبدو مبهرا، بالقياس للشروط التقنية لأواخر القرن الماضي. وطبعا يبدو رمضان مناسبا جدا لذلك التراث الغني، المشذّب جدا عن أصوله السردية، ليصبح قمة في “العائلية”، مع صوت الفنانة زوزو نبيل، وموسيقى الروسي ريمسكي كورساكوف، وأغنيات واستعراضات ومشاهد كارتونية، كانت طفرة تقنية في زمنها أيضا.

مفهوم “التفاعلية” آنذاك يختلف عنه اليوم. معظم عاملي التلفزيون لم يكونوا يريدون “إثارة الجدل”، بل تحقيق نوع من التواصل الخفيف مع جمهورهم، والذي يحقق تأثيرا مهدّئا. لا يمكن أن تقع أحداث عاصفة ومرعبة في عالم يغمره صوت زوزو نبيل.

نوستالجيا الوسائط: أين اختفى “الجمهور الرمضاني”؟

اليوم، تبدّلت الأولويات والمعايير الخاصة بالخريطة الرمضانية، بالتوازي مع تبدّل الأوضاع. فقديما كانت الوسائل للوصول إلى الجمهور محدودة. بينما اعتبارا من مطلع الألفية، أصبحت الفُرص متاحة للمنتجين، لجني الأموال بصورة أكبر.

الطابع الاستثماري، إضافةً لدفعه الأمور أكثر نحو “الإبهار” و”إثارة الجدل”، وجّه فيما بعد ضربة قوية لمفهوم “الجمهور الرمضاني”، فذلك الجمهور، الذي كان واحدا، يتابع الأعمال نفسها، ويتفاعل معها بشكل متشابه، ويشعر أنها أنتجت خصيصا لمخاطبته، والتماهي مع حالته المزاجية، أصابه الانقسام، وتمت فردنته، مع فكرة المسلسلات المعروضة على المنصات، والتي تطورت من فكرة “التشفير”، التي انتهجتها بعض القنوات الفضائية في أواخر التسعينيات ومطلع الألفية.

منصات المشاهدة المتعددة، إضافة لتحميلها الجمهور عبئا ماليا، غَلّبت فكرة الانتقاء والاختيار، حسب المزاج الفردي، على حساب فكرة الاجتماع “الشعبي” والعائلي على مشاهدة العمل نفسه. وبالتالي فإن نموذج الفرد، الذي يتابع على سريره مسلسلا، من على شاشة هاتفه أو حاسبه المحمول، تغَلّب على نموذج العائلة، المتجمهرة حول جهاز تلفزيون ضخم وعتيق، يُنصب في مركز صالة البيت.  

نوستالجيا “رمضان زمان” قد تكون إذن “نوستالجيا وسائط”، الوسيط كان “يجبر” على التجمّع، بينما “يشجّع” اليوم على الفردنة. هل كانت الجلسات العائلية حول التلفزيون ممتعة دائما؟ هذا أمر نسبي للغاية، فمعايير الذاكرة مختلفة عن معايير الواقع. بكل الأحوال هنالك بالتأكيد ما تغيّر.

عنف وتحرّش: هل للتعددية ذنب؟

في “رمضان زمان” لم يكن ثمّة تشتت بين أعمال كثيرة، محدودية الأعمال ربما كانت سرا من أسرار نجاحها، وعدم اضطرارها لاصطناع الإبهار، الضروري للتنافسية. ولكن هل هذا يعني أن التنوّع الحالي مشكلة، وأحادية الماضي مريحة أكثر للأعصاب؟

واجهت بعض الأعمال الرمضانية، المعروضة في السنوات الماضية، انتقادات كثيرة، كون أغلبها يطغى عليه العنف اللفظي والجسدي، سواء كانت مسلسلات أو برامج مقالب. الأخيرة كانت قديما محلّ ترحيب، كونها مبنية على الكوميديا الخفيفة فقط، والتفاعل البسيط مع الجمهور، مثلما كان الحال في “الكاميرا الخفية” أو “اديني عقلك”، بينما باتت الآن مرتبطة بالعنف والفضيحة؛ أمّا على مستوى المسلسلات، فقد بات يغلب عليها استعراض العضلات، ومرتبطة بأسماء مُعيّنة، صار ما ستقدمه متوقّعا، سواء الربط بين الفقراء والجرائم والعنف؛ أو تجميل التحرش وانتهاك وإهانة النساء، عبر تقديم كل ذلك بشكل طريف؛ فضلا عن تشويه صور فئات في المجتمع، مثل المطلقات، أو العاملين بمهن مُعينة، وغيرهم.

إلا أن “البيزنس” وحده لم يخلق صور “التعددية” تلك، بل يعمل على “جماهير”، لكل منها تفضيلاتها، وما يجذبها من رموز وصور. وبالتأكيد لن يجذب صوت سيدة مثل زوزو نبيل، أو لاحة رجل عجوز مثل “عمو فؤاد”، انتباه الجماهير الحالية، وبالتالي لا يمكن تكرار ذلك النمط من الأعمال، وحضورها اليوم مرتبط أساسا بهالتها النوستالجية، لذلك ربما علينا أن نقبل حقيقة أن “رمضان زمان” هو اليوم “أحلى” لهذا السبب بالتحديد: لقد انتهى ولن يعود.   

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 2 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات