الحَبة الحمراء: هل سينعزل رجال المستقبل في “المانوسفير”؟

الحَبة الحمراء: هل سينعزل رجال المستقبل في “المانوسفير”؟

انتشرت مؤخرا صورة على مواقع التواصل الاجتماعي، لهاتف في يد سيدة (غير مرئية) تصنع الطعام، وهي تشاهد شيخا شابا، يلقي درسا دينيا على موقع يوتيوب. والتعليق المرفق معها: “لو دخلت على مراتك، ولقيتها بتتفرج على المنظر ده، هتعمل ايه؟”.

انهالت التعليقات على الصورة، للإجابة على السؤال، الموجّه للرجال فقط، معظمها يذمّ ويشنّع بمن يرضى على نفسه هذا الموقف. وأكثر من ذلك، كانت سيناريوهات التعامل مع الموضوغ، التي طرحها كثير الشباب، بالغة الحدة والغرابة، تبدأ بتأنيب الزوجة، وتنتهي بكسر الهاتف، مجازا أو حقيقة، على رأسها.

هذا الغضب ليسَ بجديد على منصات التواصل، بل له جذور عميقة، فلطالما غضب رجال من نساء بسبب الغيرة، والعكس صحيح، إلا أن الموضوع يتخذ في أيامنا أبعادا اجتماعية وسياسية وثقافية شديدة التعقيد، تكرّس اضطراب كثير من الرجال المعاصرين فيما يتعلّق بالنساء.

برز على الإنترنت، في السنوات الأخيرة، مصطلح “مانوسفير” (Manosphere)، الذي يُطلق على مجتمع للرجال حصرا، يتفلسف وينظّر، حول ما ينبغي أن يكون عليه الرجال في العصر الحديث. وضمن ذلك “المجتمع” تنتشر استعارة، ترجع إلى مشهد الاختيار في فيلم “ماتريكس” الشهير، خين يُخَيّر “مورفيوس” تلميذه “نيو” بين حبتين، إحداهما حمراء والأخرى زرقاء، والفرق بينهما أن الزرقاء تعيده إلى معيشته النمطية، دون أي كشف يذكر؛ أما الحمراء فيها ما فيها من ثِقَل الحقيقة.

لا تتوقف الأمور عند هذه الاستعارة، بل تنطلق منها ولا تتوقف، فهناك بعد الحبة الزرقاء والحمراء أخرى سوداء وخضراء، ولكلٍ منهما حمولتها من المعرفة، وتعتبر مرحلة من المراحل بالنسبة للمانوسفير، إذ لا ينتظر من بالع الحبة الزرقاء كثير من النجاح والتطور؛  أما من يبتلع الحمراء، الحقيقة، التي تدور حول المكانة والنجاح، سيصل بعدها إلى الحبة الخضراء، وما فيها من معرفة حول المال وأهميته، أو سيكون “شجاعا” لدرجة ابتلاع “الحبة السوداء”، بما فيها من تلذذ باليأس والعدمية.

تتبني خطابات “الحبة الحمراء” إذن على منظور رأسمالي في التعامل مع كل النواحي، بما فيها العلاقات البشرية، إذ تُشترى المكانة بالمال، أما الحب وهم، والاحترام متعلق بعدد السيارات الفارهة في كراجات منازلنا. فيما النساء، بكل بساطة، ناتج ثانوي وطفيلي لما حققناه من نجاح.

لا تخفى “الحبة الحمراء” أيضا عداءها الواضح تجاه أي مطالب بالمساواة بشكلٍ عام، لأن مفهوم العدالة لا يمكن تطبيقه في هذه الحياة، والتي هي، كأي لعبة إلكترونية، مجال لترقى الشخصيات، من خلال جمع نقاط الخبرة. فضلا عن أن من حقق النجاح الفعلي، ستبدو له المساواة شكلا من أشكال القمع.

فهل “الحبة الحمراء” مجرّد نوع من الخطاب اليميني الذكوري المتطرّف، الكاره للنساء والمساواة؟ أم أنه ظاهرة اجتماعية أكثر تعقيدا مما تبدو عليه للوهلة الأولى؟

اقتصاد المانوسفير: ما أزمة “سوق القيمة الجنسية”؟

لا يشترك معظم أفراد المانوسفير في أي نشاط سياسي، ربما لأن رؤيتهم الشاملة للعالم تندرج تحت تفسير فرداني، مؤمن بقواعد اللعبة الرأسمالية، وأغلبهم من أنصار حكمة “نظّف غرفتك قبل أن تحاول تغيير العالم”، ولكن يجد أفراد هذه المساحات صدىً إيجابيا لأفكارهم في تيارات يمينية. وبمقاربة هذه الخطابات في العالم العربي، نجد امتدادا لها في خطابات محافظة، لا تهتم سوى بالتحسر على status quo (الوضع الراهن) الذي يظن رجال كثر أنه ينفلت من بين أيديهم.

ينجح المانوسفير في تكوين خطاب شامل، فيه رؤية واضحة لكيفية عمل العلاقات بين البشر، وزوايا محددة للنظر في تلك العلاقات، خصوصا بين الرجال والنساء، بغض النظر عن واقعية النظرة أو إمكانية تطبيقها، نظرا لانغماسها الشديد في مفردات فانتازية، تدّعي الواقعية، وتعمل على تحويل كل محاولات التعارف والمواعدة إلى لعبة يجب الامتثال لقواعدها، أو لسوق يجب الاغتناء بعملته، ما يؤمّن حرية التصرف فيه؛ ويحصل فيه شبان مأزومون على وعدٍ بطرق نجاح مضمونة تماما، مثل مخططات “الثراء السريع”، وكورسات التعلّم الحديث، و”شقط” البنات.

نوجد ظاهرة متكررة في ذلك “السوق”، وهي “الخبراء”، الذين يخبرون غيرهم بما يجب عليهم فعله ليحققوا النجاح، وبهذه الطريقة يصبح “الخبراء” أنفسهم أثرياء وناجحين، إذ يعطيهم الأفراد اهتماما ومالا، ويحصلون في المقابل على أفكارٍ سائلة وغامضة، حول السوق والكفاح والنمو والثروة، وما تريده النساء.

ترتكز الحبة الحمراء على دعامة أن النساء تعشقن الرجل ذي القيمة العالية High Value Man، وكما تتعامل أي شركة مبيعات مع مندوبيها، يتحدث خبراء “المواعدة” عن الرجال بلغة الشركات، باعتبار أن القيمة تساوي الربح، كما لو أن عدد ما يتراكم في الرسائل الخاصة لشابٍ ما من رسائل، هو مقياس نجاحه.

نجد في المساحات الافتراضية، التي يرتاح بها أنصار المانوسفير، أنهم قد اصطلحوا على لغة ومعايير خاصة، تختزل العالم إلى تقييمات محددة، وتشير إلى أنماط واضحة. واحدة من اصطلاحاتهم مفهوم “المواعدة لأعلى” hypergamy، ويلصق حصرا بالنساء.

باعتبار أن هناك مكانة وترتيبا للرجال والنساء في “سوق القيمة الجنسية”، وهو أحد المصطلحات المانوسفيرية، فمن المفترض أن كل تقييم من ناحية الرجال يتطابق مع الآخر في ناحية النساء: مثلا الرجال، من درجة 4 إلى 10 في ذلك السوق، من المفترض أن يحصلوا على النساء من الدرجة نفسها. إلا أن المشكلة، وفقا للمانوسفير، أن معظم الرجال يرضون بتقييمهم، بينما تطمح النساء إلى مكانة أعلى، فيسعين وراء الرجال من الدرجة 8، أو أعلى. ولذلك يحصل 20% من الرجال على 80% من النساء. اما خطابات تحرير أو تمكين المرأة فهي أصل تلك الشرور، لأنها تعطي قوة الاختيار لأشخاص محدودي الأهلية، على زعمهم، هن النساء من الدرجات الأقل.

ولكن هل هذا التفكير “السوقي” في العلاقات، والنجاح، ودرجات البشر، والنظر إلى الآخر هوياتيا، من سمات المانوسفير فقط؟

الحبة السوداء: إلى أين يودي السرداب المظلم لـ”العزّاب اللا إراديين”؟

يشعر كثير من أصحاب “الحبة الحمراء” باليأس، بسبب عدم نجاحهم، وحصولهم على ما يريدون، مما يجعلهم يشعرون أن هناك جدارا ضخما أمامهم، يدفعهم لابتلاع “الحبة السوداء”.

كل مَنْ يفشل، أو يجد نفسه، بمعاير تلك اللعبة، غير قادر على الكسب، يتيه بين منتديات وصفحات المانوسفير، ليقرأ أحيانا أن كل شيء محدد مسبقا، اعتمادا على الجينات. إذ يمكنك الحصول على “نساء أكثر”، إذا كان في وجهك خصائص معينة، مثل جبهة أعرض، أو خط فك أكثر تحديدا، وكذلك كتلة عضلات لا تقل عن حدٍ معين، ونبرة صوتٍ معينة.، ومن لا يجد في جسده وجيناته، أيا من هذه الخصائص، يمكنه أن يلتحق بقطارٍ من الغاضبين والعزاب اللاإراديين، أو الـincels، كما يطلقون على أنفسهم.

تقوم “الحبة السوداء” على إدراك أن القيمة في السوق الجنسي محددة مسبقا، وأن هناك من سيكون عازبا للأبد. والسعادة مستحيلة في ظل تلك المعايير الحتمية.

عندما يأخذ الشخص “الحبة السوداء”، فهو بذلك يعرّف نفسه بحدود ما تفرضه عليه الجينات، في هذا السياق يتخلى عن أفكار الحبة الحمراء، المتعلقة بمنظور النجاح والغنى والكفاح والرجال ذوي القيمة، ويدخل في سرداب مظلم أكثر، يربط “نجاحه” و”غناه” و”قيمته” بكيف يبدو. والأمر يتعلّق بشكل أساسي بتشريح جسده. وكذلك بتطويع اللغة العلمية، والاستناد إلى تحليلات قاصرة، لبيانات من تطبيقات المواعدة. ما يؤدي لتعزيز نظرة فائقة maximal لما ينبغي أن يكون عليه جسد الرجل ليكون جذّابا. دفعت هذه النظرة إلى ظهور ما يسمى بالـlooks maxing.

إنها ظاهرة لافتة، تبيّن أن “معايير الجسد” لم تعد مقتصرة على النساء، ولكنها تعذّب أيضا رجالا كثر، قرروا ابتلاع “الحبة السوداء”.

ولكن ما مدى خطور “الحبة السوداء” في ظروف منطقة مثل العالم العربي؟

الرجولة الضائعة: هل ابتلع الذكور العرب الحبة السوداء؟

لا يمكن إغفال أن لغة وسياسيات المواعدة لا تنطبق بشكل كامل على المجتمعات العربية، نظرا لما تمليه الأعراف والتقاليد والأديان، التي تتحكّم في رؤى الأفراد بشكل كبير، وجوانب من حياتهم، ومنها ما يتعلق بالزواج والمواعدة والجنس. ولكن تجد أفكار المانوسفير، بما فيها من شمولية وإدراك لأزمة الرجال، صدى واسعا عند من يصعب عليهم الزواج في الوطن العربي، وما أكثرهم، وهنا تظهر المشكلة الأساسية.

لا يقتصر الأمر، بالنسبة لكثير من الذكور العرب، على “فشلهم في السوق”، وما قد يترافق مع ذلك من ردات فعل عنيفة، بل أيضا خسارتهم للهيمنة، وهي ليست مجرّد هيمنة ذكورية اعتيادية، بل أيضا لها جوانبها السياسية والعقائدية، المتعلقة بـ”الأمة” نفسها.

يُعرّف مفهوم الهيمنة الثقافية، وفقا لأفكار المفكر الايطالي الماركسي أنطونيو غرامشي، بأنه “قيادة سياسيّة، قائمة على القبول بالحكم السائد، من خلال نشر أفكار الطبقة الأقوى، وتعميمها في الميادين السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، وحتّى في أعتى ظروف الاستغلال”. بالاستناد إلى هذا المفهوم، تشير المنظرة الأسترالية ر. و. أوكونيل، إلى وجود صورة مثالية ومهيمنة للذكورة ideal hegemonic masculinity، باعتبارها الشكل الأمثل، والأكثر حفاوة ومكانة في المجتمع. تفسّر أوكونيل هذه الهيمنة باعتبارها الممارسة الثقافية والأيديولوجية، لتشريع صورة متسقة مع من يملكون القوة في المجتمعات.

إن مكانة الذكورة المهيمنة تميّزها عن الأشكال الأخرى للهويات الجندرية، التي لا تتوافق مع هذا المثل الأعلى السائد، وتضعها فوقها. وهي لا تضطهد فقط النساء، بل تضطهد حتى هويات ذكرية منحرفة عن النموذج المهيمن، وتجعها إما مهمشة أو خاضعة. وبالتالي فإن الذكورة المهيمنة ترمز للسلطة، وتمارسها على الهويات الأخرى، باعتبارها الشكل الأكثر قيمة اجتماعيا، الذي لا يطمح إليه الرجال الأفراد فحسب، بل قد يتعرضون لإذلال وعنف شديد، إذا لم يتماهوا معه.

يتم التعامل مع الذكورة المهيمنة المثالية على أنها مرادفة للهوية، التي تعتبر على نطاق واسع “رجولية”، أي حازمة، وعدوانية، وشجاعة في مواجهة الشدائد، وتشمل رفض الاعتراف بالضعف، مع تثبيط سلوكيات أخرى، مثل التعبير عن المشاعر، أو طلب المساعدة من الآخرين. وكما تقول أوكونيل، فإن مثل هذا الشكل من الهوية لا يمكن تحقيقه بسهولة، وغير مرغوب فيه بالضرورة في حد ذاته. في الواقع، إنها مجموعة محددة ومثالية من المعايير، لا تعكس بالضرورة الواقع المعيش لحياة الرجال.  ومع ذلك، فإن الذكورة المهيمنة توفّر معيارا، يمكن للرجال أن يطمحوا إليه، وللأفراد تقييم هوياتهم على أساسه.

يمكن بسهولة إذن إدراك مخاطر “الحبة السوداء” في العالم العربي. فرجال محبطون، يرون أنفسهم المعيار المهمين، والحامي للقيم العامة للأمة، قد يكون عنفهم خطيرا وجماعيا وعاصفا، وله انعكاساته السياسية الصعبة.

ولكن هل أنصار المانوسفير، بحبوبهم الملونة، قد أتوا بأفكار جديدة فعلا، سواء في “الغرب” أو “الشرق”؟

سوق الهوية: هل المانوسفير امتداد للنظام الأبوي؟

يرى كثيرون أن نمط تفكير المانوسفير ليس جديدا، بل متضمن في البنى لأبوية بأطوارها المختلفة، وحتى بدون اللغة الخاصة بالإنترنت، وعولمة التفكير الغربي، في صور الفحولة والفتوة والرجولة.

يُنشأ الأطفال على قيم النظام الأبوي منذ الصغر. كما أن مفهوم الذكورة المهيمنة لا يتشكّل في الفراغ، بل جنبا إلى جنب مع “أنوثة مُؤَكِدة”، وذكورة “متواطئة” وغير معيارية. هذه التنشئة الأبوية تربي غضبا داخل الفرد، وتوجه غضبه تجاه أفراد مثله، وتلهيه عن الأنظمة التي تُدخله في تلك الدائرة من البداية.

وكما ترى بعض التيارات النسوية أن السيدات الكارهات للنساء ضحايا للأنظمة الأبوية والاستغلال الرأسمالي، فهناك نظرة ترى الرجال الكارهين للجميع بهذه الطريقة، لأنه، ومهما كانت كفاءة أولئك الرجال وقيمتهم، فلا يوجد ما يحصّنهم من الخلل الاجتماعي والاقتصادي الكبير، في المرحلة المتأخرة من الرأسمالية التي نعيشها، وقد يجدون أنفسهم، دون سابق إنذار، في مرتبة متدنية في “سوق القيمة الجنسية”. وهكذا قد يفسّر أنصار المانوسفير معاناتهم بشكل أجسامهم؛ أو دراسات رديئة، مستمدة من مواقع المواعدة؛ أو “غزو النساء لسوق العمل”، بدون ملاحظة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، المتسببة في تردي جودة الحياة.

ورغم ارتباطها بالنظام الأبوي بأشكاله المختلفة، لا يمكن اعتبار جماعات المانوسفير أبوية معيارية، بقدر ما هي تيار من تيارات الهوية، المتكاثرة بشدة في الآونة الأخيرة، والتي زاد الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من ظهورها على هيئة فقاعة. فيما المفاهيم التي تقدمها، عبر “حبتها الحمراء”، قد تكون مشتركة بين كثير من جماعات الهوية المعاصرة، بما فيها التي تصف نفسها باليسارية والتقدميّة، خاصة أنها تقوم على فكرتي المظلمة من الآخر، المؤسِّسة للذات؛ ودور الضحية، المرتبط بشعور بالتفوق، الذي يسهل أن يصبح “حبة سوداء”. في العالم العربي يتداخل الموضوع بمعظم التيارات السياسية القائمة، التي قد تعتبر أنصار “الحبة السوداء” نتيجة للمظلمة الاستعمارية التاريخية.

وبكل الأحوال فليس هذا التيار شذوذا خطيرا عن “روح العصر”، بقدر ما هو أحد تجسيداتها الأكثر بشاعة وإثارة للإزعاج.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 2 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات