حرب المنتجين العراقية: هل الدراما استمرار للطائفية بوسائل أخرى؟

حرب المنتجين العراقية: هل الدراما استمرار للطائفية بوسائل أخرى؟

تحوّل موسم رمضان الفني الحالي 2024 في العراق، إلى ساحة صراعات بين جهات متعددة، لفرض رواياتها التاريخية، التي تضفي عليها هالة من المجد أو القداسة، وتنسب لها التضحيات. وقد تجسّد الصراع في ميدانين أساسيين: الأول الصراع حول مسلسلي “عالم الست وهيبة”، ومسلسل “وطن”، الذي أخد الصدى الأوسع، إذ اعترض بعض النواب من الإطار التنسيقي الحاكم، الذي يمثّل قوى وميليشيات شيعية موالية لإيران، على أسماء وجُمَل في العملين، ليصل الاعتراض إلى أروقة المحاكم؛ أما الميدان الثاني، فقد كان حول مسلسلي “آمرلي” و”انفصال”، اللذين اعترضت عليهما فئات متنوعة، معارضة للحكومة، متهمةً الإطار التنسيقي، بفرض روايته من خلال المسلسلين.

يبدو أن الصراع السياسي والطائفي العراقي، قد تكثّف في صور وسيناريوهات الدراما التلفزيونية، وهو أمر متوقع، في بلد تحتدم فيه الصراعات على الهوية دائما. ومنتجات الثقافة الجماهير كانت وما زالت أحد أهم أساليب بناء الهوية وحمايتها.

فكيف حاول كل من الجانب السني والشيعي؛ المؤيد والمعارض، طرح رواياته عبر المسلسلات؟ وهل الاتهامات الموجهة للأعمال التلفزيونية المذكورة أعلاه مبالغ بها؟ وما مخاطر أن يتحول ذهن المشاهد الرمضاني إلى ساحة صراعات؟

“وطن” ضد “المقاومة”: هل باتت الدراما الميدان الأخير للسياسة “السنية”؟   

اعتبر كثير من النقاد أن نهج الاعتراض على الجزء الثاني من مسلسل “عالم الست وهيبة”، قائم على أساس محاولات الدولة الهيمنة على الحيز العام، والسيطرة على جميع أشكال الفن، وهذا صحيح إلى حد كبير، ويُعتبر من التكتيكات الكلاسيكية، التي تتبعها الدولة، المتبنّية للنهج الإسلامي الاستبدادي، لكن الاعتراض أيضا يحتوي على جوانب أخرى، إذ لم تكن مشكلة المسلسل فقط أنه يمسّ العقيدة أو المذهب، لأن أحد أبطاله المجرمين يدعى “مهيدي”، ما دفع نوابا عراقيين شيعة للاحتجاج، لأن الاسم يشبه اسم  المهدي المنتظر.

خبر تصوير الجزء الثاني، وعرضه في رمضان الحالي، كان معروفا لدى الجميع، ولا أحد يجهل شخصية “مهيدي”، المدمن والسارق في الجزء الأول، الذي عرض عام 1997، ولكن أحدا لم يعترض على التصوير، أو يحاول إيقافه.

يمكن قراءة أبعاد أكبر للقضية إذ علمنا أن المسلسلات، التي واجهت انتقادات واسعة من القوى المشاركة في الحكومة العراقية، كلها تعود إلى الجهة المنتجة ذاتها، وهي قناة UTV، التابعة لسرمد الخنجر، نجل خميس الخنجر، زعيم “تحالف سيادة” المعارض، والملياردير الذي يُصدّر نفسه على أنه زعيم المكوّن السني في العراق، والمعروف بمشاكله مع الإطار التنسيقي، الذي يشكّل الحكومة الحالية.

وقد تبادل الطرفان كل أنواع الاتهامات، منذ تشكيل الحكومة الحالية، ففي حين يرى الإطار التنسيقي أن خميس الخنجر “من الأدوات الخارجية لتفتيت المشاريع الوطنية، وشق البيت الشيعي”؛ يرى الخنجر أن الإطار فاسد وغير صالح لتشكيل الحكومة. ورغم أن بعض الاتفاقات جمعت الطرفين، إلا أن الحكومة العراقية لم تلتزم بوعودها مع الخنجر، خصوصا تلك المتعلقة بإخراج المعتقلين السنة من السجون، وحل ميليشيات “الحشد الشعبي” في المحافظات السنية، وإنهاء السلاح المنفلت فيها.

وبما أنه لم يكن هناك أي تنفيذ لكل ما اُتُّفِق عليه، فقد قرر الخنجر شحذ جميع أسلحته، لبيان وجه اعتراضه على الحكومة الحالية؛ وبما أن الحروب الآن لا يمكن أن تُحسم بالسلاح، استعان السياسي السني بالأعمال التي تنتجها قناته، لمواجهة الإطار، فقد احتوى مسلسل “عالم الست وهيبة” على رسائل كثيرة ضد حكومات ما بعد 2003، وخصوصا تلك التي تعاونت مع الاحتلال لتشكيل الدولة، ويقصد بذلك زعماء الإطار التنسيقي الحاليين. وما يؤكد هذا أن النص قد عُدِّل، بعد توقيع السيناريست صباح عطوان مع الجهة المنتجة، واستلامه مبلغ 50 ألف دولار، ليصرّح بعدها أن الجهة المنتجة “أضافت واقعا هم يريدونه، بدون رغبة مني”، ثم يرفع دعوى ضد القناة، لتحكم المحكمة لصالحه في البدء، وتوقف المسلسل مؤقتا. لكن بعد الاستئناف، عاد المسلسل إلى العرض مجددا. 

لم يكتف الخنجر بتمرير الرسائل المبطّنة ضد الإطار في مسلسل “عالم الست وهيبة”، فقد أنتج أيضا مسلسل “وطن” بجزئه الثاني، الذي تتساءل فيه البطلة عن أسباب ضرب المقاومة لدبابات أميركية أمام بيوت عراقية، ما يؤدي إلى مقتل مواطنين أبرياء. لقد كان نقد “المقاومة” من المحرمات، إلا أن خميس الخنجر قرر على ما يبدو خوض الصراع حتى النهاية. فما كان من الإطار التنسيقي إلا استخدام قوته المسلّحة، في عملية المنع، وإضفاء طابع خطاب المذهبية على قضاياه ضد مسلسلات الخنجر، لتتحول إلى قضية إهانة مقدسات في “الست وهيبة”؛ و”إهانة بعض فئات الشعب” في مسلسل “وطن”. وذلك لأن البطلة لم تكتف بإهانة المقاومة، بل أهانت شخصية “أبو المولّدة”، وهو المسؤول عن تزويد إحدى المناطق بالكهرباء، أثناء فترات قطعها، فاعترض أصحاب المولّدات على تلك “الإهانة”.

مرت قضية مسلسل “وطن” بسلاسة وسخرية، وكذلك قضية مسلسل “عالم الست وهيبة”، الذي حصل على دعاية مجانية، وسبّب سخطا كبيرا بين كثير من المواطنين على سياسات الحكومة القمعية.

إلا أن السخرية ظلت مستمرة، فرغم أن كثيرا من الناس رأوا أن مسلسل “عالم الست وهيبة” لا يهين الإمام المهدي، إلا أنهم ظنوا، على ما يبدو، أن القداسة يجب أن تشملهم، فبعد اعتراض أصحاب المولّدات على مسلسل “وطن”، اعترض أصحاب الدراجات، لأسباب لا تستحق حتى الذكر، على مسلسل “عالم الست وهيبة”، لتكتمل بذلك المسرحية الهزلية، التي بدأتها الحكومة الإطارية.

تلك هي الاعتراضات الإطارية على مسلسلات “ممثل السنة”، ولكن ماذا عن اعتراضات الجانب الآخر؟

آمرلي ضد “آمرلي”: كيف باتت مسلسلات العراق بدون عراقيين؟

قدم وجهاء وشيوخ مدينة آمرلي، بتاريخ الأول من نيسان/إبريل 2024، اعتراضهم ومطالبهم للنائب فالح الخزعلي، بوقف مسلسل “آمرلي”، لأنه “يشوّه الحقيقة”، فقد شهدت هذه المدينة التركمانية الهامة، والتي تقع داخل حدود محافظة صلاح الدين العراقية، عقودا من الاضطهاد، كان آخرها ما حدث لها إبان غزو تنظيم داعش.

قدّم مسلسل “آمرلي” تاريخ حصار المدينة من طرف داعش، والذي امتد لثمانين يوما، ولكنه شوّه الحقيقة فعلا. فبعد سقوط الموصل، عزلت داعش مدينة آمرلي، وفرضت الحصار عليها، لأنها مدينة تركمانية شيعية، وقطعت عنها الماء والغذاء، وهاجمتها بمدرعات ودبابات، إلا أن الأهالي نظّموا أنفسهم، وصمدوا، واستطاعوا قتل ما يقارب ثمانمئة عضو في داعش، إلى أن استطاع الجيش العراقي إنهاء الحصار على المدينة، وهزيمة التنظيم. إلا أن مسلسل “آمرلي” نسب الفضل إلى الفصائل الإيرانية المسلّحة، ولتأكيد هذه الرواية على ما يبدو، أُسند دور البطولة لمصطفى زماني، وهو ممثل إيراني.

طالب أهالي المدينة بإيقاف المسلسل، لأنه لم يحترم تضحيات آمرلي وأهلها، ولم يكن أهالي المدينة وحدهم من اعترض، إذ أن “سرايا السلام”، التابعة للتيار الصدري، أعلنت بدورها موقفها ضد المسلسل، ومطالباتها بوقفه، لأنه أيضا لم يذكر تضحيات قطعات السرايا، التي ساعدت في تحرير المدينة.

يمكن فهم هذا الصراع أكثر، إذ علمنا أن المسلسل من إنتاج “القناة الرابعة”، وهي قناة تابعة لحنان الفتلاوي، إحدى أبرز الشخصيات في الحكومة الإطارية. وهكذا فإن الإطار التنسيقي، الذي يتهمه كثيرون بالتبعية لإيران، مُتهم أيضا بتصدير رواية قائمة على حذف تضحيات العراقيين، وتصدير “المقاومة الإيرانية”، على أنها الدرع الحامي لمدن العراق.

مسلسلات الدولة: “قيم الأسرة” مرة أخرى؟

بعد ذكر أجندة قناة UTV، التي تتبنى الرؤية السنية، وأجندة “قناة الرابعة”، التي تتبنى الرؤية الإطارية. يجب ذكر أهم الأعمال، التي أنتجتها “شبكة الإعلام العراقية”، وعرضتها قناة “العراقية”، وهي قناة الدولة الرسمية. ويمكن فهم ما تطرح من خلال نموذجها الأشهر، مسلسل “انفصال”. وهو مسلسل تدور أحداث في أروقة المحاكم، ويطرح قضية الطلاق.

كل القصص التي طرحها المسلسل يمكن وصفها بالذكورية بامتياز، فالنساء في هذا المسلسل لا يرغبن في أطفالهن، ويقررن الانفصال لأسباب تافهة، وهن الطرف الظالم في الزواج؛ والرجال يؤدون دور الحكيم، الذي لا يرغب في خراب بيته.

يحاول المسلسل أيضا تمرير قضية النفقة والحضانة، تزامنا من طرح تعديل المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية، والخاص برفع الحضانة عن الأم، ليُظهر أن النساء لا يستحقن الحضانة. وهذا يتوافق مع رؤية الدولة لدور النساء، في استكمال لسلسلة تهميشهن، التي تمضي بها الحكومة الحالية منذ تشكيلها.

تلك الصراعات، التي تخوضها جهات متعددة على الساحة الفنية، لا تبدي أي احترام، لا لتضحيات المواطنين، ولا لحياتهم، ولا لأفكارهم. وفي حين كان أهالي آمرلي يحتجون ضد تشويه حقيقة تضحياتهم، حدثت كارثة في الطرف الآخر من العراق، إذ أقدمت طفلة، تبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، في محافظة ميسان جنوبي البلد، على الانتحار، بعد مشاهدتها لمشهد انتحار في مسلسل “خان الذهب”، الذي يُعرض على قناة “MBC عراق” بعد الإفطار.

لم تهتم الدولة أو القناة أو الشركة المنتجة بأهمية تحديد الفئة العمرية المناسبة لمشاهدة المسلسل، ولم تحذّر من وجود مشاهد قاسية، ولم تهتم بسلامة مشاهديها، بقدر ما تهتم بتصدير رواياتها السياسية والطائفية. في العراق لا أهمية لقتلى الحروب ولا للنساء ولا الأطفال، وهذا بات من “الحقائق”، التي نفشل دائما في التأقلم معها.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.4 8 أصوات
تقييم المقالة
1 تعليق
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
رشا
24 أيام

رائع