“نور الدين”: هل الشيخ علي جمعة “عصري” أكثر مما نتصوّر؟

“نور الدين”: هل الشيخ علي جمعة “عصري” أكثر مما نتصوّر؟

لا يزال الشيخ علي جمعة، مفتي مصر السابق، يثير الجدل حلقة بعد أخرى في برنامجه الرمضاني “نور الدين”، والذي يستهدف عبره جيلا من المراهقين والشباب. وبغض النظر عن إجابات الشيخ، والمنطق الذي يحكم فتواه، إلا أن الأسئلة المطروحة، من قبيل تأويل العقيدة والقصص الدينية؛ أو العلاقة بين شاب وفتاة، تحيل إلى ما ورائها من واقع اجتماعي، تشكّله أجيال جديدة شابة وعصرية، أنتجت مساحات اجتماعية جديدة، مكنتها من صياغة تجارب وعلاقات مع “الآخر”، بمسميات تختلف كثيرا عن المتعارف عليه.

مثّلت إجابات الشيخ مفاجأة، خاصة بصدد العلاقات بين الشباب والفتيات، إذ اعتبرها البعض بمثابة “فتاوى عصرية بامتياز”، تضفي مباركة وتأييدا للأشكال الجديدة من العلاقات، بينما رآها البعض الآخر تجاوزا دينيا وأخلاقيا.

لا يغيب في هذا السياق الردود والإجابات الشهيرة، لشيوخ آخرين تناولوا مثل هذه الأمور بكثرة، ولكن بشكل “غير عصري”، مثل مقطع من محاضرة، ألقاها الشيخ وجدي غنيم، عن ضرورة عدم الاختلاط، واتقاء النساء، وعدم التساهل في كل ما يسمح باجتماع الرجل مع المرأة، في حديث أو عمل أو زمالة؛ أو المقطع الشهير للشيخ محمد حسين يعقوب، الذي يوجز فيه باختصار أية علاقة أو إشارات أو تلميحات بين الرجل والمرأة، باعتبارها “زنى”. كثير من الشباب والفتيات، يتداول هذا النوع من التسجيلات على سبيل السخرية، للدرجة التي تحوّل فيها الشيخ يعقوب لمادة خام لعديد من الميمز والكوميكس، جعلت من كلامه “إيفيه”، ولعل هذه هو سبب شهرته، على الأقل بين تلك الفئات، أي شباب وفتيات السوشال ميديا. وبالتالي فإن الشيخ جمعة، مقارنة بأولئك الشيوخ، يبدو شديد “الانفتاح”. ولكن الانفتاح على ماذا؟

ربما يُنظر لكل ما هو مُستجَد بين الجيل الجديد، باعتباره تهديدا لما يُعرَف “بقيم الأسرة المصرية”، وهو المصطلح الذي جرى استخدامه بكثافة في السنين الأخيرة، والذي يظهر دوما باعتباره “مرجعية”، تواجه كل طارئ وجديد. وفي كل استدعاء لهذا المصطلح، نجده عاجزا عن إثبات جدارته، في تبيان المقصود بهذه القيم، بجانب إخفاقه في استيعاب الجديد، الأمر الذي أنتج مقولات متضخّمة، ينحصر اهتمامها دوما في تكرار صيغ أخلاقية جامدة، على حساب تناول الأسباب والدوافع الاجتماعية وراء المستجدات العصرية. وربما كان برنامج الشيخ جمعة محاولة لعصرنة “قيم الأسرة”، وتجاوز صيغها الجامدة والعاجزة.

إلا أن الشيخ، في “عصرنته”، لا يفارق تلك “القيم” ولو للحظة، ويبحث المسائل دوما من خلال ثنائية حلال/حرام، وهي الطريقة التي اعتدنا عليها في البحث عن أفكار وقيم، مما نعتبره مخزوننا الثقافي والديني المترسّخ، تفسّر الواقع وتحكمه، بدلا من البحث عن شبكة فكرية مناسبة، قادرة على رؤية حركية الوقائع نفسها، والبحث فيها عما يحكمها ويدفعها؛ وعن مجموعات الفاعلين الجدد، وما يحملونه من أفكار وثقافة، أصبح من الممكن وصفها بكونها “ثقافة مغايرة”.

إلا أن الأمر لا يقتصر على الشيوخ. تظهر إشكالية المفارقة بين الواقع والأفكار بصورة أكبر وسط “الشباب” أنفسهم، وقد أخذت مقولة “الشباب” موقعا سحريا في عديد من التحليلات والخطابات، وتحديدا بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، التي طالما تغنّى بها كثيرون، باعتبارها “ثورة الشباب”، بما أطلقته من طاقات ومساحات اجتماعية جديدة، فجّرتها الطفرة التكنولوجية ومواقع التواصل الاجتماعي. ولكن بدون أي تحديد اجتماعي مقنع لماهية أولئك “الشباب”، واختلافهم وتعددهم، بل وتناقضاتهم المتعددة، وكأن كل ما يقوله شاب، يبدو مطلعا على “العصر”، هو تمثيل هوياتي مطلق لـ”الشبابية”.  وتلك “الشبابية” على ما يبدو، مثل “قيم الأسرة”، واحدة من المقولات والقيم المتضخمة، التي يجب أن تحكم كل الوقائع.

وفيما بين “المشائخية”، وما تحمله من “قيم أسرة”، سواء كانت معصرنة أو متعصّبة؛ و”الشبابية” وما تلوّح به من “عصر”، لا نفهم ماهيته بالتحديد، يبرز السؤال عن الكيفية التي يمكن أن ندرك بها التطورات والصراعات التي يعيشها المجتمع المصري حاليا: هل تساعدنا الأسئلة المطروحة على الشيخ جمعة في فهم جانب من ديناميكية ذلك المجتمع؟ أم أن الأمر أعقد بكثير مما يتيحه لقاء متلفز بين المفتي السابق و”الشباب”؟

شبابية الديتنغ: ما علاقة الشريعة بالحميمية التعاقدية؟

تجدر الإشارة في البدء إلى أن كلمة “مواعدة” العربية، لم تعد متداولة في السنوات الأخيرة بالقدر الذي تستحوذ عليه كلمة “Dating” الإنجليزية، ومدى انتشارها في الأحاديث الشخصية، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي برامج “التوك شو” التلفزيونية، والمسلسلات والأعمال الفنية. سبق هذا الانتشار ظهور عشرات التطبيقات الإلكترونية الخاصة “بالديتنغ”، والتي تختلف عن بعضها في مدى ما تقدّمه للأفراد من مزايا، وخصوصيات البحث عن شريك/ة. ربما يتبادر للذهن أن كل هذا مصمم من أجل التخطيط للزواج، أو تكوين أسرة، ولكن لفهم ما المقصود بـ”الشريك”، يكفي متابعة حلقة واحدة من برنامج “the blind date show” النسخة العربي.

تحظى حلقات البرنامج بمتابعة مئات الآلاف، وربما الملايين، خاصة أن طرفي الحلقات، هما دائما شاب وفتاة من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي. تجري المقابلة على أساس اختبار أفكار وتطلعات ورغبات الفرد فقط: الأكلات المفضلة، نوعية الملابس، الذوق الموسيقي، حب السفر من عدمه، أماكن الخروج والترفيه، الهوايات والمغامرات الفردية. فغاية البحث عن شريك هي بالنهاية قضاء أوقات لطيفة، بدون أية حمولات اجتماعية، أو التطرّق لمواضيع شائكة وعميقة، وبهذا الشكل يجري تقديم وتسويق العلاقات بعيدا عن التعقيدات، أو بمعنى أدق بتغييب أية مسئوليات، من الممكن أن تؤدي إلى تعقيدات، مما أدى لمنح الأولوية لمفهوم “العلاقات العابرة”.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نجد محتوى آخر، يتناول “الديتنغ” باعتباره أشبه بلحظة معاشة من خلال “الفانتازيا”، إذ تقوم فكرة البرنامج على المواعدة السريعة “Speed dating”، بين طرفين يدور بينهما حديث سطحي للغاية، لدقائق معدودة، بينما أمامهما زر أحمر، يمكنهما الضغط عليه بعد وقت معين، إذا أراد أي منهما استبدال الآخر بشخص غيره. وهكذا يدور “الديتنغ”، حتى يحدث استقرار بين الطرفين، يرغبان في استكمال وقت اللقاء. الأمر أشبه للغاية بما يحدث أثناء التسوّق.

بالنظر إلى اللغة المستخدمة، ونوعية الأفكار والتوصيفات، يمكن رصد ظهور مفردات “غريبة”، صار التندّر عليها أمرا دارجا في الثقافة العامة، مثل “ريد فلاغ/ جرين فلاغ” لوصف الصفات السيئة والجيدة لدى الشريك؛ ومفردات أخرى مثل “الإكس” أو “الكراش”، وكثير من المصطلحات التي جرى تعريبها واستخدامها بغزارة، والتي تبدو أقرب لعالم “إيچيبت”، أي “كميونتي” أبناء الشريحة الوسطى العليا في مصر، الذين أسعفتهم لغتهم الانجليزية بتحصيل كورسات تطوير الذات. ما يجعلنا أمام “لسان اجتماعي”، يعرض وصفات وطرق للعيش وفق ثقافة مغايرة.

ربما لا تمثل هذه القطاعات أغلبية عددية في المحيط الاجتماعي العام، لكن حضورها الكثيف في الوسائط الإعلامية والإلكترونية، يمنحها قدرة هائلة على التأثير، كما يزرع لدى عديد من المتلقين ميلا دائما لاستكشاف هذا العالم الجديد، والتطلع للانخراط فيه. وربما يكون هذا أبرز عناصر “الشبابية” المعاصرة، التي يريد الشيخ علي جمعة عصرنة “قيم الأسرة” لملاحقتها.

يجري استدعاء تلك القيم عادة باعتبارها “ترسانة الشك”، التي تستخدمها النخب الدينية والاجتماعية وحرّاس “الثقافة الأصلية” والأخلاقيات العريقة، فيما يحاول “المنفتحون”، مثل الشيخ جمعة، توسيع “الخطاب الديني” ليشمل كل مصطلح أو فكرة او ممارسة جديدة، “بما لا يخالف شرع الله”، وذلك ليس صعبا على الإطلاق، فبالنظر في مضمون حلقات برامج “الديتنغ” مثلا، نجد موقفا محافظا بالجوهر، يقوم على الابتعاد عن كل  المسائل والمواقف الدينية والأخلاقية، فلا يوجد أي مجال لحديث يتجاوز الأمزجة الفردية و”اللايف ستايل”، ويمكن اختصار الأمر في صيغة بسيطة، وهي “Take it or leave it”. الأمر الذي يمكن لـ”الخطاب الديني” استيعابه، بوصفه قدارا على منح الصيغة “الشرعية” لأي علاقة تعاقدية، قائمة على الأخذ أو الترك.

ورغم كل إمكانية “الخطاب الديني” في استيعاب ذلك النمط من الحميمية، التي تمزج بين المحافظة وروح السوق، فإن هناك كثيرا من الأسئلة عن قدرته الفعلية على استيعاب الحضور الطاغي لتلك الأشكال والعلاقات الاجتماعية الجديدة. أو بصيغة أخرى: هل ما زالت الفتاوى تحظى بالأهمية فعلا بالنسبة لأولئك “الشباب”، بكل “شبابيتهم”؟

الشبابية السياسية: هل استوحت “يناير” من قاموس “ٌقيم الأسرة”؟

لا يقضي كل “الشبابيون” وقتهم على تطبيقات وبرامج “الديتنغ”، بل هناك النخب الجديدة الشابة، التي تحاول التشبّث بانتمائها لمقولة “الشباب”، بوصف ذلك محاولة للتمايز عن النخب التقليدية وطريقة تفكيرها. بالعودة إلى تاريخ قريب، أي ثورة يناير، سنجد عديدا من الممارسات والتصورات، التي وظف فيها الفاعلون الجدد “الشباب” آليات تقنية المعلومات لتسهيل تواصلهم، وتوظيف المواقع الاجتماعية والفضاءات الافتراضية، وذلك بموازاة احتلالهم الميادين والساحات العمومية؛ كما عززوا أشكال تواصلهم وتبادلهم للأفكار، عن طريق الشبكات، بهدف توسيع المشاركة في الفعل الاحتجاجي وإحداث التغيير. وفي هذه الأساليب مجتمعة عملوا على تجاوز كثير من مظاهر العمل السياسي المعروفة وأشكاله (1) وما زالت “الشبابية السياسية”، تعيش على هذا الإرث حتى اليوم.

تناول هذه الأساليب عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستلز، في ثلاثيته الشهيرة “عصر الشبكات”، والتي صاغ خلالها مفهومه عن “الذات الفاعلة في المجتمع الشبكي”، إذ يشتغل الفاعلون ضمن شبكات، تقوم بإنتاج وتداول ما سماه “القوة والتجربة”، وبناء ثقافة افتراضية، تجاوز حدود المكان والزمان، وفي الآن ذاته البنى التقليدية للصراع. وفق هذه الكيفية نال “الشباب” كثيرا من الثناء على ما أحدثوه، لا سيما أن بداية الحدث، وهو الدعوة للتظاهر، كان من خلال “إيفنت” على فيس بوك. وقد وصفوا بأنهم “شباب رائع” و”طاهر بريء”، قام بنسج “حركة بلا أيدولوجيا”، وبلا مشروع، وخارج الانتماءات الحزبية والسياسية، بل واعتُبر كل هذا جزءا من حالة “التفرّد”، التي أحدثها “الشباب”.

يستدعي كل هذا مفهوم “الثورة”، الذي طرحته الكاتبة الإنجليزية لوسي ريزوفا (2): “حالة يتم فيها تعليق الدولة، أو وضعها موضع الشك“. إلا أن حالة “التفرّد” لم تُسعف الفاعلين في تحديد ملامح المطلب الذي حدده هتاف: “الشعب يريد إسقاط النظام”، إذ لم يكونوا على استعداد لبلورة أي مفهوم له: ما النظام المراد إسقاطه؟ وهل النظام يعني الدولة؟ وهل هو مجرد آلة قمع بوليسية، أم يمتد ليشمل باقي أجهزة ومؤسسات الدولة؟ وهل النظام متجسّد في شخص أو مجموعة أو طبقة؟

يعود السياسي المصري زياد العليمي، بعد مرور أكثر من اثني عشر عامل على الثورة، ليركز اهتمامه على “فترة الـ18 يوم” الممتدة من 25 كانون الثاني/يناير، حتى تنحي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عن الحكم في 11 شباط/فبراير، باعتبارها فترة مجد “الشباب”، الذين طالما تغنّت بها ادبيات تلك الفترة. إلا أنه على مدار سلسلة مكوّنة من خمس مقالات، بعنوان لم ننجح هذه المرة“، لم يستطع تحليل ما يقصده بمقولة “نحن”. هل يقصد بها الشباب تحديدا، أي الفئة العمرية بين 18 و40 سنة مثلا؟ أم جموع الشعب المصري؟ أم الفصيل السياسي “ائتلاف شباب الثورة”، الذي كان أحد أعضائه ومؤسسيه؟

في سياق التناول، لجأ عليمي إلى استخدام مقولة “أبناء يناير”، لا بقصد تحليل وتشريح المقولة، بتناول الفئات والمكونات الاجتماعية المُشكّلة لها، بل لشكر الحظ على أن أبناء يناير لم يصلوا إلى السلطة، وبالتالي “لم يتلوثوا بعد”.

ليس الافتقاد للشك وأدواته، بخصوص النظرة إلى النظام، هو ما يظهر في خطاب العليمي فقط، بل أيضا في استخدام مفاهيم مثل “الجماهير”، “الجموع”، “الملايين”، وجميعها مصطلحات سياسية ميّزت حقبة التحرر الوطني، بما تستدعيه من تعبئة شعبية في مواجهة الملكيات أو الاستعمار، بدون اللجوء لأدنى إشارة إلى المسألة الاجتماعية، والتي بدون التطرّق لها يصعب تفكيك مفهوم “الجماهير”، أو التراتبية الطبقية وما تشكّله من مصالح وقوى، الأمر الذي يدفع العليمي للاستغراق في مقولات مثل “الاستبداد”، “الفساد”، “مصر كبيرة على الجميع”، الخ. وهي كلها مفردات وقوالب تبدو مستعارة من قاموس “قيم الأسرة المصرية”.

ربما يطمح الشيخ علي جمعة أيضا إلى مخاطبة تلك “الشبابية السياسية”، فهي ليست بعيدة أبدا عن عالمه، وعالم خطابه الديني، ولكن هل من جدوى لسعيه؟

الحفاظ على التراكم: هل يستطيع الشيخ إنقاذ “الشباب”؟

بالرجوع زمنيا لكتابات أواخر الستينيات، نجد صدى لتساؤلات، تبلورت في مفردات مثل “النكبة”، “النكسة”، “الانكسار”، “الهزيمة”. لم تُستعمل هذه المصطلحات للحديث عن هزيمة عسكرية فقط، بل عبّرت بشكل ما عن “حال اجتماعي عام”، يعيش عصر الهزيمة بامتياز، على كافة الأصعدة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ورغم تعدد وتنوع وأهمية الكتابات، التي مثّلت هذه الاتجاه، إلا أن المشكلة تكمن في ما يصفه المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري (3) بالقول: “من المظاهر الفاجعة في الحياة العربية الحديثة أن البناء الفكري والاجتماعي لا يتراكم طبقة فوق طبقة، ومرحلة بعد أخرى، ليعلو ويتكامل، بل ترى كل جيل يصاب بالخيبة في قناعات الجيل السابق. ثم ما يلبث أن يفجع في قناعاته ذاتها، فلا يُسلّم شيئا ثابتا للجيل الذي يليه، غير مرارة التجربة”.

نرى اليوم أجيالا صاعدة، تكوّن خبرات، وتشق طريقا لوجودها، بينما تظهر المسيرة الفكرية والثقافية لسياقها التاريخي بكونها “ذاكرة مجروحة” (4) تتوهم دوما بأنه يمكن أن يكون للفرد أو الأمة الهوية نفسها عبر الزمن. ومع هذا القدر من التصلّب، تغدو أيضا في المقابل أية مراجعة فكرية، أقرب لأن تكون محاولة بائسة لجلد الذات.

وفق هذا السياق يظهر الأمر لا باعتباره خطأ في التحليل، بقدر ما يبدو أن هناك خللا في المنطق الذي يجري على أساسه التحليل، الأمر الذي يُفضي إلى انعدام قدرة الأدوات الثقافية والفكرية على الاشتباك مع المستجدات الاجتماعية، ما يجعل الخيار الأسهل هو الركون للصيغ التقليدية من ناحية، والتي تحدد الأمور وفق ثنائية حلال/حرام، أو أخلاقي/غير أخلاقي؛ بجانب إعادة إنتاج مقولات مُستهلَكة من ناحية أخرى، تبدو دوما كأنها عصية عن أن توضع محل الشك. ولعل هذا هو الجانب الأكبر، المُعبّر عن أزمة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية المعاصرة.

ربما كان الشيخ علي جمعة يحاول في برنامجه، ونشاطه الموجه للعموم، الحفاظ على تراكم ما، ونقله إلى أحيال جديدة، تعيش ظروفا شديدة الصعوبة، ويطبعها التشتت. إلا أن الشيخ، في محاولته لقولبة الواقع ضمن قيم “لا تخالف شرع الله”، وإن كانت لا ترفض “العصر”، لا يفعل أكثر من تكرار المنظورات نفسها، التي تؤدي دائما إلى “انكسار”، ثم “تفجّع”.

سيفرح شبابٌ كثر بالشيخ العصري، إلا أن الواقع سيصدمهم دائما بمشاكل وأسئلة وأزمات وصراعات، لن يجدوا في كلام الشيخ ما يعبّر عنها. وربما ليس افراطا في التشاؤم القول إن “الشبابية” المعاصرة، سواء كانت شبابية “ديتنغ” أو شبابية سياسية، ستصل مجددا إلى لحظة “نكسة”، ولن يستطيع الشيخ فعل شيء لإنقاذ الجيل الجديد الذي يخاطبه.    

المراجع

(1) الانفجار العربي الكبير في الأبعاد الثقافية والسياسية، مجموعة مؤلفين

(2) تفكيك الثورة، جلبير الأشقر ولوسي ريزوفا ووالتر ارمبرست

(3) العرب والسياسة، محمد جابر الأنصاري

(4) الذاكرة والتاريخ والنسيان، بول ريكور

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 2 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات