مشكلة “الست وهيبة”: ماذا يكشف السجال العراقي عن “إهانة المقدسات”؟

مشكلة “الست وهيبة”: ماذا يكشف السجال العراقي عن “إهانة المقدسات”؟

مع حلول شهر رمضان، وبداية موسم بث المسلسلات الرمضانية، أثار مسلسل “عالم الست وهيبة”، في جزئه الثاني، موجة من الجدل الواسع والانتقادات. وقد كان الجزء الأول منه  قد  عُرض سنة 1997، في فترة النظام السابق، مع الحصار الاقتصادي على العراق. وكانت أحداث القصة تدور حول معاناة الممرضة “وهيبة” في بغداد، بسبب الحصار، والوضع الاقتصادي المتردي، والمشاكل الاجتماعية، مثل شيوع السرقة وانتشار العصابات. تظهر في الجزء الأول شخصية “مهيدي”، وهو عضو في إحدى العصابات، وقد عادت تلك الشخصية للظهور في الجزء الثاني.

تركزت كل الانتقادات على أن ظهور “مهيدي” مجددا سنة 2024، ما هو إلا “إساءة للرموز الدينية”، لأن اسمه يشبه اسم “الإمام المهدي”، وهو الإمام الثاني عشر، المنتظر، عند الطائفة الشيعية. وقد كان على رأس موجة اللغط النائب سعود الساعدي، عن كتلة “حقوق”، التابعة لـ”كتائب حزب الله العراقي”، فقد طالب هيئة الاعلام والاتصالات بإيقاف بث المسلسل، بذريعة أن هناك شكاوى ومناشدات من مواطنين، تطالبه بهذا. وببحث بسيط يتبيّن أن أغلب تلك الشكاوى أتت من شيوخ ومعمّمين، تابعين للتوجّه الحزبي نفسه، قاموا بالتحريض على المسلسل من على المنابر، الأمر الذي تلقفته لجان وجيوش إلكترونية على الإنترنت.

ديوان الوقف الشيعي استجاب لتلك الموجة، وأصدر بيانا يندد فيه بالمسلسل: “تناولت مؤخرا إحدى المسلسلات العراقية، للأسف الشديد، ضمن السيناريو المعد لمسلسل “عالم الست وهيبة/ الجزء الثاني” إيحاءات تمسّ رمزا دينيا لشريحة واسعة من الشعب العراقي، بإظهار إحدى شخصيات المسلسل، التي اتسمت بالجريمة والعدوانية“. وأكد الديوان أنه اتخذ الإجراءات القانونية، وأنه سوف يبقى ملتزما بحماية الهوية من التدنيس.

بالمحصلة، تم اقرار الأمر ولائيا. فقد أوقف عرض المسلسل، بقرار من القضاء العراقي، الذي استجاب لدعوى رفعها مؤلف المسلسل صباح عطوان على القناة المنتجة، قبل فترة من عرضه، بسبب تغيير السيناريو والتحريف، وبالتالي انتقلت القضية من مسار المساس بالمقدس، إلى خلاف بين جهة المنتجة والمؤلف.

هناك شيء من العبثية في كل هذه الاحداث، من تحرّك المعممين؛ إلى مناشدات النائب الولائي؛ ومن ثمّ ظهور حسابات وهمية، تثير القضية على المنصات الافتراضية؛ وبيان الوقف الشيعي؛ وصولا إلى تحريك القضية القديمة، بين المؤلف والجهة المنتجة، وسط صمت تام من وزارة الثقافة العراقية ومؤسساتها. يبدو أن “الرموز الدينية” صارت أمرا واسعا، لدرجة أن مجرد اسم في مسلسل قادر على المساس بها، فيما باتت الدولة، بكل هيئاتها السياسية والقضائية، معنية أساسا بحماية تلك الرموز الحساسة، من الاعتداء اللانهائي عليها. ما الذي يفسّر هذا العبث؟ وهل بإمكان “الست وهيبة” أو غيرها، المساس حقا بكل تلك المقدسات؟

مصادفات غير مدهشة: ما السياق السياسي للموجة ضد “الست وهيبة”؟

يمكن تفسير السجال، الذي دار حول “عالم الست وهيبة”، من خلال وضعه في سياق سلسلة من الأحداث المشابهة، التي شابهته في “إثارة الجدل”. هنالك  ما سُمى “ماراثون البصرة”، وكان سبب “الجدل” والاعتراض مشاركة النساء فيه. ومَنْ بدأ الاعتراض عليه الجهات نفسها، التي اعترضت على المسلسل، ما أدى بمنظمي تلك الفعالية إلى منع النساء من المشاركة. انتصرت القيم!

قبلها كان هناك جدل واعتراض كبير على حفل موسيقي، كان من المفروض أن يُقام في “مدينة سندباد لاند” السياحية، وبعد تجاهل تلك الاعتراضات من طرف منظمي الحفلة، قامت مجموعة من المعممين ومؤيديهم، بالاحتجاج في المدينة، وإقامة صلاة المغرب داخلها، لمنع اقامة الحفلة، ولـ”المصادفة” غير المفاجئة، كان المحرضون والمحتجون والمصلّون منتمين إلى كتاب “حزب الله”. القيم تنتصر مجددا.

محتجو “مدينة السندباد” كانوا يرددون هتاف “كلا كلا للموسيقى“، وهذا الشعار لا يقتصر على الصالات الترفيهية، بل وصل إلى الجامعات، اعتراضا على احتفالات خريجيها، لما فيها من موسيقى وغناء. الأمر التي تمخضّ عنه قيام مجموعة من شباب كلية الطب بجامعة بغداد، يتمتعون بعلاقات مع حركة “عصائب أهل الحق” الولائية، بمنع تشغيل أغان او موسيقى في حفلات تخرّج الطلاب. إنه مقدس أهل الحق الذي لا يهزم.

هناك مزيد ومزيد من مثل هذه الحوادث، ولكن هذا القدر يكفي لفهم أنها محاولة هيمنة على الحيز العام، عبر خوض “حرب ثقافية” في كل مكان. ولكن هذه الحرب لا تتم بشكل عادل، كما في بعض الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة، حيث تدور كثير من الصراعات الثقافية للهيمنة على الحيز العام والثقافة الجماهيرية، بطرق أقرب للسلمية؛ وإنما تدور بشكل غير متكافئ، فتلك الجماعات الولائية تستعين بالنفوذ السياسي والقوة المسلّحة، لفرض اعتقادها. وأي محاولة للوقوف في وجهها، تعني المخاطرة بالحياة.

علاوة على هذا، فإن عملية الهيمنة هذه تعمل على تشكيل وتعزيز هوية معينة، وتؤكد على قوة الجماعة الحاملة لها، وتنشر بين المنتمين إليها الإحساس بالفخر. فالهوية ليست شيئا جوهريا، وإنما بناء اجتماعي/سياسي له جانبه الديناميكي، يعرف به الفرد جماعته، من خلال اعتقادات ومشاعر ورموز.

في الحالة العراقية، تؤكد الهوية، وتُخلق مظاهر قوتها، من خلال مثل تلك الأحداث، المُستتبعة لمشاعر الفخر. والمشاعر بطبيعتها انفعال، وتحتاج لمثير لها، واستعراض القوة الثقافي ذاك، يكون بمثابة المحفّز، الذي يعزز الشعور بالانتماء. ومثلما تؤكد تلك الأحداث الشعور بالانتماء للجماعة، فهي بالوقت نفسه تحدد الآخر، وتزيد من بعده عن الذات، وتعزز الفوارق بين “نحن” و “هم”.

“الآخر” واسع جدا، إنه العدو الخارجي وعملاؤه، من فنانين ونساء ومستمعين للموسيقى، وأي شخص لا يبدو ولائيا بدرجة كافية.  

صناعة الآخر: من “السني البعثي” إلى “الجندر”

إن مثل هذه الاحداث ليست فريدة في واقع عراق ما بعد 2003، وإنما استمرار لمحاولة بناء هوية عصر ما بعد صدام. ولكن مع “آخر” مختلف. ويمكننا تقسيم تاريخ بناء الولائيين للهوية والآخر إلى ثلاث مراحل: الأولى كانت فترة ما بين 2003 إلى 2010، وهي مرحلة الاخر “البعثي السني”، الذي يهدد مكاسب “الشيعة”، بعد صبر وظلم وكفاح طويل لرد اعتبارهم، واقترابهم من الحصول على التعويض. وأهم ملامح هوية الولائيين، في تلك الفترة، خطاب المظلمة الممتدة تاريخيا، على يد الآخر السني، من أبو بكر وعمر، وظلمهما لعلي بن أبي طالب، وصولا لصدام حسين، وظلمه للمراجع الكبار للشيعة.

نشطت في تلك الفترة مثلا مواكب وشعائر، يكثر فيها الهجوم على أبو بكر وعمر، وغيرهما من رموز السنة، مع تقصّد تسيير تلك المواكب في مناطق يكثر فيها المواطنون السنة. وأيضا بث برامج تلفزيونية بشكل كثيف، تحوي مناظرات بين السنة والشيعة. سيطر الخطاب الطائفي على المناخ السياسي آنذاك، لدرجة أن النائب حنان الفتلاوي، قالت في لقاء متلفز حينها: “أنا أريد توازن حتى بالقتل، فلما يقتل سبعة شيعة أريد في مقابلهم سبعة سنة”.

أما المرحلة الثانية، من تاريخ تشكيل الهوية و”آخرها”، فامتدت منذ انتخابات عام 2011 إلى عام 2017. فقد بدأت بخيبة الأمل الكبيرة لتحالف السياسي إياد علاوي، الأقرب للعلمانية، والذي كان يضمّ كثيرا من السنة. فرغم أنه كان الفائز الأول في الانتخابات، إلا أنه حُرم من تشكيل الحكومة، بسبب تفسير نص قانون تحديد الكتلة الأكبر في البرلمان لصالح تحالف نوري المالكي، زعيم “حزب الدعوة” الإسلامي الشيعي. الأمر الذي أدى إلى اعتصامات ومظاهرات في المحافظات السنية. وانتهت هذه المرحلة بالحرب ضد داعش والانتصار عليها.

 هذه المرة كانت الهوية الشيعية تُصاغ وتُشكّل بطريقة جديدة، ذات بعدين داخلي وخارجي. كان الآخر هو “المدني”، الذي يهدد مكاسب الشيعة، ويحاول الاستيلاء على النظام السياسي. وازداد الحديث في تلك الفترة عن المؤامرة و”الاتفاقيات في الغرف المغلقة”، والأطراف الخارجية، التي تتعامل مع الخونة بالداخل لزعزعة النظام. وكان الختام انتصارا حاسما لـ”الهوية”، بعد الحرب ضد داعش، التي صارت العدو الواضح، وأي معترض أو محتج يمكن نسبه إليها، وكذلك أي شخص، ولد، لحظه العاثر، في منطقة سيطرت عليها داعش. وهكذا سكت “المدنيون” و”السنة”، وانتصرت “الهوية”.

أما المرحلة الأخيرة، الممتدة من عام 2018 إلى يومنا هذا، فهي مرحلة “الآخر” الخارجي تماما، الذي يحاول ان يفسد جماعتنا الطاهرة المنتصرة، أي الغربي، والعميل له، الذي يريد تخريب عوائلنا، وضرب قيم مجتمعنا. وقد تبدّل وجه هذا الآخر، من متظاهري “انتفاضة تشرين” عام 2019؛ مرورا بمستخدمي كلمة “جندر” والمثليين و”المتشبّهين بالنساء”؛ وصولا إلى أي فتاة تريد الركض، أو شاب يريد الاحتفال بتخرّجه، أو حتى “الست وهيبة”.  

العدو الضروري: ما عوائد دمج العراق بإيران ثقافيا؟

إن المسؤولين عن مثل هذه الأحداث، التي تهدف لهيمنة نمط من الثقافة، والسيطرة على الحيز العام، لا يسعون إلى زيادة تقوى الشعب العراقي مثلا، أو رد مظلمة الحسين، بعد أكثر من أربعة عشر قرنا، بل تحرّكهم دوافع سياسية واقتصادية، فضلا عن التدخلات الخارجية.

من جهة السياسة، فإن تعزيز الهوية، وإرهاب “الآخر”، هو ضامن لبناء كتلة انتخابية توصل إلى السلطة. وقد لاحظ كثيرون أنه مع اقتراب أية انتخابات في العراق، يحدث تفجير ما، أو توتر أمني، يليه خطاب مفعم بالطائفية. لدرجة أن معظم العراقيين تعودوا على هذه الحالة، فإن سألت أحدهم عن سبب حدوث انفجار في هذه الفترة، لأجابك “قرب الانتخابات”. وأيا كانت دقة هذا الانطباع، فهو يشير إلى وعي عام بأهمية خطاب التحريض، والتهديد من الآخر، في بناء الكتل الانتخابية في العراق.

اقتصاديا، تمتد شبكات الفساد، التابعة للمجموعات الولائية، في كل مفاصل الدولة، كما تسيطر على جانب كبير من الاستثمارات والأعمال الخاصة، وكثيرا ما تجبر التُجّار والمستوردين على مقاسمة أرباحهم مع قيادات تلك المجموعات. بناء “الهوية” يساعد في التغطية على نشاط اقتصاد الظل هذا، ومنحه طابعا عقائديا، وإظهاره ضروريا لحماية العراقيين الشيعة من أعدائهم اللانهائيين.

من ناحية التدخلات الخارجية من طرف ايران، يمكن اعتبار كل تلك الأحداث محاولة لمد أحكام وشرائع “الجمهورية الإسلامية” إلى العراق، وتطبيقها، ربما بشكل أكثر تطرفا من إيران. فالمجتمع الإيراني شديد الحيوية، ويصعب إخضاعه بشكل كامل لحكم الملالي. فيما تؤدي المشاكل الطائفية في العراق، وانهيار معظم مؤسساته، وكثير من بناه الاجتماعية، إلى جعله مطواعا أكثر لأحلام العقائديين الخمينيين.

كما أن دمج العراق بإيران ثقافيا ضروري لتوازن “محور المقاومة”، إذ تتعالى حاليا في العراق كثير من الأصوات ضد هذا المحور، وحماية “المقدس” و”الهوية” ذريعة جيدة لإسكات تلك الأصوات، خاصة إذا تذكرنا أن العراق مموّل رئيسي لبقية أجنحة المحور. ففيه تنظّم حملات التبرّع لمليشيا لحوثي في اليمن، او الميليشيات الشيعية في سوريا؛ ومنه تُهرّب العملة الصعبة الى إيران؛ وفيه يتحرك كثير من عناصر الجماعات الإجرامية بحرية كبيرة، وهي جماعات ضرورية جدا لنظام اقتصاد الظل الإيراني.

لا تهدد “الست وهيبة” المقدسات والرموز، في الواقع لا تهدد شيئا. إلا أن “الهوية” نفسها لا تقوم إلا على ادعاء الشعور بالتهديد. و”الآخر” المُهدّد أكثر ضرورة لها من “المقدس” نفسه.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 2 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات