الحالة المحيرة لبراين جونسون: هل “تجارة الخلود” مستقبل الأثرياء؟

الحالة المحيرة لبراين جونسون: هل “تجارة الخلود” مستقبل الأثرياء؟

في كانون الثاني/ديسمبر من العام الماضي، وقع سجال بين ايلون ماسك، المالك الحالي لمنصة إكس (تويتر سابقا) ورجل الاعمال المليونير براين جونسون، والسبب قد يبدو غريبا للوهلة الأولى، فماسك كان قد نشر تدوينة تقول إن “جونسون كان يبدو أكثر صحة، قبل أن يبدأ روتينه الخاص”، والذي ينفق عليه مليوني دولار سنويا، هنا تدخّل جونسون لمواجهة ماسك، وعلّق قائلا: “الفرق بيني وبينه (ايلون ماسك) أنني سأُغذيك ثم أشرب دمك، أما هو فسوف يطردك من وظيفتك، ويتركك تلاقي مصيرك“.

يقدّم برايان جونسون نفسه على منصات التواصل الأجتماعي (تويتر ويوتيوب) على أنه الشخص، الذي يتصدّى لهدف ومُهمة البحث عن الخلود، فمن خلال روتين يومي، يستغرق أغلب وقته، ويكلّفه مليوني دولار سنويا، يبحث برايان عن طريقة للقضاء على الشيخوخة، وعكس العمر البيولوجي للجسم، وفي مهمته تلك يستعين بالعلم، وكل ما يوفّره من بيانات، سواء من ناحية الطعام النباتي المناسب، أو الطرق المناسبة لممارسة الرياضة، وحتى أحدث الأدوات للعناية بالبشرة. وقد أخبر جونسون متابعيه أنه يستخدم ابنه وعاءً لتجديد خلايا البلازما في دمه، بعدما عرض على والده التبرّع له بالخلايا، ورفض الأب ذلك، فجعل جونسون ابنه يقوم بذلك، وربما تكون تلك هي المهمة الوحيدة للابن حاليا.

يمتلك برايان قناة على يوتيوب، يقدّم من خلالها فيديوهاته المشهورة عن العناية الشخصية بالجسد، فهو يشرح طرق العناية بالشعر والبشرة، وألعاب رفع الأثقال، وطرق إعداد الغذاء الصحي، واليوغا، مع نصائحه وفلسفته في الحياة، والتي تتمحور حول البقاء حيا لأطول فترة ممكنة، ربما لعمر مئة وعشرين سنة، وما يزيد، أو حتى الخلود، مستخدما في ذلك أحدث الأبحاث والبيانات العلمية، كما يدّعي.

ويُقابل جونسون بنوعين من المتفاعيلن، هناك المتحمسون والتلاميذ المخلصون، الذين وجدوا فيه مثالا، عليهم أن يسعوا إليه، فهو يقدّم نوعا جديد من ريادة الأعمال Interpreneurship، لا يقتصر على بدء شركة ناشئة، أو الاعتناء بالذات وتحقيق الثراء، لكنه يبحث عن الخلود حرفيا، ليغازل رغبة بشرية قديمة، قدم الوجود البشري نفسه، حلم بالمستحيل، لطالما بحث عنه العظماء، وجاءت دونه الأديان، لتخاطب المخلوق الفاني، الموجود هنا والآن مؤقتا.

أما النوع الأخر، فهم أكثرية من الرافضين والمشمئزين، الذين يطلقون عليه لقب “مصاص دماء”، فالرجل ذو ملامح شاحبة، ووجه منسّق الي درجة الرعب، يحيا في بيئة غاية في النظافة والعزل عن العالم الخارجي، وكأن عالمه نسخة من المستشفى وغرفة العناية المركّزة، وبغض النظر عن اللقب الذي يلصق به، بسبب شكله الخارجي، فالرجل يعيش على دم أبنائه حرفيا,

يمتلئ موقع يوتيوب بفيديوهات لأشخاص، حاولوا تجربة روتين جونسون لمدة يوم أو أكثر، وتنتهي عادة بالفشل الذريع، والآلام المبرحة، فمَنْ يحتمل ابتلاع مئة حبة من الفيتامينات والمكملات، وشرب معالق من الزيوت، وتناول طعام وأعشاب غير مستساغة، لهدف غير واضح؟

لكن من هو برايان جونسون حقا؟ وكيف يفكر؟ ولماذا احتلت ذهنه فكرة الخلود، وأصبحت هدفا له؟ وكيف بحث البشر على مر تاريخهم عن الخلود؟ وهل يحاول جونسون أن يبعنا شيئا ما هو أيضا؟

“لا تمت”: كيف تجاوز برايان جونسون الانتحار إلى “الخلود”

برايان جونسون رجل أعمال أميركي، يبلغ من العمر ستة وأربعين عاما، نشأ في عائلة مورمونية متديّنة، وقضى عامين، خلال فترة شبابه، يعمل مبشّرا في الإكوادور، ويحكي أنه خلال تلك الفترة، سيطرت عليه رغبة واحدة، وهي تغيير العالم للأحسن، ومساعدة البشر. وكي يتمكن من تحقيق هدفه، فهو بحاجة إلى جمع الأموال. وخلال الأعوام من 1999 حتى 2003 أسس برايان ثلاث شركات، وعلى الرغم من أنها لم تكن ناجحة للغاية، لكنها أعطته فكرة عن كيفية إنشاء الشركات. وفي العام 2007 أسس جونسون شركة Braintree للدفع الإلكتروني، والتي أخذت التصنيف السابع والأربعين من بين أكثر 500 شركة نموا في الولايات المتحدة، وفي العام 2013 باع شركته لـpaypal، مقابل 800 مليون دولار أميركي.

يقول جونسون إن تلك الفترة كانت الأسوأ في حياته، فتحت ضغط العمل والتنافس الذي لا يرحم، ومشاكله العائلية، والاكتئاب المزمن، والشك الديني، وصل إلى حد الرغبة في الانتحار، بل ومحاولته، إلى أن أخذ قراره ببيع شركته، والخروج من الإيمان، والانفصال عن زوجته، ومن هنا وجد نفسه في حاجة إلى فكرة جديدة، يحقق بها رغبته الأصلية في تغيير العالم، حتى توصّل إلى “البحث عن الخلود”، وفي العام 2016 اتجه لتمويل شركة ناشئة جديدة، اسمها Kernel، وهي معنية ببناء جهاز يقيس الموجات الكهرومغناطيسية في المخ، وتتجه إلى طرح منتجاتها قريبا للبيع، بهدف علاج أمراض مثل الزهايمر، الشيخوخة، الأزمات الدماغية، بل وحتى للناس العاديين، كي تساعدهم على التحكّم بموجاتهم الدماغية، عن طريق اليوغا والتأمّل.

وفي العام 2021 أطلق مشروعه الأشهر، الذي جذب له كل الاهتمام، وهو مشروع “Blue Print”، المعني بعكس الشيخوخة، إذ يعتقد برايان أن لكلٍ منّا ساعة خاصة، يعمل وفقها الجسد، ويقسّم هذه الساعة إلى ساعات كثيرة، إذ يُقسِّم الجسم البشري إلى سبعين عضوا، لكل منها ساعة بيولوجية خاصة، معنية بزيادة سنها أو نقصه. يقول برايان إنه الشخص الذي قيست أعضاؤه البايولوجية، أكثر من أي إنسان مشى على سطح الأرض. هذا القياس جعله يحدّد عُمر كل عضو فيه بدقّة، فيقول إن مخه أصغر بتسعة أعوام من سنه الطبيعي؛ وكبده في عمر شاب في مقتبل العمر؛ وعضوه الذكري في عمر الثامنة عشر.

يعتقد جونسون أن الهدف الأهم لكل انسان هو “لا تمت”، وهو شعار مشروعه، ويريد بفلسفته أن يتجنّب الحديث عن الاختلافات السياسية والدينية والهوياتية، ويقفز للمستقبل، الذي يمكّن البشرية من التوحّد على رفض كون الموت حتمية وحيدة، ويقول إنه هدف أسمى وأفضل من أي هدف تقدمه الرأسمالية المعاصرة، لأنه يضمن القضاء على النزاعات، أو على الأقل تجميدها.

ينطلق رجل الأعمال الأميركي في فلسفته تلك من مبدأ واحد، وهو العقل، ويعتقد أن تغيير العالم يبدأ من تغيير الذات، وتحديدا صيانة مخ وعقل الانسان، وتحسين كفاءة عملهما، ومع تحسّن كفاءتهما، يبدأ الإنسان في مد صلات وروابط مع العالم الخارجي، ليكيّفه مثلما يعمل عقله هو، لا تكييف عقل الانسان كيفما يعمل العالم.

تحمل هذه الفكرة في الحقيقة جذورا دينية، تجد لها صدى في طفولة جونسون ونشأته، وتمثّل لديه بطلا (protagonist) في مواجهة عدو كاد يفتك به، وهو نظام العمل والتنافس الرأسمالي، بوصفه (antagonist). لكن، وبدلا عن طرح بدائل اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، فإنه يطرح فكرة رأسمالية أخلاقية، تلتزم أقصى قدر ممكن من النباتية، وممارسة الرياضة، والنوم مبكرا، من أجل نيل الخلود، ريثما تتحسّن الحياة على الكوكب، نتيجةَ لتمسّك الجميع ببرنامج عمل أخلاقي، مثل الذي يطرحه.

يغذي بريان خيالنا من التراث الإنساني، ويتحدث إلى رغبة دفينة داخلنا، للبقاء ومحاربة الموت، ما يجعل من مشروعه منتجا رائجا. لكن من أين أتى هذا الخيال حقا؟

البحث عن “المعدن السائل”: ماذا أكسبنا السعي للخلود؟

تحفل الثقافة الإنسانية بقصص وأساطير لبشر، حاولوا البحث عن الخلود، واتقاء مصيرهم المحتوم. “ملحمة جلجامش”، وهي واحدة من أقدم النصوص الإنسانية، ان لم تكن أقدمها، تحكي قصة ملك عظيم، حكم مدينة أوروك في بلاد النهرين، بين أعوام 2800 و2500 قبل الميلاد. قضى هذا الملك بدايات حكمه بالشدة والقسوة تجاه محكوميه، حتى تدخّلت الألهة، وأرسلت له أنكيدو، كي يتوقف عن كبريائه، وبعد صراعات مريرة بين جلجامش وأنكيدو، أصبح الاثنان أصدقاء مقربين، وفي خطوة انتقامية، حكمت الآلهة الغاضبة على جلجامش أن يعيش فقد صديقه المُقرّب، ويشعر بالحزن والخوف من الموت القائم أمامه، والمهدد لكيانه. يقول جلجامش: “كيف لي أن أبقى صامتا، كيف لي أن أعيش بسلام، بينما انكيدو الذي أحب تحوّل الي تراب؟ إحساس العجز يلتهمُ قلبي، ما لاقاه أخي اليوم سوف ألاقيه عندما أموت“.

 وأمام هذا الرعب، والشعور الطاغي بالحزن وفقدان معنى الحياة، قرر جلجامش البحث عن “اونونابيشتم”، وهو الشخصية التي تعادل شخصية نوح في الديانات الإبراهيمية، الناجي الوحيد من طوفان عظيم، إذ تخيّل جلجامش أن لقاءه بهذا الشخص يمكّنه من الحصول على سر الخلود، وتفادي الموت. تنتهي رحلة جلجامش بخيبة كبيرة، لكنه، ورغم هذه الخيبة، ينتهي به المطاف مكتسبا للحكمة من رحلته الوجودية تلك، تُغيّرت طباعه القاسية، وصار ملكا حكيما، حكم لعمرٍ طويل.

في كل اسطورة للبحث عن سر الخلود، تنتهي البشرية باكتساب شيء ما، أخلاقي أو مادي، قصة الامبراطور الصيني كين شي هوانج مثلا، في الفترة 221 قبل الميلاد، تحكي عن إمبراطور عظيم، أرسل الوفود بحثا عن “إكسير الحياة”. تحكي الأساطير عن معدن سائل، يُطيل العمر، ويقضي على الموت تماما. هذه الأساطير الصينية انتقلت إلى أوروبا في عصورها الوسطى، وأثّرت على الخيميائيين، ومن ورائهم الباحثين عن الخلود، الذين اعتقدوا أن “المعدن السائل” هذا هو الرصاص، لذلك ربما يسجّل التاريخ الصيني حالات عديدة لأباطرة، ماتوا نتيجة التسمم من الرصاص. ورغم المفارقة الساخرة، في أن البحث عن إكسير الحياة والأبدية ينتهي به المطاف لتجرّع سُم رصاصي، إلا أن هذا المبحث أدى لتطور علم الخيمياء الصيني، وظهور بوادر لعلم الكيمياء التجريبي، مع اكتشاف الصينيين للبارود والكبريت والملح الصخري، والقدرة على اجراء تجارب عليه، واستخدامه بشكل علمي.

البحث عن الخلود لم يكن منبعا خصبا للآداب والميثولوجيات القديمة فقط، إنما أثّر على أفكار مستكشفين في عصور التوسّع الجغرافي والاستعمار، مثل المستكشف الاسباني جون بونسي ديلون، الذي أخذ في البحث عن “نبع الشباب”، الذي يعيد الشباب والصحة، ويقضي على الشيخوخة، لتنتهي مساعيه إلى اكتشاف فلوريدا الأميركية. ما يُحيلنا الي كتابات هيرودوت عن الاسكندر المقدوني، وبحثه عن “نهر الجنة” ،الذي يمتلك خواص “نبع الشباب” نفسها.

لايمكننا تصوّر تلك الرغبة الحميمة والإنسانية جدا في البقاء، وما تصنع في الخيال البشري والفانتازيا المعاصرة، إلا بمتابعة الفيلسوف الألماني آرتور شوبنهاور، وتحديدا فكرته عن “إرادة الحياة”، فشوبنهاور يرى أن خلف عالم الظواهر والمنطق والسببية، يربض عالم مختلف تماما، هذا العالم يتقاذف ليس فقط البشر والحيوانات، وإنما الجمادات أيضا، للبقاء، وتحكمه إرادة الحياة، التي تتحكّم في الكائن، وفي سلوكياته، مشكِّلة خطوطه الحمراء، وأهم تصوراته عن نفسه وعن العالم. وينسب شوبنهاور لهذة الإرادة ثلاثة عناصر:الوحدة، الخلود الأبدي، الحرية المطلقة، وهي ما يجعلنا أكثر تأثّرا بفكرة الخلود، وأقل قدرة على تخيُّل الفناء، رغم كونه اليقين الوحيد في الحياة.

إثبات الكينونة الإنسانية ضد العدم، ربما يكون السبب الأبرز في كون فكرة الخلود لامعة ومنطقية ومُثيرة لخيالنا.

تجارة الخلود: ما الذي سنشتريه في سوق إطالة العمر؟

يقول برايان جونسون إنه لا يؤمن بشئ غير قابلٌ للقياس، إلى درجة أن روتينه، الذي يتحكّم في حياته، ومايدخل جسده ويخرج، هو في الحقيقة مجرد خوازمية إحصائية، أي أن وسيلته لتحقيق فكرته علمية بحتة، ولا خلاف عليها، الا أنه تعرّض لانتقادات وتشكك متصاعدة مؤخرا، وتحديدا من قِبل علماء متخصصين في الجينات، وحتى في تخصصات إطالة العمر نفسها. إذ يُشكك البروفسير موشيه سزيف في إمكانية تحقيق العلم والأدلة الإحصائية لأية نتائج، مثل التي يتبناها برايان بمنتهى الثقة؛ أما أندرو ستيل، العالم المتخصص في إطالة العمر، فيقول إن الجينات تلعب الدور الأهم في تحديد جودة الحياة ومدى العُمر، بحيث لايمكن التغلّب على ذلك بأي طريقة.

لكن إن كانت هذه هي مداخلات المتخصصين، بخصوص أفكار ومشروع جونسون. فماذا يريد هو فعلا؟

يقول المتابعون لجونسون إنه يريد أن يفتتح العلامة التجارية الأشهر في مجال العناية الشخصية بالصحة، سواء في التغذية النباتية، أو في العناية بالبشرة، أو بيع مكملات غذائية، لتأتي هذه المنتجات في سياق فلسفة أكبر، وفانتازيا بشرية تضرب في عمق التاريخ والأدب، وهي “البحث عن الخلود”، وبالفعل يُجهّز جونسون لأطلاق علامته التجارية ومشروعه blue print، وبيع منتجات غذائية، ومشروبات، وأنظمة دايت، وأنظمة تدريب بدني، وغيرها من المنتجات الاستهلاكية.

يحاول جونسون غالبا الانضمام إلى سوق كبير، آخذ في الاتساع وجذب الاستثمارات، والمشاركة في فقاعة تسويقية حديثة، مرتبطة بكل شؤون إطالة العمر وتحقيق الخلود، فيها الشركات التي تُجمّد جثث الموتى، انتظارا لتحقيق العلم طفرة في التغلّب على الموت؛ أو تخصصات الـbio-hacking، التي تحاول التلاعب جينيا بكل العناصر المحددة سلفا فينا، وتجذب الباحثين الهواة حتى للتجربة على أنفسهم.

يبدو أن أسهم هذا السوق ستتجه للصعود مستقبلا، وسيكون المتفاعلون معه مستثمري بورصة، أو مُلاّك أسهم، أو مؤثرين على مواقع التواصل، أو حتى مستهلكين عاديين، تداعب خيالاتهم فكرة الخلود، لكن الأكيد أن أحدا منهم لن يصبح خالدا، أو هذا ما يخبرنا به العلم حتى الآن.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 4 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات