شوارع مثيرة: هل تسلب النساء والإنترنت المدينة رشدها؟

شوارع مثيرة: هل تسلب النساء والإنترنت المدينة رشدها؟

بينما يتبوّل سائق تاكسي، أسفل أحد الكباري في القاهرة، يجلس حبيبان أعلاه، يمسكان بأيدي بعضهما، ويتبادلان قبلة. تختار سيدة متلصصة واقعة الشاب والشابة لتصويرها، ثم تقوم برفعها على الإنترنت، لتشكو تردي أخلاق المجتمع المصري. تتداول حسابات منصات التواصل التسجيل المصور، ويصل الأمر إلى القضاء، بين متهمٍين للحبيبين بممارسة الفعل الفاضح، وآخرين يرون أن السيدة اخترقت خصوصيتها بالتصوير. وسط سيل لا ينتهي من التحسّر، حول ما وصلت إليه أوضاع المصريين.

وبرغم أن المتبوّل في الشارع يمارس، من وجهة نظر القانون، فعلا فاضحا، إلا أنه فعله بات اعتياديا، لا يثير حميّة السلطات وأنصار الأخلاق العامة، فيما أثارت صورة الحبيبين النصيب الأكبر من نقاشات الحيز العام، وأطلقت كل ردّات الفعل الممكنة: الاستهجان، الاعتراض، التفهّم، الغضب. وبين كل هذه الانفعالات ينمو سؤال: متى وكيف أصبحت شوارعنا مثيرة لكل هذه العواطف والانفعالات؟

ومن الشوارع إلى الإنترنت، يندلع على منصات التواصل الاجتماعي، في كل فترة، تريند جديد، يخصّ صانع محتوى، “يهدد” القيم والأعراف المعهودة في المجتمع المصري, ويُلاحق مصدر التهديد بتهمٍ مختلفة، ولكن العنصر الثابت على أول القائمة هو “تهديد قيم الأسرة المصرية”. هذه التهمة الفضفاضة أصبحت حديث الفضاء العام في الإنترنت.

عادةً تكون ردود الفعل العنيفة تجاه هؤلاء الأفراد، من قبل من يتحدثون بصيغة الجمع ولسان المجتمع، هي المحفّز تجاه الاستنفار القضائي. وهي وردود الفعل صادرة عن أشخاص يتجوّلون على الإنترنت، كما يتجوّلون في الشارع، وبالترميزات والأكواد الأخلاقية ذاتها، ما يجعل تدخّل السطات واجبا وطنيا، وربما دينيا. تتحرّك الدولة في استجابةٍ نادرة، وتتفاعل مع فئات اجتماعية محددة.

من أين نبدأ في محاولة فهم هذه الظاهرة؟ الدولة أم الشوارع أم الإنترنت؟  

Die Sitte: لماذا يشعر الأخلاقيون بالألم؟

في كتابه “مدن تثير العاطفة: أفكار حول التغير الحضري في برلين والقاهرة”، يناقش الباحث جوزيف بين بريستل، آثار التغير الحضري الذي حدث في القاهرة وبرلين، في الفترة الزمنية ما بين 1860 وحتى 1910، والذي كان من شأنه جعل الشوارع في كل من المدينتين متقاربة بشكل غريب، ما بين استثارة عواطف مختلفة، وانتعاش اقتصادي متعدد الأسباب، أثّر على تكوين شخصية مواطني ما اعتُبرت “الطبقة الوسطى” فيهما، وتكوين كود معين للقيم والأخلاق.

شهدت مدينة القاهرة، منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، عمليات تغيير غير مسبوقة، منها إصلاحات إدارية، ونقل اختراعات تقنية، ما انعكس على نمطها الثقافي والاجتماعي في النصف الثاني من القرن، واستمر صداه حتى الآن. وفي ستينات القرن التاسع عشر بدأت عمليات تغيير حضرية للشوارع، وهيكلة إدارات الدولة، خلقت ما نعتبره اليوم “الشارع المصري”، وكان من أبرزها، أو ما أصبح في ما بعد شهادةً على التغيير الحاصل، ما يسمى الآن بـ”القاهرة الخديوية” أو “الإسماعيلية”، نسبة إلى الخديوي إسماعيل.

يذكر بريستل في بحثه، أن هذه التغييرات كانت تخلق أفكارا، مرتبطة بمفهوم “الحضر”، في عقل مواطن “الطبقة الوسطى” المصري، ومن بينها فكرة العقل/الرشادة، المرتبطة بالمدينة، وتشمل قدرا من التعليم والمستوى الاجتماعي والثقافي، وكذلك العمل بوظائف ذات شأن، ومنها الطب والهندسة والصحافة. يرتبط ذلك التصوّر بفرد متعلّم, مهذّب, مثقف, لا يخالف الحس الوطني، ولا قيمه وعاداته، لا يحابي الاستعمار ولا ثقافته، ولا ينغلق على نفسه في الوقت ذاته. تلك المعادلة “الأفندية”، التي حاولت أن تعبر من ممرات الهيمنة الاستعمارية، جعلت من وجود شخصية فردٍ مصري، ذي قيم ومبادئ ثابتة، أمرا ضروريا.

كانت الإجراءات الاستعمارية البريطانية في مصر، منذ منتصف القرن التاسع عشر، قد أثّرت على الفضاءات الحضرية والتنظيمية، المتمثلة في أشكال الشوارع، وأزياء ولغات روادها، وحركة التوظيف. كما أدت لشعور عميق بالظلم، بين طبقة الأفندية الوطنيين، ففرق المرتبات المجحف بين المواطن المصري والإنجليزي، واحتكار الأجانب لبعض المجالات الحيوية، جعل أفراد “الطبقة الوسطى” المتعلمين يشعرون بالتهديد، الذي ازداد حضوره رمزيا مع انتشار العادات والقيم الأجنبية في شوارع القاهرة. ربما كان هذا بداية كل من الحركة الوطنية المصرية، وشعور التحسّر عما آلت إليه الشوارع أخلاقيا. وكل من هاتين الظاهرتين ما تزالان تصنعان حاضرنا في المدينة حتى اليوم.  

التحسّر الوطني والأخلاقي أسس جيلا من الكتّاب والقرّاء، الذين انتقدوا بشدة مظاهر اجتماعية وثقافية متنوّعة، تحت ظل الاحتلال، ولم يكن النقد نابعا من نزعةٍ دينية بالضرورة بل من شعور قوي بضرورة حضور “العقل الوطني”، في تصرفات رجال ونساء الحضر المصري.

أرسل أحد القراء، من مدينة القاهرة، خطابا إلى محرر مجلة “الهلال”، في عدد صادر عام 1896، ربط فيها بين السلوكيات المشينة للرجال وغياب العقل. “ذكرني كلامكم على معاقري الخمرة أمورا طالما تمرمرت لها نفسي، وانفطر لها قلبي كلما مررت بشارع وما أشبهه من شوارع القاهرة، وأظن كل غيور على خير أبناء بلاده يشعر مثل شعوري، فإذا مرَرت هناك، تشاهد الشبان متألبين زرافات ووحدانا على قارعة الطريق، حول موائد تغطيها الأقداح وصحون المازة، وإذا تأملت وجوههم ولباسهم تراهم من أهل البيوتات، وربما كانوا ممن ربوا في المدراس، وتفقّهت عقولهم بالعلوم. وقد ترى الوالد وولده، أو الأخ الأكبر وأخاه الأصغر، على مائدة واحدة، يتسابقون إلى المجاملة في تقديم الأقداح“.

لم يكن هذا الشعور حكرا على مدينة “شرقية” أو “إسلامية” مثل القاهرة. ففي برلين، الغربية الشمالية الباردة، وفي الوقت ذاته، استوردت ثقافة باريسية، أثارت استياء مواطنيها المتحفظين، وأثّرت أيضا على تفكير المواطن البرليني، ونظرته لـ”العقل” و”الرشاد”.

كانت شوارع برلين، في ستينات القرن التاسع عشر، تُعرّف بما تحتويه من معمار وخدمات، وبالتالي بما توحي به من عواطف للفرد المتجوّل. يتحدث بريستيل عن برلين بشكلٍ موازٍ للقاهرة، ذاكرا أنه في ستينات القرن التاسع عشر كانت هناك شكاوى متكررة في برلين، من طرف ملّاك المنازل، بسبب الانتهاكات التي يرتكبها البعض بالمقربة من بناياتهم. وهي شكاوي تستخدم مفردات الغضب والخوف والاشمئزاز، الخزي والشرف، وتتهم السلطات بالفشل في اتخاذ الإجراء اللازم ضد الدعارة والفساد.

في ذلك الوقت بالذات أعيد إحياء  مفهوم “العرف الأخلاقي” Die Sitte، وهو مفهوم ألماني معقد، يشير إلى القواعد الأخلاقية في السلوك والمظهر، التي يجب أن يلتزم بها عموم المجتمع، حتى لو كان فرضها غير ممكن عبر القانون المدني. إنها أشبه بقانون غير مكتوب، يُفرض بضغط الرأي العام.

أرسل أحد ملّاك البيوت البرلينيين، خطابا بالبريد، إلى مجلس المدينة، يقول فيه “الوضع مؤلم للغاية، إذ يشعر كل شخص بداخله ذرة من المشاعر بأسى بالغ، إزاء هذه التصرفات الوحشية، التي لا تلقي لها السلطات بالا. الشرف يحتم على مجلس المدينة أن يضع حدا لهذا الوضع المؤسف، الذي يلحق أسى بالغا بـالـSitte

العقل والأمة: لماذا هددت النساء “الرشادة”؟

في تأسيس كل مجتمع، يتم السعي تجاه خلق صورةٍ تعبّر عن وحدة أخلاقية واجتماعية معينة. إلا أن هذه الوحدة سرعان ما تخفت في صخب الحياة المدينية المفعمة بالحياة. تنتج المدن خطابات ثقافية لا محدودة، يستدعي كثير منها تدخّل سلطات متنوعة لضبطها، سواء السلطة التنفيذية للدولة، أو سلطات عرفية، مثل الوصم والتضييق. في برلين القرن التاسع عشر، كانت تتكرر الشكاوي تجاه شوارع بعينها، تقدم أنشطةً تستثير ممارساتٍ عاطفية، “تفسد المجتمع” من وجهة نظر محافظة.

كانت “العدوى” المنتشرة آنذاك، هي الإعلانات الشخصية للزواج والتواعد، وسببها كان عزوف الشباب عن الزواج، لأسباب اقتصادية مفهومة، أو لضيق مساحات التعرّف والتلاقي، ما جعل مكاتب التزويج هي الحل، الأمر الذي مرّ بمراحل من التطور، من إباحة إلى تقييد، إلى منع، ثم إباحة مقيّدة من جديد. وذلك نابع من خشية مواطني “الطبقة الوسطى” على أخلاق الشباب، من المغريات التي تقدمها تلك المكاتب.

ظهرت أدبيات ترسم صورةٍ مشيطنة لأماكن بعينها، وروادها، بل تجاوز الأمر ذلك إلى الشك في كل من يعبرها أو يتمشّى فيها، مثل العابرين في شارع “فريدريش” الترفيهي مثلا؛ أو الفتيات اللواتي يعترفن أنهن زرن مبنى “أورفيوم”، وهو مبنى مشهور،  كانت تنظّم فيع حفلات راقصة تحت تأثير الكحول. شعر سكان المناطق المجاورة لهذه المراكز الترفيهية بالتهديد. وتذكر سجلات الشرطة في برلين، في منتصف القرن التاسع عشر، القبض على فتاة في شارع فريدريش، وذلك لأنها كانت عائدة من شارع مشبوه في توقيت متأخر. لم يثبت عليها أي اتهام، ولكنها مع ذلك قضت ليلة في الحجز.

في الوقت ذاته، كان الأفندية في مصر يناقشون قضايا تكوين الأمة المصرية، وطبقتها “العاقلة” الوسطى، ومن تلك النقاشات الحديث عن مدينة القاهرة، بوصفها منارة للحضارة الحديثة. فانتشرت أدبيات التمدّن الحضري في القاهرة، عن طريق المجلات والكتبيات، التي نادت بضرورة تعليم وتثقيف الناس. بعضها حثّ على مواكبة التطور الأوروبي، ونادى بالاختلاط بالحديث، مثل مجلة “أبو نضارة زرقا”؛ ومنها ما رفض التقليد الأعمى للماضي، كما في محاضرات جمال الدين الأفغاني. كان مفهوم “العقل” قيد النقاش، باعتباره وسيلة تهذيب مضادة للشهوات، والأداة السامية، التي تفرّق بين الجاهل والمتعلّم، القديم والحديث، وكانت المدينة هي المصدر الأساسي لهذه الفكرة.

ولكن سرعان ما انقلبت الآية، ففي العقد ذاته، تحولت مدائح الأفندية والمتعلمين لفكرة العقل إلى مواضع ذم، ووسط الحضور الدائم لثنائية الريف والمدينة، وجد بعض المثقفين الأفندية أن الشوارع المستثيرة للحواس والعواطف لم تؤت أكلها, بل كانت العائق الأكبر بين الفرد وبين ترقيه، نظرا لما في الشارع من شواغل وشهوات. على رأسها المرأة.

في فصل بعنوان “غياب المرأة عن العقل”، يذكر بريستل في كتابه أن المرأة كانت غائبة عن النقاش العقلاني في قاهرة القرن التاسع عشر، باعتبارها مصدر تهديد، كان هذا الاستثناء قائما على فكرة أن وجودها مفسدٌ لرشادة الرجل.

تتركز فكرة إخلال المرأة بالرشادة على أساسين: قدرة المرأة على الإغواء؛ وهشاشة الرجل تجاه المغريات. ولذلك يجب أن يُحمى الشارع/الفضاء العام مما يزعزع الرابطة الأخلاقية والرشادة. فالرجل هو صاحب الصورة المثالية، وغياب المرأة في الحيز العام مكمّل لهذه الصورة.

يذكر بريستل أن الأدبيات المنشورة آنذاك تتحدث عن رجالٍ متعلمين، ينتهون من أشغالهم، ويرتادون المقاهي، التي كانت قائمة على تقديم الخمور، والاختلاط بين رجال ونساء المدينة. يدخل الموظف إلى دائرته الرسمية، ليعمل ساعات طويلة، ثم يخرج منها فارغ الرأس ملان الجيب، ولكن ما في الجيب يُصرف في المقاهي. فنخسر الرأس والجيب معا. الـSitte المصري كان أيضا معركة أمة، ووجدانا معرّضا بسهولة للجراح.

يذكّرنا هذا التصور بما يحدث الآن، أي تجوال اليوم هو بالضرورة مصدر تهديد، والمبررات دائما شكل الملابس، حضور النساء، الاخلال بالتصور العام عن العقل الأخلاقي. لدرجة أن الخروج من المنزل في حد ذاته، قد يكون يؤدي لاستثارة عاطفة الرجال، بعض أصحاب النظرة “اليسارية” يعزون ذلك إلى ضيق الوضع الاقتصادي، والذي جعل الذكور محاصرين وغير قادرين على الزواج.

كم “صحوة إسلامية” وقومية نحتاج لتجاوز كل هذا؟ في الواقع لم تنقطع “الصحوات” يوما، منذ مطلع تاريخنا الحديث.

شوارع تيك توك: كيف باتت الأخلاق بديلا لحق الملكية؟

في يومنا هذا، تثير تطبيقات الإنترنت المتعددة تفور الطبقة الاجتماعية، التي تظن أنها “وسطى”، وتدفعها للنهوض للدفاع عن القيم والأخلاق، تماما كما كانت شوارع المدن المُحدّثة تثير الانفعالات السلبية بين الأفندية. ولكن في هذه المرة، سرعان ما تستجيب السلطة.

نظرا لطبيعة تصميمها، واستهدافها لانتباه مستخدميها لأطول فترة ممكنة، تعمل تطبيقات عرض المقاطع القصيرة، مثل تيك توك وأنستغرام، بوصفها منصة استعراض. ولا يمكن صرف النظر عن الطبيعة المشتتة لتك التطبيقات، ففي ثوانٍ معدودة، تعرض لك مواقف وحيوات وطُرَف متراكمة ومتقاطعة. جذب الانتباه وهذا لا يختلف بالضرورة عن جذب الانتباه الذي نشعر به، عندما نمر في شارع تجاري أو شارع تاريخي.

كان من أبرز ميزات شارع “فريدريش” في برلين، في منتصف القرن التاسع عشر، النمط الصاخب والجاذب لأبنيته وعمارته. وهذا الشارع المثير للعاطفة، كان شارعا جوهريا وأساسيا في التجوّل في المدينة. ومع ذلك تم تحويل هوية هذا الشارع، بفضل تراكم البشر فيه، وبفضل الأنشطة الترفيهية التي كان يتميز بها. يذكر بريستل في كتابه أن علاقة الجمهور بالشارع انتقلت من الاهتمام بعمرانه الصلب، إلى الاهتمام بظواهره البشرية: الباعة الجائلون، وموظفو المتاجر، والنساء الجميلات، وكل هؤلاء كانوا يدفعون المارة إلى الإبطاء في السير، والانبهار، وإطلاق العواطف. تحوّل الشارع من معبر لتسيير الحركة المرورية، إلى مقر للترفيه، ومكان لممارسة الأنشطة في أوقات الفراغ. بالانعكاس على الواقع الراهن، فدهاليز تيك توك وأنستغرام لا تختلف عن صخب ملاهي شارع فريدرش أو قاعة الأورفيوم في برلين، أو مقاهي القاهرة الاسماعيلة، تُستثار الحواس بالطريقة ذاتها، وتُشحن العواطف المختلفة والمتباينة منذ لحظة الدخول.

بالمثل أيضا، ربما كانت الدعاوى والبلاغات، التي تُقدّم بحق أبطال الفيدوهات القصيرة، سليلة أنصار الـ Sitte البرلينيين، أو تجمعات المثقفين الأفندية الوطنيين القاهريين. إنه احتجاج، متعدد الدوافع، على انهيار الوحدة الأخلاقية/القومية المفترضة. أي احتجاج على الشذوذ عن اصالةٍ واضحة، لا بد أنها كانت متجذرة في صميم المجتمع والاسرة، قبل أن يطرأ عليها ما يغيرها، وخاصة شر المدينة، الصورة، التعدد، النساء.

يُستخدم الكود الأخلاقي في ذلك النوع من الاحتجاجات بدلا من حق الملكية، فلا يمكن لنا أن نمنع أو نتيح ما يحدث في مساحة عامة، نظرا لعدم امتلاكنا لها، ولكن يمكننا، بالانتساب لكود اخلاقي معين، تأطير ما يمكن وما لا يحلُّ حدوثه. تستخدم التهم الأخلاقية الفضفاضة للتجنّي على أفراد، عادة ما يظهر أنهم من طبقة أو فئة اجتماعية مهددة لـ”وحدتنا” اجتماعية؛ كما يُستخدم الكود الأخلاقي، من قبل مواطن يرى نفسه “متوسطا”، لمنح الأفضلية لوجوده الاجتماعي، فهو، بكل بساطة، “رشاد الأمة”.

فطن “عقلاء برلين”، في وقت لاحق، وربما بعد كثير من الكوارث التاريخية، إلى عدم جدوى محاولات تأطير رشاد الأمة وعقلها. وانصرفوا إلى محاولات هندسة الذات بدلا من الشوارع. فدعوا الأفراد، المتوترين من تنوّع المدينة ومغرياتها، إلى العمل على أنفسهم، بدلا من محاولة قمع الآخرين، وذلك عن طريق الرياضة، البعد عن صخب المدينة ما أمكن، والحفاظ على الصحة، وترشيد الطاقة، واستثمارها في الثقافة “الرفيعة”.

وعلى الرغم من أن هذا “الحل” يبدو بدوره من مخرجات “المثالية الألمانية”، إلا أنه قد يكون مفيدا نسبيا في عصرنا. خاصة لـ”المتوسطين” الجدد، الذي يخافون على أخلاق أمتهم. فبإمكان هؤلاء أن ينشغلوا بأنفسهم، وتحسين أوضاعهم الحياتية، وربما السياسية، تاركين راقصات التيك توك، وفتيانه “المنحلين” وشأنهم.

وبدلا من التماهي مع سلطة الدولة، في قمع الاختلاف؛ وتناسي أن تشريع القمع سيؤدي يوما إلى اضطهاد المطالبين به أنفسهم، فالأفضل الدعوة لتغيير عادات التفكير: النظر إلى الشارع، وصفحات الإنترنت، باعتبارها مساحة يجب أن تعبّر عن وحدةٍ واحدة، هو أمر فاسد وغير متناغم. وربما كان الفراغ، والاختناق الاقتصادي والهوياتي، هو مصدر هذه الاستثارة العاطفية والانفعالية. أو ربما كان نمط “الرشادة”، الموروث من عصر الأفندية، هو المشكة. والأفضل البحث عن رشادة جديدة، تقبل التنوع، وتحاول ابتكار حلول فعلية للأزمات الاجتماعية المعاصرة.    

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 4 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات