القسوة الخوارزمية: كيف صار عمّال المنصات أشباحاً؟

القسوة الخوارزمية: كيف صار عمّال المنصات أشباحاً؟

في صفحة التسجيل مع أحد تطبيقات الرحلات المصرية، لتصبح “كابتن” فيه، هنالك صورة لرجل مبتسم، يمسك عجلة قيادة، وتحتها مكتوب: “محمود بيكسب شهريا 18 ألف جنيه، زوّد دخلك واشتغل في الوقت والمكان المناسب“. وبخط أصغر كثيرا: “تطبّق الشروط والأحكام. محمود شخصية خيالية بغرض التوضيح، وتم حساب دخله بناءً على الدخل الفعلي لبعض كباتن الشركة“.

للتوضيح، منذ 2019 وحتى العام الحالي 2024، زاد الحد الأدنى للأجور في مصر ست مرات، ثلاث منها في عامٍ واحد، ليرتفع من 1200 إلى 6 آلاف جنيه، والرقم المذكور في الإعلان يعتبر ثلاثة أضعاف الحد الأدنى الحالي.

مع انخفاض معدلات الأميّة الرقمية، وزيادة الضغوطات الاقتصادية، يلجأ كثيرون إلى نوعٍ “حر” من العمل، سواء بوصفه عملا جانبيا، أو حتى الاعتماد عليه مصدرا أساسيا للدخل. كثير من التطبيقات، التي تعرض ذلك النوع من العمل، تقدّم لمستخدميها وعودا برّاقة، مثل أوقات عمل مرنة، إدارة ذاتية للمهام، وسقف عالٍ لما يمكن ربحه. وما بين ضغطة الزر وتنفيذ الخدمة، هناك اقتصاد كامل، يقوم على عمالةٍ خفية، خلقها الإنترنت.

نشأ الشكل الحالي لما يُعرف بـ”اقتصاد المشاركة” أو التطبيقات، أو حتى “اقتصاد الحفلة” gig economy في أواخر العقد الأول من الالفية الجديدة، تأثرا بأوضاع اقتصادية، على رأسها الأزمة الاقتصادية في أميركا عام 2008. التي ظهر على إثرها سوق عمل، يتكوّن من “عمالة حرة”، بدلا من العقود الثابتة والدوام الكامل. 

ووفقا للمنصة المناسبة، يمكن للعاملين في هذه الخدمات المؤقتة، أن يتكفّلوا بمجموعة واسعة من الخدمات، بدءا من قيادة سيارة أجرة أو توصيل الطلبات أو تتظيف المنازل، وحتى تحرير المستندات والتصميم الفني.

يتزايد الاحتياج إلى هذا النوع من العمل في ظروف معينة، خاصة الأزمات الكبرى، مثل الأزمة الاقتصادية في 2008، وكذلك وباء كورونا، حين تضاعفت وتيرة استخدام منصات عديدة، مثل “أوبر” و”ليفت” و”فايفر”.

فهل هذه المنصات تحقق وعودها لعمالها المتزايدين؟ وهل كانت حلا مرنا للخروج من الأزمات، سواء بالنسبة لمستهلكي الخدمات أو مقدميها؟ أم أننا أمام نوع من استغلال غير مسبوق للعمالة البشرية؟

ثورة “أوبر”: على حساب مَنْ حصلت التطبيقات على “الميزة التنافسية”؟

يُعرّف “نموذج العمل المطوّر” Business Model Innovation أو اختصار BMI،على أنه عملية إنشاء أو تعديل أو تحديد الهيكل الأساسي، ومكونات نموذج العمل، لإنشاء قيمة جديدة، تُغتنم بها فرص السوق، للحصول على ميزة تنافسية.

ولعل “أوبر” أحد أبرز الأمثلة عن ذلك، فهي تعمل في جوهرها بوصفها منصة تكنولوجية، تربط بين السائقين والركاب، من خلال تطبيقها المبتكر. وقد أحدث هذا النموذج ثورة في صناعة النقل، إذ وفّر بديلا مناسبا وموثوقا عن سيارات الأجرة التقليدية.

تأسست شركة “أوبر” بناء على مفهوم بسيط، ولكنه قوي، وهو جعل النقل سهلا، بمجرد النقر على زر. وبفضل رؤية تهدف إلى إنشاء رحلات سلسة وفعّالة للركاب، استفادت أوبر من انتشار الهواتف الذكية في كل مكان، لتعطيل نموذج سيارات الأجرة التقليدية.

ولكن في عمق هذا النموذج هدف أساسي، ألا وهو تقليل ما يسمى بتكلفة المعاملات Transaction Cost. وتكاليف المعاملات هي التكاليف الإجمالية لإجراء معاملة، بما في ذلك تكلفة التخطيط واتخاذ القرار وتغيير الخطط وحل النزاعات وما بعد البيع. ولذلك، فإن تكلفة المعاملة، هي واحدة من أهم العوامل في تشغيل الأعمال وإدارتها.

يعتمد نموذج أوبر على الحد الأدنى من المخاطرة، والحد الأدنى من التكلفة، والغياب التام لأي استثمار مسبق في تنشئة أو تعليم المتعاقدين، لأنهم غير موظفين في الشركة. في شركات الوظائف الثابتة تقع هذه التكاليف على كاهل الشركة، أما في النموذج، الذي بدأ يسود في زمننا، زمن العمالة القلقة، فالتكلفة بأغلبها تقع على كاهل العامل.

يُعتبر كل من السائق والراكب عميلين لدى الشركة، ويٌشار لهما بصفة “متعاقد مستقل”، لا تلتزم الشركة ناحيته بما يُفترض عليها تجاه موظفيها، فهو في نهاية المطاف غير موظف. إذن فلا إجازات مرضية، أو تأمين صحي، أو تمثيلات نقابية، لا شيء.

ينطبق الأمر على جميع منصات العمل الحر، فهي تعتبر العامل زبونا، يبحث عن خدمة، هي تشغيله بناء على مهارات أو أصول يمتلكها، وتقوم المنصات بدور الوسيط. وسنجد لمعظم المهن تطبيقا يقوم بهذا الدور، يعدُ زبائنه بخدمات فورية، متحصّلا عمولته.

ولكن تلك المنصات ليست مجرد وسيط مؤتمت بين مستخدمين (مقدّم الخدمة وطالبها) بل تعتمد أيضا على بعض الأشباح.

عمل الأشباح: كيف بعثت المنصات “جيش العمل الاحتياطي”؟

في كتاب “عمل الأشباح: كيف منع وادي السيليكون نشوء طبقةٍ دنيا عالمية جديدة”، للكاتبين سيدهاراتا سوري وماري إل جراي، يُعرّف مفهوم “العمل الشبحي”، بالشكل التالي: “هو أي يعمل يتم تنفيذه عن طريق إنسان، ولكنه في ظاهره يبدو عمليةً أتوماتيكية.” فعلى سبيل المثال أي صورةٍ يتم التحقق منها على منصةٍ مثل أوبر، ومنها الصور اليومية، التي يُطالب بها السائق للتحقق من هويته، ترسل في ثوانٍ إلى شخصٍ على الناحية الأخرى من الكوكب، يطابقها مع صورٍ أخرى للسائق، وبينما تتم عملية التحقق، ويبدأ السائق رحلته، يكون الشخص الذي قام بالتحقق، قد استلم مهمة أخرى، من منصته المتعاقدة مع شركة أوبر، لتقديم خدمات مثيلة.

تُصدّر لنا دوما الصورة المحسّنة من هذه النوعية من الأعمال، ففي ظاهرها، وفي الوعد المقدّم للمستخدمين، عليهم فقط أن يفتحوا التطبيق في أي وقت من اليوم، كما يُفتح صنبور الماء، وكما هو من غير المتوقع أن ننتظر عشر دقائق لتخرج لنا أول قطرة من الصنبور، ففي نموذج العمل الخاص بهذه الشركات كثير وكثير من العمالة المتوفرة والمتاحة دائما، بدون انتظار. وهؤلاء المتعاقدون “المستقلون” لا يكلّفون الشركات أي شيء، فعلى السائقين مثلا التكفّل بكل مصاريفهم، من وقود وصيانة وتواجد شبه دائم، وعلى المتحقّقين وعمال الإنترنت التكفّل أيضا بتواجدهم على المنصات، ومصاريف الإنترنت، وحزم البرامج، والمهارات المطلوبة للتنفيذ.

تُعتبر شركة “أوبر” اقتصادا رماديا، أي اقتصادا يعتمد على نوع من العمالة الهشة وغير الرسمية وغير المؤمّنة، ويقوم في أساسه على توافر شبه دائم لـ”جيش احتياطي” من العاطلين عن العمل، بالتعبير السيسيولوجي العتيق.

العمل على تلك المنصات قد يزيد عدد ساعات العمل، بالمقارنة بالوظائف التقليدية، ذات الثماني ساعات. إضافة إلى ذلك، فالاغتراب الذي ينشأ عنها مضاعف، إذ يُستغل العامل كما تُستغل “أصوله”، مثل السيارة والكومبيوتر المحمول وحزم البرامج، فضلا عن دفع العامل دوما لـ”إعادة تأهيل” نفسه، و”التعلّم الدائم” على حسابه.

الموافقة على كل هذا مبنية على زيادة مُعامل الاستغلال في عصرنا، بسبب  الصعوبات الاقتصادية التي يعانيها الجميع، واختفاء البدائل، مما يجعل وجود هذه العلاقة، التي تبدو تعاقدية ورضائية، دليلا على وجود أزمة في سوق العمل وتشريعاته.

اقتصاد المنصات الالكترونية ظهر في عالم، توجد به مشكلة في الحماية القانونية والتشريعية للعمّال، ويضغط على فرص العمل اللائق، والأجور، والحق في التنظيم، ويقوّض البنى التشريعية. وبسبب كل هذه الظروف، نتحول من باحثين عن عمل إلى مجرد باحثين عن مورد مالي.

القسوة المؤتمتة: كيف تجرحنا الخوارزميات في عالم العمل؟

معظم العمال تحت الطلب، أو كما يسمون “العمالة الطارئة”، يقبلون بضغط شديد في العمل بالبداية، ليقعوا بعد ذلك تحت رحمة الخوارزميات، التي تدير عمليات العرض والطلب، الخاصة بالمهمات المقدّمة على المنصة. يتم إنشاء ملف تعريفي بكل عامل على أي منصةٍ كانت، يحتوي على ما قام به، وكلما زادت منجزاته، وعلت تقييماته، زادت الثقة فيه. ولكن من يختار محرر فيديو لم يقم بأي شيء على المنصة؟ أو سائقا لم تتجاوز رحلاته العشر، بينما آخر، في المنطقة نفسها، قام بما يزيد عن الألف؟

تقع هذه الضغوطات النفسية تحت بند “القسوة الخوارزمية”. وهو تعبير ظهر في تدوينة بعنوان “القسوة الخوارزمية غير المقصودة”، للمؤلف والمبرمج الأميركي إريك ماير، يتحدث فيها عن ظهور صورةٍ لابنته المتوفاة في ذكريات العام على مواقع التواصل: “أنا أعلم بالطبع أن هذا ليس اعتداء متعمدا. هذه القسوة الخوارزمية غير المقصودة هي نتيجة التعليمات البرمجية، التي تعمل في الغالبية العظمى من الحالات، لتذكير الناس بسنواتهم الماضية، وإظهار صور شخصية لهم، في حفلة أو خارج منزل عطلتهم. ولكن بالنسبة لأولئك منّا، الذين عاشوا وفاة أحبائهم، أو قضوا وقتا طويلا في المستشفى، أو مروا بتجارب الطلاق أو فقدان وظيفة، أو أي من الأزمات، فقد لا نريد إلقاء نظرة أخرى على العام الماضي. لتريني وجه ريبيكا (ابنته المتوفاة) وتقول: “هذا هو شكل عامك!”. أمر مزعج.  ليس من السهل برمجيا معرفة ما إذا كانت الصورة تحتوي على عدد كبير من الإعجابات لأنها مضحكة أو مذهلة أو مفجعة. الخوارزميات في الأساس طائشة. إنهم يصممون نماذج معينة لتدفق البيانات، ولكن بمجرد تشغيلها، لا يحدث المزيد من التفكير“.

هذا التعبير القوي للمبرمج الأميركي، يتعلّق بموضوع عاطفي وشخصي، مرّ به كثير منا بالتأكيد، ولكن ماذا عندما يطبّق على عالم العمل؟

بشكل عام، لا تعاطف من جانب الخوارزميات، ففي في فصل بعنوان “الآلام الخفية للعمل الشبحي”، يذكر سوري وجراي أن هناك يقظة دائمة، مطلوبة من العمال، تتغطّى تحت ستار المرونة، والاحتفاء بعدم وجود ساعات محددة للعمل، مما يجعل العمال تحت قلقٍ دائم، من عدم استقبال ما يكفي من العمل، للحصول على ما يكفي لتغطية مصاريف الشهر؛ أو عدم تأمين ما يكفي من العمل اليومي، يحافظ على تدفق وحيوية الملف الشخصي.

“الغوبتيكون”: كيف تجعلنا التطبيقات تحت المراقبة والمعاقبة؟

في ورقته البحثية، المنشورة عام 2019، “أوبر وصنع الالغوبتيكون، رؤى من الحياة اليومية لسائقي مونتريال” قام الباحث اللبناني ربيع فخري جميل بدراسة ميدانية لسائقي أوبر في مدينة مونتريال الكندية، بناءً على مقابلاته مع السائقين، بعيدا عن ادعاءات الشركات التي تشغّلهم. ونظراً لعدم وجود إطار نقابي أو تمثيل لسائقي أوبر، كان حله الوحيد هو لقاء السائقين بوصفه راكبا.

طور جميل مفهوم “الغوبتيكون” من كلمتين: أولاهما الألغوريزم/الخوارزميات؛ والثانية “البانوبتيكون” Panopticon وهو التصميم الهندسي، المطوّر من أفكار الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بانتام، والذي من خلاله كانت تتم مشاهدة جميع المساجين من مركز واحد، دون أن يمكنهم رؤية مصدر المراقبة، بل حتى إن كان موجودا حقا أم لا. وقد اهتم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بالمفهوم، وانتقل به من ميكانيزم هندسي إلى ميكانيزم لعلاقات القوى، في كتابه “المراقبة والمعاقبة”. فهناك مركز، يخلق نظاما للمتابعة والمراقبة والدقة والتعريف والتصنيف، وبإمكانه التدخّل والمعالجة والتقويم.

مَنْ يمكنه التحكّم بهذه العلاقة، بإمكانه جعل مرؤوسيه/أتباعه، في حالة دائمة من اليقظة والانكشاف، والوعي بهذا الانكشاف. مما يجعل وجود إنسان قائما على هذه المراقبة، التي أصبحت ذاتية. يمكننا مد هذا الامر إلى تطبيقات العمل، التي تحوّل وعدها بالمرونة والإدارة الذاتية للعمل، إلى كابوس المراقبة الذاتية.

يذكر جميل أن سائق أوبر يراقب، بشكل شبه دائم، رضا المستخدم، نظرا لما يشعر به من مراقبة، أغلبها ذاتية، تخلق في بداية كل رحلة علاقة قوة بين السائق والراكب، وبين السائق والتطبيق.

ولا يمكن فهم نموذج المراقبة هذا، دون فهم البعد التقني لشركة مثل “أوبر”، وهي على حد تعبير جميل “شركة بيانات بالمقام الأول”، إذ نظرا لعدم وجود مكتب عمل ثابت، يستخدم التطبيق مستشعرات داخل هاتف المستخدمين، يمكّنه من معرفة عديد من الممارسات الخاصة بالسائق، من السرعة التي يسير بها، لمكانه الجغرافي، ووضعية الهاتف، وهل هو موضوع في مكان لا يعرقل السائق عن الانتباه للطريق. والأمر لا يتوقف على هذه البيانات، بل ويتجاوزها إلى تذكير السائق بأن التطبيق يقظ ويعرف ماذا يفعل، عبر مجموعة من الإشعارت “اللطيفة”، التي تدفعه إلى الانضباط الدائم طوال الوقت.

ولكن تبقى علاقة المراقبة هذه غير عميقة،  فعندما يغلق السائق الانترنت لأي سبب كان، سواء لسوء الشبكة، أو كما يفعل سائقو أوبر في مصر، لتوفير باقة الإنترنت، تختفي هذه العلاقات، وعندها يتحوّل الراكب الى مراقب بديل، وهو ما يسميّه جميل “المراقبة الهشة”.

ومن خلال الراكب، وقدرته على كتابة تقييم في نهاية كل رحلة، تحاول الشركة تعبئة هذه الفجوة، لأن المراقبة الهشة، تفتح الباب لممارسات لا يمكن توثيقها إلا بشكوى الزبون.  

يصعب الاحتفاء بهذا النمط من العمل، الذي يسميه جميل “تحويل العمل الإنساني إلي الشكل الروبورتي” Robotization of human labor.

هكذا العمالة القلقة عموما: أشباح وروبوتات بلا أية حقوق مضمونة، وبدون القدرة على تنظيم أنفسهم، والمطالبة بأي شي. ومع كل أزمة كبرى، يزداد عدد اولئك القلقين، ذوي الأحلام الكبيرة، بالتحرر من القيود القديمة، والنجاح في الحياة؛ وأيضا يزداد اضطرابهم النفسي والاجتماعي، وتشتتهم الذهني؛ وبالتأكيد يزدادون فقرا مع الوقت، فيما تنتقل الثروة الاجتماعية إلى عدد أقل فأقل من المستثمرين وأصحاب المشاريع “الواعدة”. هنالك اختلال ما في كل هذا، لا يمكن معرفة كيف سيُحل، أو إلى ماذا سيؤدي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.2 5 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات