“طوفان الأساتذة”: هل ما يزال مفهوم “الشغل” المغاربي حياً؟

“طوفان الأساتذة”: هل ما يزال مفهوم “الشغل” المغاربي حياً؟

شهدت الشهور الأخيرة بالمغرب، احتجاجات واسعة للعاملين في القطاع التعليمي، تجاوزت مدتها ثلاثة أشهر، نتيجة الخلاف حول مشروع قانون طرحته الحكومة، ينظّم المهنة والوظائف المتعلقة بها. وبينما كانت أخبار عملية “طوفان الأقصى” في الأراضي الفلسطينية تشغل الرأي العام العربي، كان المغاربة يتابعون “طوفان الأساتذة”. لجوء المحتجين إلى مفردة “طوفان” يشير بالتأكيد إلى تأثّرهم واهتمامهم بالحدث الفلسطيني، ولكن تبيئة المفردة مغربيا، لتشير إلى احتاج عمّالي، شديدة الدلالة في سياق الحياة والثقافة السياسية المعاصرة في البلد.

من “طوفان الأساتذة”

بطبيعة الحال، ليست هذه المرة الأولى، التي يخرج فيها الأساتذة للاحتجاج في الشوارع، من أجل تحسين ظروف عملهم، أو لأجل قضايا تعني المنظومة التعليمية بالمغرب، فقد عرف البلد، بعد  سنوات قليلة من استقلاله، إحدى أبرز الانتفاضات في تاريخه عام 1965، وكانت بسبب قرار الحكومة منع التلاميذ، الذين تجاوزا سن الثامنة عشرة، من إكمال دراستهم الثانوية، مما دفع الأساتذة والطلاب والعاملين في المجال التعليمي، وقطاعات نقابية ومهنية أخرى كثيرة، لتنظيم احتجاجات واسعة، أحرجت النظام السياسي القائم. هكذا كان الحراك النقابي دوما، وفي طليعته الأساتذة، أساسيا دوما، ليس فقط في الحياة السياسية، وإنما في تكون هوية المغرب المعاصر نفسها.   

لكن المثير للانتباه في احتجاجات عام 2023، بالمقارنة مع نظيرتها في السابق، هو التصدّع الكبير، الحاصل بين النقابات من جهة، بوصفها منظومة تأطيرية، استوعبت مطالب العاملين دوما؛ وبين منظومة أخرى، انتشرت بين مجموعة من الهيئات التعليمية في الآونة الأخيرة، يطلق عليها اسم ”التنسيقيات”، وهي عبارة عن أطر تمثيلية، خلقتها بعض الهيئات التعليمية، بديلا عن النقابات، وبخصائص تنظيمية مختلفة، وكأن الحراك العمالي المغربي قد بدأ يتجاوز الأطر التقليدية، التي رسمت معالمه منذ عقود طويلة، وهذا التجاوز لم يأت من “فئات جديدة”، وإنما من قلب الفئات، العريقة في تنظيمها.

وبقدر ما كانت الاحتجاجات مؤثّرة على مستوى الشأن التعليمي، فقد كانت أيضا مثيرة للأسئلة، على مستوى مستقبل النقابات والتأطير النقابي بصفة عامة، ومدى قدرة أصحاب المهن الفكرية والثقافية، ومن جملتها التعليم، على خلق زخم نقابي واسع و”جديد” بالمعنى النوعي. هذه الأسئلة قد تبدو “فئوية” بالنسبة لبلدان أخرى، ولكنها في المغرب قد تكون “السياسة” بحد ذاتها. فهل ما يزال “العمل” فعلا واحدا من المقولات الأكثر أساسية في الحيز العام المغربي؟ وهل يستطيع تقديم نموذج، لبقية الدول العربية والإفريقية، في السياسة المُنظّمة على أسس الديمقراطية الاجتماعية، بما فيها من تنظيمات للعاملين والمنتجين؟ أم أنه، مثل غيره من الدول، سيعود من جديد لقضايا أكثر “جوهرية”، مثل الهوية والأمة؟

عصر النقابة المغربية: ديمقراطية اجتماعية سابقة لعصرها؟

قد تسعفنا الجذور التاريخية للحركة النقابية بالمغرب، في فهم الدور السياسي والوطني الكبير الذي لعبته، وتجاوزها للمسائل “الفئوية”، لتكون إحدى العناصر المؤسسة لفكرة الحيز العام الوطني نفسها.

اللافت أن جذور التأطير النقابي تعود إلى فترة الاستعمار، إذ كانت البداية عام 1943، بتأسيس الاتحاد المغربي للتنظيمات النقابية العمالية، المتحدة كونفيديراليا، والتابع للمركزية النقابية بفرنسا، والذي طوّر منظورات تحرر وطني جذرية، وصلت أوجها عام 1952، مع الانتفاضة العمالية في مدينة الدار البيضاء، حين اندلعت الاحتجاجات في حي “كريان سنطرال” (الحي المحمدي حاليا) ذي الأغلبية العمالية، احتجاجا على اغتيال منظمة “اليد الحمراء” الفرنسية اليمينية للقائد النقابي التونسي فرحات حشاد، وهي الانتفاضة التي وصفها الإعلام الفرنسي الاستعماري بـ”أعمال الشغب الشيوعية”.

من انتفاضة الدار البيضاء 1953

جاء بعد تلك الانتفاضة تأسيس “الاتحاد المغربي للشغل” سنة 1955، أي قبل عام واحد من الاستقلال، وكأن استقلال العمّال المغاربة الكامل عن العمال الفرنسيين، كان إيذانا بنشوء المغرب الحديث، وإكمال معالم أمته وهويته. خرجت بعدها، عام 1978، من رحم الاتحاد المغربي للشغل، النقابة الكبرى الأخرى “المعارضة”، وهي “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل”، ذات الميل الأكثر يسارية. ما ميّز التحرر الوطني المغربي إذن كان دائما المزج بين المنظور الوطني والمنظور العمّالي.

في دراسته المعنونة “الحركة النقابية بالمغرب”، يلاحظ المؤرخ المغاربي اليهودي ألبير عياش، التسييس المتزايد للحركة العمالية المغربية، وارتباطها الوثيق بالحزب “المعارض” الأبرز حينها، وهو “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” بقيادة المهدي بنبركة (فيما بعد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، رغم معارضة البعض لهذا الارتباط، والدعوة إلى فصل ماهو نقابي عن ماهو سياسي.

إحدى نتائج هذا الارتباط، وقوف النقابات، في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، خاصة “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل”، وراء احتجاجات “جماهيرية” كبرى،. ولم تكن تلك الاحتجاجات “عمالية” بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل كانت بالأساس مرتبطة بانخفاض القدرة الشرائية لعموم المغاربة. فلم تكن النقابات خاصة بالعمال داخل المعامل أو المناجم فقط، بل عرفت احتجاجاتها تواجد مجموعة متنوّعة جدا من الفئات، سواء الفلاحية أو الحرفية أو القطاعية الوظيفية. نظرا لسوسيولوجيا العمل في المغرب.

هذا المعطى جعل ‘جماهير الحركة النقابية المغربية، امتدادا لتحالف واسع من الفئات، ما أخرج فكرة “العمالية” في البلد، بشكل “رائد”، أو ربما سابق لأوانه، عن تعريفاتها الكلاسيكية. وكأن “العمالية” المغربية استوعبت، في وقت مبكّر، ما أطلق عليه فيما بعد “الفئات الجديدة” في الدول الغربية، أي الفئات المضطهدة و”المهمّشة”، من خارج الطبقة العاملة التقليدية.   

اتسع مفهوم “الشغل” في المغرب جدا، ليشمل كثيرا من أشكال المعارضة، ما يذكّر بطروحات “المدرسة العمالية الإيطالية”، ومن ضمن أعلامها المفكر أنطونيو نيغري، الراحل نهاية السنة الماضية 2023، والتي طرحت مسألة “الطبقة العاملة الاجتماعية”، لتستوعب فئات أكبر المنتجين في المجتمع، سواء عملوا في الإنتاج المباشر (إنتاج السلع المادية) أو غير المباشر (العمل في إعادة إنتاج قوة العمل، والعمل العاطفي، وفي مجال الخدمات)، اللافت أيضا أن كلا من إيطاليا والمغرب شهدا ما يعرف بـ”سنوات الرصاص”، أي فترة اضطرابات اجتماعية، امتدت منذ أواخر الستينيات وحتى بدايات الثمانينات من القرن الماضي، على خلفية احتجاجات اجتماعية ذات سمة عمّالية.

أنطونيو نيغري

رغم كل هذا التراث المغربي العريق في “العمالية”، وأيضا ما يمكن تسميته تجاوزا بـ”بعد العمالية”، إلا أن الأطر النقابية اليوم، تبدو عاجزة عن استيعاب التغيّرات الاجتماعية. وقد جاء الابتكار “العمالي” الجديد إلى حد كبير من خارج النقابة الرسمية.

أيام التنسيقية: هل أثبتت الديمقراطية المباشرة فشلها؟

بالعودة إلى احتجاجات الأساتذة الأخيرة بالمغرب، والذين كانوا عبر التاريخ المعاصر، إحدى الفئات الأكثر انخراطا في النقابات، فإن هنالك شرخا بين المستويات الجديدة من التنظيم، والنقابات التقليدية. وقد يكون هذا الشرخ السمة الأبرز للاحتجاج.

ردد كثير من المنخرطين في الشأن العام المغربي، طيلة العقود الماضية، مصطلح “البيروقراطية”، لانتقاد سياسات النقابات المترسّخة، ويحيل المصطلح إلى تصلّب قياداتها، واتخاذها القرارات بشكل مركزي، لا يراعي هموم العاملين المتنوعين على الأرض.

هذا الطرح، هو ما دفع عديدا من الأساتذة لتأسيس مايسمى “التنسيقيات”، وهي عبارة عن تنظيمات مباشرة، تُتخذ فيها القرارات عبر مجالس وطنية، تتكوّن من منسقين جهويين، يمثلون المناطق المختلفة، ويتم انتخابهم عبر جمعات عامة.

من مظاهرات التنسيقيات

تعتبر هذه “التنسيقيات”، على مستوى الجهاز التنظيمي، أكثر مرونة بكثير من النقابات، التي تتطلّب جهازا مركزيا قويا، ثم فروعا جهوية، تضمّ عديدا من الأجهزة؛ كما أنها تخفّف كثيرا من البيروقراطية ومركزية القرار. رغم كل هذا فإن احتجاجات “التنسيقيات” تبدو أقل فعّالية من حراك النقابات، ولا تحقق نتائج “حالمة”، للدرجة التي يعد بها المتحمّسون لشكلها التنظيمي.

في الحركة الاحتجاجية الأخيرة، انتهى الإضراب، الممتد لأزيد من ثلاثة أشهر، بنتيجة أقل من أحلام التنسيقيات، فقد صدرت قرارات تأديبية بحق مجموعة من الأساتذة العاملين فيها، إضافة إلى أن الحكومة ظلت متشبثة بالحوار مع النقابات فقط، ولم تعترف بالتنسيقيات.

مسألة أخرى، تضاف إلى ما ذُكر، وهي أن اتخاد قرار إنهاء الإضراب من عدمه، شابه نوع من الفوضى والتخبّط، فقد أفضت “مرونة” تنظيم التنسيقيات إلى تضارب في الآراء داخل القواعد، وعدم القدرة على اتخاد قرار نهائي وحاسم. وقد كان قرار “المجالس الوطنية”، التي تعتبر الجهاز القيادي داخل التنسيقيات، يتسم بالميوعة إلى حد كبير، وينتظر ميول الرأي العام لعموم القواعد قبيل الحسم، وذلك لتجنّب رد فعل سلبي من المشاركين في التنسيقات. وهو ما اعتبره البعض مثالا مهما لسلبيات “الديمقراطية الجماهيرية المباشرة”.

لاتعني هذه الانتقادات بالضرورة أن النمط الكلاسيكي للنقابة هو الشكل الفعّال الوحيد للاحتجاج، إذ تعاني النقابات هي الأخرى من مجموعة من الاختلالات، أدت إلى استهلاك رصيدها من الشرعية.

تذكّر مآلات الاحتجاج المغربي الواعد بكل سلبيات حركات الاحتجاج “الجديدة” في العالم، والتي افتخرت طويلا بـ”الحراك بدون رأس” و”الشبكات الأفقية”، ودائما بدون فعالية كبيرة. ما يعيد طرح أسئلة التنظيم، والذاتية الفردية والجماعية، في المغرب كما في كثير من دول العالم.

خيال العمل الجديد: هل سيجذب نموذج التنسيقية “عمّال المنصات”؟

 تجربة التنسيقيات كانت مغرية بالنسبة لعديد من القطاعات الأخرى في البلد، مثل قطاع الصحة. وقد يكون لشكلها التنظيمي أهمية كبيرة، بالنسبة لبعض أنواع العمل “الجديد”، المتسم بالتشتت وغياب الاتصال بين العامليين، وخاصة مَنْ يُصطلح على تسميتهم “عمال المنصّات”، أي العاملين في القطاع الخدمي، المرتبط بتقنيات التواصل الحديثة، مثل عمال التوصيل والنقل والمستودعات والرعاية.

عامل توصيل مغربي

ظلّت هذه الفئات العمالية خارج أي تأطير، رغم أن المغرب شهد نموا كبيرا في أعدادها، وقد نشهد قريبا ظهور “تنسيقيات المنصات”، والتي قد تتحوّل أيضا إلى نمط نقابي جديد، يشبه ما يجري حاليا في الولايات المتحدة الأميركية.

يشدد كثيرون على أن النقابات وليدة سياق اقتصادي وتاريخي معيّن، فقد أنتجت الثورة الصناعية في أوروبا النقابة بشكلها الكلاسيكي، المنتظمة في وحدة المصنع، ونقلتها إلى مستعمراتها، التي سرعان ما استغلّت الشكل الجديد لتحقيق التحرر الوطني. الشيء الذي يجعل من السياق الاقتصادي المعاصر للعمل محفّزا لإنتاج أشكال تنظيمية جديدة، مخالفة للخيال النقابي الموروث عن نموذج المصنع.

وفي الختام، فإن ما يميز كل هذا الحراك المغربي، سواء كان عبر نقابة أو تنسيقية، أنه يبقى ضمن مقولة “العمل”، وهذا بحد ذاته يحمل كثيرا من الدلالات الإيجابية، محليا وعلى المستوى الإقليمي والعربي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 2 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات