سهر، كحوليات، تعاطي مخدرات، موسيقى صاخبة، احتفالات مستمرة، مال وفير و حرّية مزعومة، تلك هي الصورة المنتشرة عن حياة النساء اللواتي تعملن في مجال الترفيه، وبالأخص في “الحياة الليلية” في مصر. وهي “الحياة”، التي تبدأ، وبالأخص في القاهرة، بعد أن يهدأ صخب المدينة مع اقتراب منتصف الليل، ليعلو داخل نواديها وكباريهاتها وباراتها أصوات الموسيقى والاحتفال، ويبدأ عالم جديد، ينتهي في كثير من الأحيان بعد طلوع الشمس، وبداية رحلة الحياة الشاقة لمواطني المدينة مرة أخرى. ففي الوقت نفسه، الذي يبدأ به عامل مصري يوم عمله الشاق، الذي في الأغلب سيقضيه تحت الشمس الحارقة، ليتحصّل على أقل من خمسة دولارات أجرا يوميا؛ هناك شاب، على وشك أن ينهي  وردية عمل في “الحياة الليلية”، تستمر قرابة عشر ساعات، ليعود إلى منزله، حاملا في محفظته بعض النقود، المجمّعة من الإكراميات والبقشيش، إلى جانب مرتّبه الأساسي القليل، وعليه أن يكون في الوقت نفسه، مبتسما، ودودا، وأن يرافق مجموعة من السكارى في سهرتهم، ويحرص على أن تكون كل طلباتهم مجابه. كلها بالمعنى الحرفي.

كذلك فإن نزول شابة في بدايات عشريناتها للذهاب للجامعة، أو لشق طريقها في رحلة البحث عن حياة مهنية، مناسبة لقدراتها ورغبتها، تتزامن مع رجوع فتاة مماثلة لها في السن، أو أصغر، إلى بيتها، بعد أن وجدت فعلا المهنة، التي تؤمّن لها دخلا ما، في العوالم الليلية المعقّدة في القاهرة. ومن الصعب فعلا أن نتكلّم بثقة عن مدى حظ الأولى، مقارنةً بالثانية، في مجتمع يطحن الجميع، خاصة نساءه وعماله، فما بالك بنسائه العاملات، في كل المهن الليلية والنهارية.

في النهاية، للجميع الحق في اختيار طريقة ونمط الحياة الذي يناسبه، وللجميع الحق في اختيار المهنة التي يراها الأفضل له، على أن يكون قادرا على تحمّل الصعوبات والمضايقات اليومية التي قد يتعرّض لها في حياته المهنية. ولكن هل يمكننا حقا أن نقول إن العمل في مجالات الحياة الليلية “عمل” فعلا في المجتمع المصري، أي نشاطا مهنيا له أوضاعه وحقوقه، وكأننا في مجتمع غربي يرفع ناشطوه شعار: “العمل الجنسي هو عمل”؟ على الأغلب لا، فالأوضاع في تلك المجالات لها طابعها المصري “الأصيل”، ولم تتبلور فيها بعد أية مفاهيم حول “العمل”. كيف تتبدى “خصوصيتنا” في هذا المجال؟

مشكلة الاستعباد: لماذا “عمل جنسي” وليس “دعارة”؟

ممارسة الجنس مقابل المال، الذي يُعرف في بلداننا باسم “الدعارة”، مع ما يترافق مع هذا الوصف من عواقب قانونية واجتماعية، شكّل دائما موضع خلاف تشريعي وأيديولوجي، وحتى سياسي، في كثير من الدول الغربية، وانقسمت التيارات النسوية حوله، إلا أن الأمور استقرّت نسبيا على التأكيد على تحديده بوصفه “عملا في الجنس”، ما يخفف الوصمة على النساء.

 وفي الدول التي تقونن العمل الجنسي، يوجد سعي دائم لتطوير القوانين بما ينظّم هذا العمل، ويحمي الأطراف المشاركة فيه، وأولها السيدة التي تقدّم “الخدمة”، مع التركيز على الرعاية الطبية، والآجر الذي يُعتبر عادلا، والحق في الموافقة والرفض، والحماية من الإتجار بالبشر، وضغط عصاباته. بالطبع لم تصبح صورة العمل الجنسي وردية في أي مكان بالعالم، ولكن الأمور في تحسّن نسبي، وربما يعود الفضل الأول في ذلك إلى النظر إلى السيدات، في ذلك المجال، وفق مقولة “العمل” وليس “الدعارة” أو العبودية الجنسية.

وما دمنا نتحدّث عن “الحق في الرفض”، و”الحماية من الإتجار بالبشر”، وذلك لتمييز “العمل الجنسي” عن العبودية، فإن ما يجري في مصر ربما لا علاقة له بأي مفهوم لـ”تحرير قوة العمل”، إذ يتم استغلال النساء، وبالأخص القاصرات وصغيرات السن، في بيئات اجتماعية شديدة البؤس، وبدون أي غطاء قانوني، بل ربما تلعب القوانين القائمة دورا في تسهيل استغلال الفتيات، مثل زواج القاصرات، وعدم حماية النساء والطفلات من العنف الأسري، ما قد يدفعهن للهرب من أوضاعهن الجحيمية في أسرهن ومجتمعاتهن، والسقوط بعدها بسهولة تحت رحمة تجّار البشر.

مع شديد الأسف، لا توجد أية بيانات رسمية عن حال النساء العاملات في مجال الجنس في مصر، أو أي دولة عربية أخرى. وهذا لا يترك لنا إلا الخيال والاستنتاجات غير المؤكدة، للتعرّف على أوضاعهن، والمخاطر التي يواجهنها، وكذلك حالات استعبادهن. ولا تبقى أية طريقة، لمحاولة دخول عالم “العمل الليلي”، ومعرفة بعض التفاصيل و”القوانين” التي تحكمه، سوى أخذ شهادات بعض العاملات والعاملين فيه. والتي لوحدها لن ترسم بالتأكيد صورة كاملة.

“متر البنات”: ماذا يتعلّم الرجال لدى العمل في “الحياة الليلية”؟

“هو سعرها هيتحدد بناء على شكلها وجسمها والاتتيود بتاعها، كل ما كانت شرموطة اكتر، كل ما كان سعرها في الليلة أكتر”، يقول (م.م)، وهو عامل في مجال “الترفيه”، كانت يشغل وظيفة مضيف host في أحد النوادي الليلية في مصر. وعندما سألناه عن الدور الفعلي الذي يقوم به، رد بالقول: “أنا صاحب الزبون، من ساعة ما يدخل المكان لحد ما يخرج، ومهتمي أني اخليه مبسوط، ودايما بضحك في وشه، أيا كان اللي بيحصل”.

يؤكد (م.م) أن هناك عديدا من “المسميات الوظيفية” للعاملات في النوادي الليلية. فهناك “الركلام”، التي يشار إليها اختصارا بـ “آر”، أو، في الاحيان التي يتم الإشارة إليها باسم أنيق، فهي “آشر- Usher”. ويكون دور الفتيات في تلك النوادي الليلية هو التواجد فقط. فكلما كانت الصالة مليئة بالنساء، كلما أغرت الزبائن للدخول والسهر، وفي كثير من الأحيان لا يفعلن أكثر من الجلوس أو الرقص غير الاحترافي. أما عن الجنس مقابل المال فيختلف من مكان لآخر، هناك اماكن ترفضه، وأماكن تسهّله، وأماكن أخرى تجبر فتياتها عليه. وفي كل الأحوال يقاسم الجميع الفتيات الأموال التي يحصلن عليها، بداية من صاحب المكان، وحتى رجل الأمن، مرورا بالطبع بـ “متر النسوان”.

“متر” في لغة الليل المصرية تعني “مزوّد” provider، و”متر النسوان” هو الذي يقوم بمهمة ملء المكان بالفتيات، اللواتي يجب أن يجذبن نظر مرتادي المكان. ويتفرّع من مهنته وظيفة “متر الكيت/النقوط”، المسؤول عن التقاط الأموال، التي تُرمى على الراقصات والفتيات الموجودات في المكان، وفي كثير من الأماكن يكون “الكيت” أوراقا نقدية مقلّدة، على أن تكون العشرة آلاف جنيه المقلّدة مثلا، تساوي ألف جنيه حقيقي.

“متر نسوان” بالطبع، هو التعبير الأنيق المستحدث بدلا من كلمة “معرّص”، أو قوّاد، الذي يوظف الفتيات والسيدات للعمل في الجنس، ويكون، افتراضا، حاميهن وحارسهن، ومقابل تلك الحراسة المزعومة يأخذ نسبة من أرباحهن، غالبا ما تكون الأكبر.

بالعودة لـ(م.م)، فهو يواصل شهادته بالقول: “انا اتقالي كتير هات صحاباتك البنات يسهروا، ومش هيدفعوا حاجة، كدا كدا المهم يكونوا موجودين، بس استنضف منهم. واستنضف يقصد أنقّي الشراميط اللي فيهم. وهما كانوا بيجهزوني علشان أكون معرّص”.

لقد كوّن (م. م) في رحلة “المهنية” مبادئ خاصة جدا، وبمجرّد دخوله إلى ذلك العالم، كان الدرس الأول الذي تعّلمه أن لا صوت يعلو فوق صوت المال، فمدى كفاءتك في العمل تتحدد بقدر المال الذي يمكنك استخراجه من الزبون في الليلة الواحدة، حتى لو عن طريق بيعه مشروبات كحولية مغشوشة، على أنها أصلية مستوردة؛ أو “بيع” فتاة من الفتيات “الركلام” بمبلغ أكبر مما تستحقه (بناء على معايير “الجمال” التي تحدد أسعار الفتيات)؛ أما  الدرس الثاني الذي تعلّمه فهو أن احترام النساء لن يجلب له إلا التوبيخ من رؤسائه، ما سيجعله، ويالسخرية المسمّى، “الخَوَل الذي تتحكم به النساء”. لا تنس دورك! أنت المعرّص فقط، وليس أكثر من ذلك.

ولكن هل هذان الدرسان، أولوية المال وعدم احترام النساء، يتعلّمهما المرء لدى العمل في عالم “الحياة الليلية” فقط؟

حكاية “آر”: متى تنتهي “المسيرة المهنية” في العالم الليلي؟

“انا عندي 17 بس، في الشغل بقول عندي 21 او 22، كدا يعني”، تقول (إ.ص)، وهي عاملة في مجال الترفيه الليلي، وقد علمنا أن السن القانوني المسموح به رسميا، للعمل  في مجالها هو 21 عاما، ولكن في واقع الأمر، وفي أغلب الأوقات، تكون أعمار الفتيات، وبالأخص “الآر”، من 17 حتى 22 بحد أقصى. وكلما كانت الفتاة أصغر، كلما ارتفع ثمنها، وتهافت عليها روّاد النوادي الليلة.

وعند سؤال (إ.ص) عن تفاصيل أكثر، أكدت أنها لا تصرّح عن عمرها الحقيقي في أي مكان تعمل به، وأنها كذلك خبيرة في معرفة سن الفتيات الحقيقي.

دخول (إ.ص) في المجال بدأ منذ عام ونصف، أي أنها كانت لم تتعد السادسة عشر من العمر بعد، وكان ذلك عن طريق زوج اختها. “أختي اتجوزت واحد عرفي، وعرّفها على الشغلانة، هو كان “متر نسوان”، وكان بياخدها معاه الأماكن اللي بتشتغل فيها، وهي خدتني معاها مرة، وعجبني الموضوع، وفلوسه حلوة، ومن ساعتها وأنا بشتغل، تقريبا يوم ويوم”.

ليست (إ.ص) الأصغر في هذا المجال. يخبرنا (م.م) أن أصغر فتاة أشرف على عملية تعيينها، في النادي الليلي الذي عمل به، كانت تبلغ خمسة عشر عاما فقط، هي وأختها ذات الستة عشر عاما. أرسلتهما أمهما معا للعمل في النادي. وكان عملهما يقتصر على التواجد في المكان، وربما الرقص من حين لآخر. “أمهم كانت بتتصل عليا تتطمن عليهم وصلوا ولا لا، ومشيوا ولا لسه، وديه كانت من أكتر الحاجات المقرفة، اللي اضطريت اتعامل معاها في المكان”، يقول (م.م).

دخل (إ.ص) الشهري يصل أحيانا لثلاثين ألف جنيه شهريا، وهو أعلى من مرتبات كثير من عمّال مصر، تعيش مع والدتها، التي تعلم طبيعة عملها ولا تمانع، كما أنها تدرس في إحدى مدارس الثانوية التجارية، ولا تهتم كثيرا بإنهاء تعليمها، فمن وجهة نظرها لا يوجد سبب واحد يجعل التعليم من أولوياتها، فهي وجدت الطريق الذي ستعيش من خلاله الحياة التي تحلم بها.

ولدى سؤالها عمّا إذا كانت متضايقة من طبيعة عملها بأي شكل، أجابت: “أحيانا قبل ما أنام بفكر في اللي حصل في اليوم، والإهانات، والمعاملة الوسخة من اللي شغالين في المكان، والشتايم اللي بسمعها كل شويه، بس مفيش وقت للتفكير، بنّام وبنصحى تاني، علشان ننزل، علشان الفلوس، الموضوع شبه الإدمان”.

أما أكثر ما يضايقها في العمل “معاملة الرجّالة صحاب المكان، واللي ماسكين البنات، دايما بيتعمدوا يهنوني من غير ما أكون عملت حاجة”.

يبدو أن الشخص المسؤول عن الفتيات، وأيا كانت أعمارهن وطبيعة عملهن في المكان، عليه أن يشكّ في الجميع، وأن لا يتهاون في استغلال أية فرصة، يذكّر فيها الفتيات بأنهن “شراميط”، لدرجة أنه في بعض الأماكن، الوجبات التي تقدّم للفتيات تسمّى “وجبة شرموطة”.

حالة (إ.ص) أفضل كثيرا من غيرها، بسبب صغر سنها. سينخفض دخلها بمجرد أن تبلغ “السن القانوني”، وفي كل سنة بعده، ستخسر أكثر وأكثر. أين الدولة من كل هذا؟

“تقفيل القواضي”: هل من قانون لـ”الآر” و”المتر”؟

في الواقع تسنّ الحكومة المصرية قوانين تخصّ العمل في الترفيه الليلي، وتختلف تلك القوانين وفقا للمكان الذي تطبّق فيه، ففي المدن الداخلية يختلف الوضع عن المدن الساحلية (شرم، طابا، دهب، الغردقة..الخ). وهي تمنع عموما تشغيل القاصرات، وتعاطي المخدرات. وتدقق على جنسيات العاملات. إلا أن هذا المجال لا ينتعش إلا في هامش من التغاضي القانوني، فعلى سبيل المثال، أماكن الترفيه الليلي المعروفة في القاهرة، يجد أصحابها طريقة لتسوية أمورهم مع الشرطة بشكل دوري، ماعدا ما يُعرف ب”شهر تقفيل القواضي”، في كانون الأول/ديسمبر من كل عام، حين يتم مداهمة بعض الأماكن، هنا وهناك، للقبض على البعض، في قضايا “آداب” ومخدرات، وتعود الحياة لمجراها مرة أخرى، بداية من العام الجديد، وكأن شيئا لم يكن.

قد يكون السؤال هنا: هل يمكن في بلد مثل مصر إنهاء هذا “العالم الليلي”، وفرض العفة على جميع رواده؟ الإجابة طبعا هي لا، فضلا عن أنه لا توجد أية جهة لها مصلحة بذلك، لا الدولة، ولا العاملون في السياحة، ولا حتى كثيرات من الفتيات، اللواتي يوصفن عادة بأبشع النعوت. وهنا تكمن النقطة الجدلية، التي يستند إليها من يطالبون بتقنين العمل الجنسي، فوجود قوانين، بل حتى تنظيمات مهنيّة، سيحمي الفتيات، أولا من السلطة المفروضة عليهن من قبل القوادين وأشباههم؛ وأيضا من كثير من زبائنهن وأرباب عملهن.

تقنين للعمل الجنسي في مصر، وتنظيم للعاملات به؟ يبدو هذا مجرد خيال. ولكن ربما كان من المفيد، وبغض النظر عن الوضع القانوني والسياسي، أن نفكّر بذلك “العالم الليلي” الواسع، ليس بوصفه مجرّد فضاء من الترفيه والانحلال، بل أيضا موطنا لـ”صناعة” كاملة، لها، مثل كل صناعة، عاملوها، وهم في حالتنا نساء بأغلبهن، ربما من المفيد أن لا نراهن فقط مجرد ضحايا، بل أيضا عاملات مُستغلّات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.8 13 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات