خارج “الفطرة”: لماذا تتعرض النساء العاملات في مصر لـ”حرب شوارع”؟

خارج “الفطرة”: لماذا تتعرض النساء العاملات في مصر لـ”حرب شوارع”؟

في الثاني عشر من كانون الأول/ديسمبر الماضي، احتفى الوسط الحقوقي والنسوي المصري بقانون جديد لتغليظ عقوبات التحرش الجنسي، وذلك بعد يومين فقط من انتهاء الفعاليات السنوية لمناهضة العنف ضد المرأة، والتي تبدأ منذ الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، وتستمر لمدة ستة عشر يوما.

ولكن قبل أيام من انتهاء تلك الفعاليات، وفيما بدا تذكيرا ساخرا بأوضاع نساء مصر، وقعت جريمة، أحدثت صدى واسعا، إذ قُتلت امرأة شابة على يد زوجها، بعد عامين فقط من زواج، من المفترض أنه توّج قصة حب. وبهذا تنضم ّإلى 158 سيدة وفتاة، قتلهن العنف الأسري والمجتمعي في النصف الأول من عام 2023، بخلاف 471 جريمة عنف أسري ضد النساء، سواء كن مسنّات أو رضيعات، وهو رقم بتجاوز ما سبق رصده منذ عام 2020.

هنالك مقولات تقليدية لتفسير ازدياد العنف، تؤكد على دور الأزمات الاقتصادية في تصاعد الجرائم في المجتمع، والتي تروح ضحيتها النساء كالعادة، ولكن هذا التفسير يبدو قاصرا إلى حد كبير، وكأن الرجال وحدهم من يعاني من الضغوط الاقتصادية، فـ”يفرّغون” معاناتهم بالنساء.

إذا كان لنا بالفعل أن نربط العنف ضد النساء بالحالة الاقتصادية/الاجتماعية، فيجب أن ننظر إلى النشاط الحياتي لنساء مصر، اللواتي يخرج كثير منهن إلى الشوارع لتحصيل رزقهن ورزق أسرهن، وتلك الشوارع، بطبيعة الحال، ونظرا للتمييز الجندري المتأصل في المجتمعات العربية، ليست موطنا آمنا للنساء، بل قامت، بوصفها “حيزا عاما”، على إقصائهن، وممارسة عنف منهجي ضدهن.

وبالتالي فإن خروج النساء المكثف إلى الشوارع، وتعرضهن للعنف، يرتبط بكونهن عاملات إلى حد كبير، وهن لا يعانين فقط من الاستغلال المزدوج في العمل (لأنهن عاملات ونساء في الوقت نفسه) بل أيضا من العنف الذكوري المتأصّل في المجتمع المصري، الذي يطالبهن باللخروج للعمل، بلا حقوق مترسخة، يستغلّ عملهن، ثم يحيطهن بالعنف والعار، لأنهم غادرن ما يفترض أنه “موطنهن الطبيعي”، الذي يجب أن يبقين فيه لخدمة الزوج والعائلة، وتربية الأولاد، وتقديم أفضل ما يستطعن من عمل مجاني.

كان المتوقّع أن خروج النساء إلى الشارع، بوصفهن قوة عمل، سيمنحن قوة اجتماعية، بل ربما سياسية، إلا أننا لم نرصد فعليا إلا أشكالا صادمة من العنف والاستغلال، وكأن النساء العاملات يدفعن ضريبة جنسهن. هل يوجد في ثقافة العمل المصرية ما يُحتّم تعنيف النساء العاملات؟ ولماذا يتجاهلهن الجميع حقا؟

تحرر اليأس: لماذا لا توجد في شوارعنا “نساء طائشات”؟

نزول النساء إلى الشوارع للعمل ليس جديدا على الإطلاق في مصر، اليوم لدينا أكثر من اثني عشر مليون سيدة مصرية، تُصنّف امرأة مُعيلة؛ ويبلغ عدد الأسر، التي تعولها بالكامل امرأة، حوالي ثلاثة ملايين أسرة، إلا أن الثقافة الاجتماعية لم تتأقلم مع هذا الوضع، فما تزال جُمَل مثل “نجاح المرأة الحقيقي هو إرضاء رجلها” سائدة بقوة، بل تُعمّم عبر وسائل الإعلام الجماهيري، فالمرأة يجب أن تحتمل رجلها، حتى لو كان سيء التصرف، وحتى لو كانت تعيله، لأنه “الرجل” بكل بساطة، وعليها “الصبر لأجل بيتها وأولادها”. ما يُشجّع على تحكّم كامل، وإهانات، يصل بعضها إلى درجة جرائم بحق النساء.

من جهة أخرى فما تزال البنية القانونية تكرّس وضعا متميزا للذكور، لا يمكن فهم أي مبرر قانوني مجرّد له، فإذا كان يمكن لفقيه قديم، أن يبرر قاعدة فقهية منحازة بحجة “عقلية”، مثل أن الرجال عليهم عبء اقتصادي أكبر (وهي حجة لم تكن مقنعة حتى فيما مضى) فلا يمكننا أن نجد اليوم أي أساس جدّي للتمييز القانوني، سوى الذكورية البحتة، المرتبطة بموروثات عرفيّة ودينية وأيديولوجية.  

إلا أن هنالك جانبا آخر، لا يقل قسوة، يتعلّق بما يمكن وصفه “رد الاعتبار”. ففي مجتمع تتصاعد فيه نسب الفقر والبطالة، يتزايد عدد الشبان، الذين يجدون في الشارع مسرحا مناسبا لعرض غضبهم وخيبتهم ويأسهم، وغالبا انعدام مسؤوليتهم. وتبرر القيم الاجتماعية ذلك نسبيا، بمقولة “شاب طائش ويائس”، فيما لا تملك النساء الشابات، حتى لو كن يعانين من الخيبات نفسها، رفاهية التعبير عن أنفسهن بأية طريقة فيها بعض التحرر، إذ يحاصرهن “العيب”، وما هو أسوأ، أي العنف المباشر، والمُبَرَر، لـ”الشباب الطائشين”.

هكذا تعطي مقولة “الطيش”، المُفسّرة باليأس الاجتماعي، نوعا من رد الاعتبار للذكور، فيما تحرم منها النساء. ألا يحق لهن، وهن يعانين ما يعانين في سعيهن وراء الرزق، بعض “الطيش” أيضا؟   

المعيلة المحتقرة: لماذا يجب أن تشعر المعنّفة بالامتنان؟

أثبت تقرير، غطّى النصف الأول من عام 2023، أن 10% من النساء العاملات يتعرضن للعنف المباشر، مثل “التعدي جسديا ولفظيا، والمراقبة والتهديد والتعنيف، والتحرش وهتك العِرض والاغتصاب، والاستيلاء على أموال وممتلكات، والطرد من السكن”.

لا يقتصر العنف ضد النساء العاملات على العنف الجسدي فقط، فصوره الأخرى حاضرة، ومنها العنف النفسي، الذي تتعرض له 23% من نساء مصر، وفقًا لما كشفه برنامج “العنف القائم على النوع الاجتماعي” عام 2022، حين أطلقت مؤسسات نسوية حملة “الضحية الأخيرة“. فهل تحسّنت الأوضاع الآن؟ لا طبعا.

ورغم أن ضحايا عنف العمل هذا نساء، فالغريب أن بعض النظرات الدينية تحوّلهن إلى “مُجرمات”، إذ وصف أحد الشيوخ النساء العاملات بأنهن “فتنة خطيرة على الرجل”؛ فيما نصح داعية الشباب بعدم الزواج من العاملات، لأنهن “يُخالفن الشريعة”، واتهم مَن يسمح لزوجته بالعمل بأنه “يعاني انتكاسا بالفطرة”، والواجب عليه “منعها من العمل”.

تبدو معادلة عمل النساء غريبة في مصر: اخرجي للعمل، تعرضي للتحرّش والعنف في الشارع؛ الاستغلال والعنف في مكان العمل؛ تشويه السمعة والعنف اللفظي والرمزي على وسائل الإعلام. وفوق كل هذا اشعري بالذنب، والامتنان كذلك، لأننا نسمح لك بالمساهمة في إعالة جانب كبير من مجتمعنا، الذي يجب أن يبقى فائق الذكورية، مهما انفقت عليه.

ولكن ما رأي الدولة المصرية بكل هذا؟

القضية التافهة: هل الدولة مشرف عام على العنف؟

يتناول الدستور المصري، في مادته الحادية عشرة، العنف ضد النساء، ووجوب اتخاذ إجراءات حياله. ولكن هذه المادة ليست لها، حتى الآن، أية انعكاسات قانونية جديّة، فمثلا لم توقّع مصر على الاتفاقية 190 لمنظمة العمل الدولية، والخاصة بمناهضة العنف والتحرش بالنساء داخل مواقع العمل، رغم كل المناشدات الحقوقية.

من جهة ثانية وعدت الحكومة، منذ منتصف عام 2022، بصدور قانون جديد للأحوال الشخصية، الذي لم تصدر أي نسخة جديدة له منذ أكثر من مئة عام، لكن هذا لم يتم، ولم يوضع مقترح القانون الجديد على جدول أعمال “الحوار الوطني” الأخير، إذ يُعتبر من القضايا “التافهة” على ما يبدو، من منظور السجالات بين السلطة و”المعارضة”. وعندما تقدّمت برلمانية مصرية، بمشروع قانون لتغليظ عقوبة العنف الأسري، لم يستجب لها أحد.

كل هذا قد يدفع للقول إنه بحسب التعريف الأممي للعنف ضد النساء والفتيات، وفي ظل التأخر غير المفهوم في إصدار قانون موحّد لمناهضة العنف ضد المرأة، رغم أنه إحدى توصيات الاستراتيجية الوطنية المصرية (2015- 2020)، فقد يمكن اعتبار الدولة المصرية في خانة المتغاضي عمدا عن العنف.

لا توجد قوى سياسية تطالب بحقوق النساء العاملات بشكل جدي في مصر، كما لم يُسجّل للنقابات العمالية، الرسمية و”البديلة”، أي نشاط متميز في هذا المجال، وفعليا تترك القضية لمبادرات منظمات “المجتمع المدني”، غير المتخصصة بقضايا العمل، والتي تتكلم عن “المرأة” بشكل عام، وهو جهد شديد الضرورة بالتأكيد، إلا أن مواجهة الأوضاع الملموسة للعمل ومشاكله تحتاج أيضا جهات متخصصة، مثل الاتحادات المهنية والنقابات.

عموما يترك الجميع النساء العاملات وحدهن في مواجهة حمل لا يطاق، ولذلك فإن أي تحرك “اجتماعي” أو “يساري” في مصر، لن يستحق هاتين الصفتين إذا لم يكن نسويا في جوهره. وربما العكس صحيح، فإذا لم تضع التيارات النسوية المصرية مصالح النساء العاملات على رأس أولوياتها، فلن تستحق صفة “النسوية”. بعبارة أخرى فإن تجاهل هذه المسألة يدين الجميع: الدولة، التي تقول إنها “دولة قانون لكل المصريين”، والمعارضة، التي تدّعي أنها “معارضة ديمقراطية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
2.3 3 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات