“العمل” العراقي: هل يمكننا البحث عن “الطبقة العاملة” في الميليشيات؟

“العمل” العراقي: هل يمكننا البحث عن “الطبقة العاملة” في الميليشيات؟

على مدى العقود القليلة الماضية، شهد العراق مجموعة من التحولات الفارقة، التي رسمت ملامح مستقبله، وشكّلت مشهده الاجتماعي، وبطبيعة الحال أعادت صياغة أزماته المختلفة، على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومن بين كل القضايا العراقية المعروفة، مثل الطائفية والميليشياوية والعرقية والفساد، لا تنال قضية العمّال العراقيين كثيرا من الاهتمام، رغم أن أغلب الشعب العراقي “عمّال” بشكل أو بآخر، ورغم أن العمّال في النهاية هم جانب من صورة الميليشياوية والطائفية، وضحاياها في الوقت نفسه.

إرث التشوهات المجتمعية، التي تركتها دكتاتورية صدام حسين، وبعدها الاحتلال الأميركي-الإيراني، والنخب السياسية التي أتى بها، والميليشيات التابعة لولاية الفقيه، أو الأقل “ولائية”، نسجت أزمات وصراعات لا تنتهي، وولّدت اقتصادا هشا للبلاد، ترك شريحة واسعة من السكان عاطلين عن العمل، وخلق مناخا من اليأس بين الشباب، الذين أصبح من الواضح بالنسبة لهم أن الرشوة والمحسوبية والعلاقات الزبائنية هي القاعدة لحياة أمنة ماليا، ولتحقيق مكانة اجتماعية.

الأمر لا يقتصر فقط على البطالة او التضخّم والتحديات التقليدية التي تواجهها الدول، وانما يتعدى ذلك بكثير، عبر استغلال الازمات بأشكال مختلفة، لتعميق نفوذ من لديهم القوة والسلطة، فنجد أن “الثقافة السياسية” للأحزاب المتولّية للسلطة، في تأمين الأصوات الانتخابية، هي الرشوة الجماعية للناس، عبر وعدهم بتوظيف ابناهم؛ فيما تستولي القبيلة او العائلة على المؤسسات الحكومية، من خلال استغلال أحد افرادها لمنصبه، ليزج بكل من له قرابة به في المؤسسة التي يديرها؛ وطبعا تجد الميليشيات في كل هذا بيئة ممتازة لتجنيد الشباب المُعطل عن العمل، وتقوية نفسها، والتجارة بالمخدرات وتهريب السلاح والنفط. كل هذا ليس فقط “البنية التحتية” للطائفية والميليشياوية، بل أيضا عامل تأسيسي في الثقافة العراقية المعاصرة.

وبالمحصّلة، فإن التحديات التي يواجهها العمال العراقيون مترابطة بشكل عميق، إذ تعزز كل قضية القضايا الأخرى. وحتى نصل الى فهم واضح لطبيعة “العمل”، في ظل سلطة الميليشيات، لابد من طرح عدة أسئلة: هل يمكن القول إنه لا قوة للعمل، ولا حيثية لقضاياه، في مجتمع طائفي وعشائري مثل العراق، والمجتمعات التي تشبهه؟ وهل يمكن اعتبار هموم وأوضاع ملايين العاملين، مجرد تفصيل جانبي في البنى الاجتماعية العراقية؟ أم أن العمل حاضر دائما، وممكن أن يعود، حتى في العراق؟

عمل القطاع العام: هل “منطق الدولة” مخالف للطائفية فعلا؟

لعبت الأحزاب المتولّية لحكم العراق، أثناء وبعد الاحتلال، دورا كبيرا في زيادة أزمات العمال، فعلى الرغم من أنهم المنتجون الأساسيون لكل ما في اقتصاد البلد، ويتوزّعون بين “المهن الصلبة”، في المعامل وآبار النفط ومشاريع البنية التحتية؛ وبين “المهن الجديدة”، مثل الخدمات الهامشية في المدن (خدمات التوصيل والمواصلات والرعاية والتخديم على الأسواق الشعبية وغيرها) إلا أن حقوقهم تقف عند “نصيب المكوّن” الذي ينتمون إليه، ضمن منظومة المحاصصة الطائفية العراقية.   

ولا يقف الأمر عند المحاصصة على اساس الطائفة، وانما يتعدّاه الى توزيع المناصب والوزارات، حسب الولاءات الحزبية. وكل حصة تتشعب منها مجموعة تعينات مفصلية ومهمة، للموالين للحزب، وتكون وظيفة هؤلاء تسهيل، أو غض الطرف عن العقود والتعاملات الفاسدة، التي تدرّ على الحزب الأموال. أما الوظائف الإجرائية، والوظائف الصغيرة، فتكون بمثابة رشوة جماعية للقاعدة الانتخابية التي انتخبت الحزب، أو القبيلة التي وقفت معه. وهكذا فإن الانتماء الحزبي قد يلعب الدور الأساسي في إمكانية مطالبتك بأي حق من حقوقك في العمل.

يمكننا أن نطرح مثال وزارة الصحة العراقية، التي بات من المعروف أنها تابعة للتيار الصدري، لدرجة أن المستشفيات العامة، فيما يعرف بـ”مدينة الطب”، وهي دائرة حكومية صحيّة فيها مجمّع مستشفيات، مليئة بصور مقتدى الصدر ووالده، وتتكاثر التقارير الصحفية عن العقود الفاسدة، التي تمضيها الوزارة مع شركات استيراد الدواء والمعدات الطبية، مقابل رشاوِ تقدّمها الشركات.

هناك امثلة أخرى كثيرة، وأشكال متنوّعه من استغلال المناصب الحكومية والفساد، ولكن هذا المثال يكفينا للقياس على باقي مؤسسات الدولة، وكيف أدارت الأحزاب المتنفّذة اقتصاد البلد، ما خلّف 1.6 عاطل عن العمل، ونسبة فقر تصل الى 25 بالمئة.

قد يدفع هذا للتفكير بأنه لا توجد بنية إنتاجية أصلا في العراق، وكل ما في الأمر أن هنالك مجموعة من المتنفّذين، يوزّعون الريع على أنصارهم، وبالتالي فلا معنى للحديث عن “العمل”. ولكن هذا غير دقيق، في النهاية هنالك جهد بشري، يقوم به آلاف العمال، ولولاه لا توجد مؤسسات ولا مستشفيات ولا تعليم، ولا حتى “ريع”، وهذا الجهد يُنتزع من العراقيين، ويعاد توزيع فتاته عبر منظومة طائفية. وربما يكون نمط “إعادة التوزيع” هذا، هو الأساس المادي الأبرز للطائفية في العراق.

وفي مثل هذا الوضع يكون من الواضح بالنسبة للباحث عن العمل مدى مأساوية الحال، وعليه ان يطبّع مع جو التبعية والمحسوبية، وأن يصبح طائفيا وقبليّا أكثر، فهذان الأمران لا يأتيان فقط من السرد الشفوي، أو نتيجة ممارسات أنثروبولوجية رمزية، وإنما أيضا من بنية مادية شديدة الصلابة. ومن هنا يتشكّل وعي من يمكن تسميتهم “المواطنين”، وخاصة “العمّال” منهم، داخل ثقافة الطائفية المتحزّبة، المؤدية إلى إدامة دائرة الفساد، التي تفيد قلة مختارة، بينما تُترك الأغلبية في حالة يرثى لها.

المُشغّل والنقيب: هل يوجد “قطاع خاص” في العراق؟

في مثل هذا المناخ الفاسد، وانعدام الفرص بالنسبة للباحث عن عمل في قطاعات الدولة، المُوظِّف الأول للعراقيين، خاصة لمن لا يملك رشوة ليقدمها، أو حزبا متنفّذا يسنده، يكون اللجوء الى “القطاع الخاص” هو الخطة البديلة. ولكن عبارة “قطاع خاص” غير دقيقة على الأطلاق، فظلال الفساد والمحسوبية، وتدخّلات المتنفذين، والعلاقة مع أجهزة الدولة الفاسدة، تلقي بظلالها على هذا القطاع أيضا؛ أما غياب دور مؤسسات الرقابة، وتهميش النقابات، بسبب التأثيرات السياسية والحزبية، فقد أطلق العنان لجشع اصحاب العمل، مستغلين الظروف المعيشية الصعبة، التي تضطر العمال بالقبول بأدنى الاجور، إذ تتراوح اجور العمال العراقيين بين 10 الف دينار عراقي إلى 15 الفا في اليوم، اي ما يعادل 7 إلى 10 دولار، ليوم ساعات العمل فيه بين 10 الى 14 ساعة، حسب استطلاعات أجرتها صحف محلية.

وإضافة الى ساعات العمل الطويلة، والأجور المنخفضة، فلا وجود للأمان الوظيفي، إذ غالبا ما يفتقر العمال إلى عقود عمل رسمية، أو وسائل حماية وظيفية، وهذا يجعل العمال عرضة للاستغناء والتسريح، دون اي تعويض أو ضمان اجتماعي، في حال تعرّضوا لحادث، يجعلهم غير قادرين على العمل، فضلا عن غياب لجان التفتيش، التابعة لوزارة العمل، وهكذا صار لدينا، إلى جانب معاقي الحروب وأحداث العنف الطائفي والعشائري، المعاقون في حوادث العمل، والذين لا نصير لهم إلا فاعلو الخير.

ورغم وجود ثماني نقابات في العراق، يفترض أنها تمثّل شريحة العمال، إلا أن حضورها شكلي للغاية، وتهيمن عليها الأحزاب المتنفذة بدورها. ومن المعلومات، التي يجب ذكرها في هذا السياق، أن الحد الاعلى لرواتب التقاعد، بالنسبة للعمال، الذين حالفهم الحظ وتسجلوا في صندوق الضمان الاجتماعي، هو 400 ألف دينار، أي ما يعادل 270 دولار شهريا؛ اما بالنسبة للموظف الحكومي، فالحد الأدنى هو 500 الف. نقول “من حالفهم الحظ”، لأن الغالبية العظمى من شريحة العمال غير مسجّلة في الضمان الاجتماعي التابع للوزارة، وذلك إما بسبب تهرّب ارباب العمل من تسجيل العمّال، تلافيا لدفع نسبة من الأجور لصندوق الضمان؛ أو لأن النسبة المستقطعة من راتب العامل أعلى من أن يتحملها، في ظروف صعبة مثل ظروف العراق. وذلك وسط انشغال رؤساء النقابات بمنافعهم الخاصة، والصراعات فيما بينهم، متغافلين عن مشاكل العمال ومعاناتهم.

عمّال الميليشيات: حروب ما لا يملكون إلا قوة حمل السلاح

 في هذا السياق، الذي أصبحت فيه الخدمات الاساسية ترفا بالنسبة لكثير من العراقيين، تقوم الميليشيات بـ”ملء الفراغ”، وهذا يزيد من نفوذها يوما بعد يوم، ليتجاوز ساحات الحروب، إلى عقول أولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى الإغاثة الاقتصادية.

أحد الجوانب الأكثر لفتا للانتباه في ظاهرة الميليشيات هي قدرتها على تجنيد اليائسين من إيجاد فرص العمل، والمحرومين اقتصاديا، وبهذا تضمن التعبئة البشرية اللازمة لها، في أي طارئ قد تواجهه. وغالبا ما تقدّم هذه المجموعات نفسها بهيئة المنقذ للشباب، فلا توفّر فقط الشعور بالانتماء، ولكن أيضا الدعم المالي.

بالنسبة لكثيرين يصبح الانضمام إلى الميليشيات مسألة بقاء، وهذا ما حدث حين تم تجنيد عديد من الشباب المُحبط للقتال في سوريا،  في فترة الحرب الاهلية السورية، وكان أحد اكثر الوسائل الفعالة في ذلك الإغراء بمبالغ مالية، وتأمين رواتب مستدامة، تؤمّن قوت المقاتلين، وقوت عائلاتهم. ومن أبرز الفصائل، التي انتهجت تلك الممارسة، كتائب “حزب الله العراقي”،ـ ومنظمة “بدر”، ولواء “فاطميون”، وغيرها الكثير.

وفي هذه البيئة الصعبة، تتلاشى الحدود الفاصلة بين أيديولوجيا الميليشيات وعلاقات الأسرة واقتصاد الحرب، وتستفيد العائلات والعشائر، التي غالبا ما يعمل شيوخها وسطاءً، يسهّلون الاتصالات بين الأفراد والميليشيات، من الحوافز مالية. وقد يتطّلب الولاء لعائلة أو عشيرة في بعض الأحيان الولاء للميليشيا، وهذا ما يمكن ملاحظته في شمال العراق، وخاصتا بين العائلتين المستوليتين على السلطة هناك: طالباني وبارزاني.

هذه الولاءات المتشابكة تزيد من تفاقم المشكلة. ولكن من المهم أن نفهم أنه ليس كل الأفراد، الذين ينضمون إلى الميليشيات، يفعلون ذلك عن طيب خاطر، بل كثيرا ما يتركهم اليأس الاقتصادي، والافتقار إلى البدائل القابلة للتطبيق، دون أي خيار آخر، وتدرك الميليشيات هذا الضعف، وتستغلّه لصالحها. إنها تقدّم الدعم المالي لأولئك الذين ليس لديهم وسائل أخرى للعيش، وتحوّلهم إلى جنود في معارك، لم يسعوا إليها أبدا. أولئك الفتيان الميليشياويون ليسوا ضحايا، ولكنهم بالتأكيد معطّلون عن العمل، وجدوا حلا في أن يكونوا “عمّال ميليشيات”، في اقتصاد حرب وفساد.

الخطير هنا ان هذا “النموذج العراقي”، في الاقتصاد والعمل، موجود في معظم البلدان الخاضعة للنفوذ الإيراني، ومن الممكن جدا أن يُعمم على دول عربية أخرى، في حال تعرّضت لاضطرابات اجتماعية أو سياسية كبرى، ليبيا مثلا إحدى الأمثلة. وربما يجب التفكير، سياسيا واقتصاديا وطبقيا وثقافيا، بأساليب لوقف كل هذا النزيف.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.5 11 أصوات
تقييم المقالة
1 تعليق
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
كرار الهاجري
5 شهور

افضل ما قرأت هذا الشهر. كاتب واعد بالتوفيق..