أربعة أيام عمل في الأسبوع: هل تقليل أوقات العمل “منحة” من المدراء؟

أربعة أيام عمل في الأسبوع: هل تقليل أوقات العمل “منحة” من المدراء؟

في كتابه “أربعة أيام في الأسبوع”، يعرض رائد الأعمال النيوزلندي أندرو بارينز، فكرة يدّعي أنها مُبتكرة، وهي تقليل عدد أيام العمل في الأسبوع من خمسة أيام الي أربعة، فبعد قراءته لمقالة، في مجلة “أيكونومست”، تفيد أن متوسّط عدد ساعات إنتاجية العامل الإنجليزي الفعلية هو 2.5 ساعة فقط، في يوم عمل من 8 ساعات، في حين أن متوسّط إنتاجية العامل الكندي لم تتجاوز 1.5 ساعة في 8 ساعات، فكّر بارينز: “ماذا لو أصبح أسبوع العمل أربعة أيام، مع رفع إنتاجية العامل في اليوم بمقدار 45 دقيقة فقط؟”. أي دعا لزيادة إنتاجية العامل الفعلية، مع تقصير وقت العمل الرسمي.

بدأ بارينز في العمل لتحقيق تلك الفكرة، بداية من شركته المختصّة بإدارة الأصول، ويقول إنه مع انتهاء التجربة، في العام 2018، أبلغ 78 بالمئة من الموظفين بأن التوازن بين العمل والحياة الاجتماعية تحسّن بينهم بنسبة 54 بالمئة عمّا قبل التجربة. ارتفعت أيضا نسبة الإنتاجية بين الموظفين بمقدار 20 بالمئة، وانخفضت معدلات القلق بينهم، والأهم أنه مع ثبات الإيرادات، نتيجة تحسّن الإنتاجية، انخفضت تكاليف الإنتاج.

أندرو بارينز

جذبت تلك النتائج انتباه الباحثين في جامعات بوسطن وكامبريدج ودبلن، ودفعتهم الي إجراء التجربة على عشرات الشركات، بين الولايات المتحدة وانجلترا وايرلندا، ليرصدوا اختفاء أكبر كوابيس فرق الموارد البشرية في الشركات التي طبّقت التجربة، مثل نسب الاستقالة والغياب، التي انخفضت بشكل كبير، في ظل أربعة أيام عمل. فما السبب؟

يقول أندرو بارينز إن السبب في هذا التحّسن يعود الي إدراك العُمال والموظفين بأن يوم العُطلة المدفوعة الجديد هو “منحة”، وليس أمرا مضمونا، أي أن مبدأ العمل لمدة أربعة أيام أشبه بنظام الثواب والعقاب، وليس حقا مُكتسبا، فقد ترجع عنه الشركات في حال كان أداء العمّال سيئا.

هل تقصير يوم العمل هو “مكرمة” فعلا، تمنحها الشركات للعمال؟ وهل تحكمه فقط عوامل “زيادة الإنتاجية”؟ ويمكن اعتباره عاملا بديهيا من عوامل “السوق”؟ أم أن ادعاءات بارينز تتغافل عن كثير من العوامل والسياقات الاجتماعية؟ وأيضا: هل أسبوع عمل من أربعة أيام، أو 30 ساعة، لمصلحة العمّال في مثل هذا الظرف، وهذه “العقلية الإدارية”؟

أنثروبولوجيا وقت العمل: الحرب حول الأجراس المقدّسة

نمتلك اليوم اعتقادا خاطئا، مفاده أن العمل المُضني هو الوضع الطبيعي للمجتمعات الإنسانية، لمواجهة ضرورات الحياة وصعوباتها، إلا أن ما تؤكده الأبحاث الأنثروبولوجية، والمسوح الإثنولوجية، أن الواقع كان على العكس تماما. ففي كتابه “اقتصاديات العصر الحجري” يؤكد الباحث الأميركي مارشال ساهلينز، بأن فقر الموارد، خارج الحاجات الضرورية، مثل الطعام أو الماء، سهّل من حياة البشر، ومنعهم من اقتناء أي ثروات أو حمولات غير ضرورية، وإنما حكمتهم الحاجة للأساسيات فقط، التي كان من الممكن مشاركتها اجتماعيا، مثل الأدوات العظمية والخشبية والجلود. ويقول: “بالإمكان البرهنة على أن الصيادين وجامعي الثمار كانوا يعملون أقلّ مما نعمل، وأن حياتهم لم تكن كدحا مستمرا، فقد كان السعي وراء الطعام مُتقطّعا، وكان لديهم كثير من وقت الفراغ، أما وقت النوم خلال النهار للشخص في العام، فكان أعلى مما هو عليه في أي أحوال مجتمعية أخرى”.

يورد ساهلينز دراسة حول مجتمع “الهدزا” الأسترالي، في منتصف القرن العشرين، تفيد أن أفراده اختاروا الإبقاء على نمط حياتهم، وفق مُعطيات وظروف العصر الحجري القديم، المُمتد من 2.6 مليون عام حتى 10 ألاف عام قبل الميلاد، وهي ظروف الصيد وجمع الثمار، ولم يتخذوا من الزراعة مهنة لهم، مثل المجتمعات المُحيطة بهم، وفضّلوا الإبقاء على أوقات فراغهم، وأوقات عملهم، التي لم تتجاوز 15ساعة فقط في الأسبوع.

وفي المجتمعات الزراعية، مثل مجتمع “الهالي” في باباوا غينيا الجديدة، كان عدد ساعات العمل حوالي 2.7 ساعة في اليوم للرجال، و4.5 ساعة في اليوم للنساء، إذ يختلف عدد ساعات العمل على أساس الجندر في ذلك النوع من المجتمعات، التي تسمى “مجتمعات ما بعد الصيد”، وهو ما تؤكده عشرات من الدراسات والمسوح، فيُضاف إلى عمل النساء في الحقل، ومساعدتهن الرجال، الاهتمام بتربية الأطفال والحيوانات، وغيرها من الاعمال.

تُمارس الأعمال، في تلك المجتمعات التي تسمّى “بدائية”، بين طلوع الشمس وحتى الغروب، ولم تكن منظّمة وفق مواعيد دقيقة، أو ساعات عمل محددة. ربما كانت بوادر التنظيم وتحديد الساعات قد جاءت من التنظيم الكنسي، فمنذ القرن السادس الميلادي، اهتم الرهبان البندكتيون بتحديد أوقات دقيقة للصلاة، وممارسة الأنشطة الكهنوتية، وهو ما أخذ في التطور حتى القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ليُصبح سمة مُميزة للإصلاح البروتستانتي في القرن الرابع عشر.

رهبان بندكتيون

جاء الإصلاح البروتستانتي في ذروة الاهتمام بقيمة الوقت الاجتماعي، فنظام العمل، الذي كان مُتّبعا طوال العصور الوسطى، كان يُقاس بـ“اليوم”، الذي يتبع الفصول الزراعية والموسمية، وحركة الشمس وغيرها، أما مُنذ القرن الثالث عشر، فقد بدأ أرباب العمل والكهنة بالتشكيك في يوم العمل التقليدي، والاستعاضة عنه بأجراس تُقرع لتحديد مواعيد بداية العمل أو نهايته، ودائما ما حاول العمّال انتزاع  السيطرة على تلك الأجراس، لتخفيض يوم العمل، أو حتى للتمّرد والثورة ضد أصحاب السيادة.

ومنذ النصف الأول للقرن الرابع عشر، ظهرت الساعات الميكانيكية، وأضافت مفهوم (الساعة= 60 دقيقة)، وأصبح اهدار ساعة واحدة خطيئة، لا يُمكن أن يغفرها الرب أو صاحب العمل على السواء، إنها اللحظة التي أخذ فيها “وقت العمل”، المُؤسًّس اجتماعيا والمُقاس بالساعات، بالانتشار في طول أوروبا وعرضها، مؤسسا شكلا من الثقافة؛ ووحدة قياس يمُكن أن تقوم عليها التبادلات الواعية بين المُنتجين والمُستهلكين في سوق رأسمالي عالمي. فمُنذ تقسيم الكرة الأرضية الي أربع وعشرين منطقة زمنية، أو ما يعرف بتوقيت غرينتش، في العام 1884، أصبحت حركة القطارات مُنضبطة، في نقلها للسلع حول العالم، وصار بالإمكان التنبؤ بطبيعة المبادلات التجارية، اعتمادا على وقت مُحدد، لتحصيل قيمتها النهائية من المستورد، أو قيمتها الأساسية من العامل المُنتج.

شهداء الساعات الأقل: كيف وصلنا إلى يوم عمل أقصر؟

يعتقد الفيلسوف الألماني كارل ماركس أن النشاط الاقتصادي الحديث هو “اقتصاد للزمن”، فالربح يُمكن أن يتحقق فقط من استخلاص فائض قيمة من عمل العمّال، وهذا “الفائض” هو مقدار الوقت، الذي يتجاوز ساعات العمل، التي يتقاضى العامل عنها أجرا، أي أن الربح يأتي من الفرق بين الساعات مدفوعة الأجر للعامل، والضرورية لاستمراره في العمل، وإنتاج جيل جديد من العمال؛ وبين الساعات التي لا يتقاضى عنها أجرا، والتي يستولي عليها رب العمل، ويراكمها بصيغة رأس مال.

في بداية الثورة الصناعية كان هذا يتم عن طريق زيادة أوقات العمل، أو التحكّم في طريقة قياس الزمن، وأوقات الراحة. يقول أستاذ الاقتصاد الأميركي هاري كليفر: “أي وقت تُمضيه الطبقة العاملة من دون عمل، يُعتبر وقتا ميتا بالنسبة لرأس المال (وجب استغلاله)، في المقابل فإن وقت العمل بالنسبة للطبقة العاملة هو وقتُ ضائع”.

من هنا صرف العُمال جُلّ اهتمامهم لأجل الصراع حول طول يوم العمل، ففي كتاب “رأس المال” يذكر كارل ماركس أن الإجراءات الحكومية ذهبت في اتجاه رفع الضرائب، ما أجبر الجميع على العمل في المصانع، حتى القرويين، وعندما تشبّعت المصانع بالعمال، صارت جحافل من الناس تعاني من البطالة والتشرّد تدريجيا، فتم استخدامهما لتهديد العمّال في المصانع، وزيادة ساعات عملهم، حتى جاوزت العشر ساعات يوميا، لمدة ستة أيام. فكان شكل مقاومة العمال في البداية تقليل مُعدلات الإنتاجية، بقراءة المجلات والصحف أثناء وقت العمل، أو الإبطاء من وتيرته، وأخذ استراحات للثرثرة، أو حتى القدوم للعمل متأخرين، وفي النهاية تخريب الآلات.

وأمام ظروف العمل الصعبة، وغياب أي إمكانية لتعويض العمّال عن الأضرار الجسدية، التي يُمكن أن تحلّ بهم جراء التعامل مع الآلات، توحّد كثير من العاملين في المصانع في تجمعات نقابية وعمالية، لفرض مطالبهم على إداراتها بالقوة، في مقدمتها ساعات عمل أقل.

جاءت الدعوة الي عدد ساعات أقل من إنجلترا في العام 1810، حين دعا روبرت أوين، وهو اشتراكي وصاحب مصنع، إلى تقليل ساعات العمل إلى ثمانية ساعات، وخمسة أيام في الأسبوع، رافعا شعار “ثمانية ساعات عمل، ثمانية ساعات ترفيه، ثمانية ساعات نوم”، لتصبح هذه القسمة بمثابة برنامج عمل، تتبنّاه النقابات حول العالم، إذ تبنته في البداية نقابة عمال المناجم في فيلاديلفيا عام 1835، خلال اضرابها الشامل عن العمل، ورفعت شعار “من 6 صباحا الي 6 مساء، مع ساعتين راحة لتناول الطعام”؛

روبيرت أوين

وفي العام 1866 أسس النقابي الأميركي ويليام سيلفاس “الاتحاد القومي للعمل” National Labor Union، ودعا الكونجرس الأمريكي لفرض قانون لتعميم مبدأ الثماني ساعات، وهو ما تحقق في العام 1869، في عهد الرئيس الأميركي يوليسس جرانت، حينما أصبحت ساعات العمل الرسمية في الوظائف الحكومية 8 ساعات فقط.

رغم التشريع القانوني، لم تُنفّذ خطة الثماني ساعات عمل في مؤسسات وقطاعات العمل الخاص، ما دعا مئات الاف من العمال في الولايات المُتحدة لتنظيم إضراب شامل، ومسيرات في كامل انحاء الولايات المتحدة، تحديداً في العام 1886، ما أسفر عن صدام مُسلح بين العُمّال والشرطة في ولاية شيكاغو، وأدى لمقتل عشرات العُمال، وإعدام جميع قادة التجمع العمالي، فيما بات يُعرف تاريخياً بـ”قضية هايماركت” Haymarket Affair.

صار قتلى حادثة هايماركت بمثابة رموز لمطلب العمل لثماني ساعات فقط في جميع أنحاء العالم الصناعي، إلا أن المطلب لم ينتقل من خانة النضال العُمالي التمردي إلى الوضع الطبيعي الروتيني الذي نعرفه اليوم سوى في بدايات القرن الماضي.

سبعة قادة عماليين حكم عليهم بالإعدام في قضية هايماركت

تبنّى الصناعي الأميركي هنري فورد مطلب ثماني ساعات عمل، لخمسة أيام في الأسبوع، بوصفه نموذج عمل جديد، يوافق فكرته عن إدارة العملية الإنتاجية، ففي العام 1926، وتبعا لنمط الإنتاج “الفوردي” الجديد الذي ابتكره، والذي اعتمد على خطوط الإنتاج المقسّمة إلى مهمات، تم تحويل مطالب العمال بوقت عمل أقصر إلى خطة لتحقيق أكبر ربح، وأكبر إنتاجية مُمكنة، ما يُمكّن العُمال في النهاية من شراء مُنتجات الشركة، بعد زيادة مُرتباتهم. وهي الاستراتيجية نفسها التي تبنّاها الاقتصادي البريطاني جون ماينرد كينز، بخصوص أهمية التنظيم والتقدّم التكنولوجي في تحقيق أكبر إنتاجية، بما يؤدي في النهاية الي تقليل عدد ساعات العمل وزيادة الأجور. ما أسهم بالنهاية في ميلاد ما نعرفه اليوم عالميا بـ”الطبقة الوسطى”.

نحو أربعة أيام: هل يمكننا النجاة من “كثافة” العمل؟

مع حلول عقد السبعينات من القرن الماضي، ودخول الولايات المُتحدة في حالة من الركود التضخمي، وُجّهت أصابع الاتهام والمسؤولية عن هذه الحالة الي أفكار جون ميانرد كينز، ومع تولّي إدارة الرئيس رونالد ريجان الحكم، واتباعها سياسات اقتصادية مُختلفة، تم إعادة اعتبار لمفهوم “الإنتاجية”، بوصفه ساعات عمل أكثر مع تثبيت الأجور، حتى يتم تحويل الفوائض والأرباح في اتجاه حملة الأسهم والمُستثمرين وكبار الموظفين والمديرين في الشركات، هذه السياسة المالية هي ما شكّلت العالم الذي نعرفه اليوم، وطبيعة “وقت العمل”، الذي لم يعد ينخفض مع التطور التكنولوجي، على خلاف ما تنبّأ ميانرد كينز وغيره.

تجعل علاقات العمل الحالية، رغم التقدم التكنولوجي، أوضاع العُمّال أقرب لظروف أقرانهم في منتصف القرن التاسع عشر، ما يؤدي لكثير من الاحتجاجات، فحالة السخط، وتخفيض الإنتاجية، ومؤخرا “الاستقالات الجماعية التي واجهها سوق العمل في الولايات المُتحدة بعد جائحة كورونا، دفعت المديرين وكبار رجال الأعمال لإعادة التفكير مرة أخرى في الاستفادة من الوضع القائم لصالحهم، سواء بتخفيض المصروفات الهائلة الناتجة عن تشغيل العُمّال في اليوم الخامس، أو برفع إنتاجية اليوم الواحد، وفقا للدراسات التي قدمتها جامعات بوسطن وكامبريدج ودبلن، عن فوائد أسبوع العمل المكوّن من أربعة أيام و30 ساعة.

ورغم إن وجهة النظر القائلة بارتباط تخفيض ساعات العمل برفع الإنتاجية مُثبتة إحصائيا، إلا أنها لن تعني بالضرورة تحسّنا في أوضاع العاملين، فقد تؤدي إلى مزيد من الضغط عليهم، عبر ساعات عمل أقل عددا، ولكن أكثر “كثافة”.

أما تحويل فكرة أربعة أيام عمل في الأسبوع لمبدأ يساعد على تحقيق وقت فراغ أكبر، وتقليل استغلال العمّال والضغط عليهم، فربما لن يتحقق إلا بتضامن العاملين في جميع القطاعات، للمطالبة بظروف عمل أفضل، بوصفها “حقوقا”، وليست “منحا” من أرباب العمل، كما يزعم أندرو بارينز.

المراجع

1. The 4 Day Week: How the flexible work revolution can increase productivity, profitability and wellbeing, and help create a sustainable future Paperback – Illustrated, January 7, 2020 by Andrew Barnes

2. The Four-Day Week | Andrew Barnes | TEDxAuckland – YouTube

3. Stone Age Economics (Routledge Classics) 1st Edition

4. by Marshall Sahlins (Author), David Graeber (Foreword)

5. Capital (Wordsworth Classics of World Literature) Paperback – April 30, 2013 by Karl Marx (Author)

6. Work Time: Conflict, Control, and Change 1st Edition by Cynthia L. Negrey (Author)

7. Report: US, Ireland Four-Day Workweek Pilot Huge Success (shrm.org)

8. The history & evolution of the 40-hour work week | Culture Amp

9. Should We Move To A 4-Day Work Week? – YouTube

10.Why Do We Work 40 Hours A Week? – YouTube

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.6 5 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات