قلّلت كثير من الدراسات الاجتماعية، والنماذج التفسيرية في العلوم الإنسانية، خلال العقود الأخيرة، من أهمية العمل، بوصفه المقولة المحورية في تحليل المجتمعات المعاصرة، مبرزة مقولات ومفاهيم أخرى، مثل السلطة، الهوية، النوع الاجتماعي، علاقات القوة، البنى الرمزية، الخ. ارتبط هذا عموما بتغيّر هيكلي، في الدول الغربية خاصة، التي شهدت “نزع التصنيع”، أو نقله شرقا وجنوبا نحو دول “نامية”. بدا حينها، أن على “المجتمعات بعد الصناعية”، القائمة على اقتصاد الخدمات والعمل التواصلي والعاطفي، الاهتمام أكثر بـ”الفئات الجديدة”، وقضاياها، مثل الأقليات والنساء والمهاجرين و”المهمشين” و”الشباب”، إذ لم يعد من الممكن التفكير بمجتمع من العمّال، الذي ينتظمون على أسس موقع الإنتاج والطبقة والنقابة، ويفكّرون أساسا بقضايا مثل الملكية والأجور وحقوق العمل، كما آن الأوان لبحث ما أقصته تلك “الطبقة” من العمّال ومشغليهم، من قضايا ومسائل، لم يكن التنظيم والثقافة السياسية، القائمان على أولوية العمل، معنيين بملاحظتها.

هذا المنظور، الذي كان في حينه، أي في آواخر السبعينيات، وثمانينيات القرن الماضي، يعتبر جديدا وتجديديا، بات في أيامنا عتيقا إلى حد كبير، فعلى الرغم من أنه نجح بالفعل بتوسيع منظورات العلوم الاجتماعية، وكذلك الثقافة السياسية السائدة في أغلبية الدول، إلا أنه ظل محدودا بأطر ما “تمرّد” عليه، إذ أن تغيّر شكل سائد لعلاقات العمل وتنظيمه، في المجتمعات الغربية الصناعية، لا يعني بالضرورة أن العمل نفسه قد فقد أهميته، بوصفه ظاهرة إنسانية مركزية، ومحددة للوجود الاجتماعي للأفراد، بل ومساهمة في إنتاج هوياتهم و”أنواعهم”، وبالتالي فإن المقلّلين من أهمية العمل، بدلالة المصانع المهجورة والمغلقة في الدول الغربية، ما يزال إدراكهم للظاهرة مسجونا بين جدران تلك المصانع، تماماً مثل الأيديولوجيات والمنظورات التي ينتقدونها.

خارج تلك “الجدران” الفكرية، تطوّرت تحليلات متعددة ومتنوعة عن تغيرات عالم العمل، ودوره في تشكيل الذوات المعاصرة، فأصبحت مقولات مثل “العمل اللامادي”، “العمل العاطفي”، “العمل التواصلي” منتشرة في الثقافة الجماهيرية؛ فضلا عن محاولات لصياغة تحديدات طبقية معاصرة، مثل “البريكاريا” Prekariat، أي مجموعات العمالة غير المستقرة، التي تتسم بعدم اليقين تجاه وضعها الاجتماعي، والتي ورثت البروليتاريا الصناعية القديمة؛ وباتت الكتب، التي تناقش مسائل مثل إعادة توزيع الثروة، والملكية، والفجوة بين الطبقات، من الأكثر مبيعا في العالم. وأيا كان النقد الذي يمكن توجيهه لكل هذه المفاهيم والمقولات، فإن مصطلحات عالم العمل، عادت لتشغل مكانة مركزية في الجدل الاجتماعي والثقافي، منذ مطلع الألفية.

كان يمكن لكل هذا الجدل أن يبقى في الإطار النظري لفترة أطول، وشاغلا لبعض المثقفين والحركات الاحتجاجية فحسب، لولا الهزة الكبيرة، التي عرفها عالم العمل في عام 2020، أي مع انتشار فيروس كورونا، وايقافه لكثير من قطاعات الإنتاج حول العالم. هنا اكتشف كثيرون مجددا، من مختلف الطبقات والأوضاع الاجتماعية، أن العالم مازال يعتمد على المصانع والمناجم والموانئ، وأن خطوط التوريد يعمل بها ملايين البشر، عملا “صلبا”، وليس مجرّد “لا مادي”، وأن ما يوحّدهم وينسّق نشاطهم الحياتي، على اختلاف ثقافاتهم، هو الانتظام ضمن خطوط العمل، التي يعني انقطاعها نهاية كثير من أنماط الحياة، بل حتى الهويات، التي اعتُبرت ظواهر متعالية عن عملية الإنتاج الاجتماعي.     

لم يعد من المقنع كثيرا، سواء في الثقافة الاختصاصية أو الجماهيرية، مناقشة أي مفهوم، مثل “الفرد”، أو “الجندر”، أو “العرق”، أو حتى “الدين”، بمعزل عن فهم الموقع الذي يشغله حاملو تلك الهويات، وأصحاب تلك الذوات، ضمن عالم العمل المعاصر، إلا أن هذا لا يعني أننا عدنا إلى النماذج الطبقية للقرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، فالتفكير بالعمل بات أكثر تعقيدا، بل وتشتّتا، كما أن المخاوف من قلة فرص التوظيف، والإلغاء التام للعمالة غير المؤهّلة تأهيلا فائقا، أي التخوّف من “انتهاء العمل” كما نعرفه، بات أشد حضورا، خاصة مع التطورات التكنولوجية الأخيرة، وتقدّم الذكاء الاصطناعي.

بكل الأحوال، يمكن رصد ظاهرة أساسية، قد تعين على فهم عودة التفكير في العمل، بكل هذه القوة، وهي الضغط النفسي الشديد، الذي يعيشه الأفراد في حياتهم اليومية، بسبب الظروف الاجتماعية غير المستقرة، وما يهددهم من بطالة وفقر، وفقدان القدرة على تلبية أبسط الاحتياجات الأساسية. يـعمل البشر اليوم، تحت هذا الضغط، أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط في مواضع الإنتاج الكلاسيكية، مثل المعامل والشركات والمؤسسات العامة والخاصة، وضمن وقت عمل محدد، وإنما في كل مكان، وكل وقت، ويختلط “تطوير الذات”، و”التعلّم المستمر”، و”إعادة التأهيل المهني”، و”اكتساب المهارات الجديدة” بالنشاط الاعتيادي للعمل المأجور؛ كما بدأ الفارق بين وقت العمل ووقت الفراغ بالتلاشي، ومن ليس موظفا أو عاملا لدى جهة ما، يضطر للعمل أكثر وأكثر، لتأهيل نفسه، كي ينال قابلية التوظيف؛ أو يُجبر على التنقّل بين أعمال غير مستقرة، وبلا أية حقوق، وبأجر منخفض، على أمل أن يصل يوما إلى مرتبة العامل المستقر.

تتزايد “الأعمال الجديدة”، التي يبدو أن أهميتها الاجتماعية والثقافية سترث مكانة “الهويات الجديدة”، التي برزت في الثمانينات من القرن الماضي، ومن أهم تلك الأعمال خدمات التوصيل (الديلفري)، والعمل في المستودعات، والرعاية الاجتماعية، التي دفعت للصدارة ما يسمّى “عمّال المنصّات”، أي الأشخاص الذين يقدّمون خدماتهم عبر منصّات إلكترونية، مثل “أوبر” و”أمازون”، بل حتى “أونلي فانز”. كما تشهد مهن وقطاعات متعددة، الظاهرة التي يميل بعض السيسيولوجيين لتسميتها “البلترة”، أي تحويل مزاوليها إلى عمّال، لا يملكون إلا قوة عملهم، التي يضطرون لبيعها وسط منافسة قاسية، وضمانات شبه منعدمة، ومن أهم تلك القطاعات الصحافة، والإنتاج الثقافي والفني، والقطاع الطبّي، بل حتى المحاماة والمجال الحقوقي عموما. وهي قطاعات كان مهنيوها فيما مضى يعتبرون “نخبا”، وباتوا اليوم “مجرّد” عمّال.     

يدفع هذا لإعادة التفكير بالتمييز الكلاسيكي بين “قوى عاملة” و”جيش عمل احتياطي”، إذ كان من المفترض أن الأخير هو “فائض سكاني”، يساهم في تخفيض أجور العاملين، المهددين بالطرد من أعمالهم تحت ضغط منافسة العاطلين عن العمل. اليوم يبدو معظم الناس جانبا من “جيش العمل الاحتياطي”، و”فائضا سكّانيا”، حتى لو كانوا على رأس أعمالهم، إذ يندر وجود عمل، يقدّم حدا فاصلا واضحا عن البطالة، أو يؤمن شيئا من الاستقرار؛ وفي الوقت نفسه يبدو العاطلون عن العمل عاملين بدوام كامل، وأحيانا أكثر، وهم يبذلون كل جهدهم، ويحاولون التدرّب على تسويق مهاراتهم وقدراتهم في سوق العمل المضطرب. يجعل كل هذا أشكال الصراع الطبقي، والاحتجاجات المطلبية، غير محددة أو واضحة المعالم، وربما تنتج مستقبلا أشكالا مبتكرة من الفعل والتنظيم والخطاب.  

كل هذه التغييرات لا يمكن أن تمرّ دون إعادة تعريف شاملة للذات الفردية والجماعية، فلم يعد بالإمكان فصل “داخل” الإنسان، حتى نظريا، عن عالم العمل، وتقلّباته، ومتطلباته التواصلية، وكثير مما قد نعتبره “فرادة”، قد يكون ميّزات مفيدة، يطوّرها الأفراد أثناء سعيهم الشاق لنيل الفرص، التي تزداد محدوديتها بإطراد؛ كما أن كثيرا من مجموعات الهوية و”المجتمعات المحلّية”، قد تبتكر سمات أو خصائص أو روايات عن الذات، تساهم بتحسين موقعها وميزاتها التنافسية، ضمن التقسيم المحلّي أو العالمي للعمل. وبالتالي فإن العلامات والرموز والتصنيفات الذاتية، التي يجب أن تتسم بجاذبية تسويقية ما، باتت معرّفا أساسيا لوجودنا الفري والجماعي، وتتماهى معها “الذات” بالتدريج.

إضافة لهذا، فإن للتداخل المعقد بين أشكال بيع قوة العمل وتعريف الذات أثر كبير على مسائل “إعادة الإنتاج”، أي التعيين الاجتماعي والثقافي للضرورات الأساسية لحياة واستمرار البشر، بات من الصعب معرفة الفارق بين النشاطات الموجّهة لإنتاج السلع والخدمات، المخصصة للبيع والتداول؛ وبين تلك المعنية بإنتاج الشروط الحيوية لـ”تجديد” العاملين، ورعاية جيل جديد منهم. فمفاهيم الرعاية، وأنماط الحياة، والتقاليد الاجتماعية، والمعارف والرموز المشتركة، صار من الممكن جدا أن تسلّع، أو تحوّل إلى أصول استثمارية، أو تتداخل بنشاطات التسويق والعلاقات العامة، وغيرها مما يُعتبر عملا عاطفيا. بهذا المعنى يمكن اعتبار كل أفراد المجتمع، سواء العاملين في الإنتاج المباشر، أو المعنيين بمسائل “إعادة الإنتاج”، عمّالا اجتماعيين، أي أنهم متداخلون في إنتاج القيم الحياتية والاجتماعية العامة، التي يعتمد عليها نموذج الاقتصاد الحالي.  

باختصار، نبدو منشغلين أكثر فأكثر، وعاملين بجد متزايد، ولا نملك وقتا للراحة والعلاقات الاجتماعية الحميمة، رغم التقدّم التكنولوجي، وحلول الآلات محل البشر، والأزمات الاقتصادية، بما يرافقها من إغلاق للمشاريع والشركات، وتسريح العمّال، بل رغم التهديد المتزايد بـ”نهاية العمل” نفسه. هذا التناقض مثير للتأمّل بالتأكيد، ويدفع لطرح كثير من الأسئلة حول تناقضات عمليات الإنتاج،  والخارطة المشتتة، وصعبة الفهم، لعالم العمل المعاصر، وما يرتبط به من سياسة وثقافة ومنظورات عن الذات والعالم.

موقع “حيّز” يفتح ملف “عودة العمل”، بوصفه مقولة أساسية في ثقافتنا المعاصرة، محاولا طرح أهم الأسئلة، حول فهمنا لأنماط العمل المعاصرة، وأساليب تكيّفنا معها: هل سينتهي العمل مستقبلا؟ وأي عمال سنصبح مع التغيّرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي؟ هل أنماط العمل “الجديدة”، مثل العمل المنزلي، والعمل عن بعد، والعمل التواصلي، ستكون لمصلحتنا، وتزيد من أوقات راحتنا وفراغنا؟ هل يمكننا أن نزيد “مرونتنا” دائما، ونتأقلم مع عدم الاستقرار الاجتماعي المفروض علينا؟ ما أشكال الفعل السياسي، التي يمكن أن تنطلق من مواطن العمل الحالية، وبدافع من احتجاجات ومطالب عمالها؟ هل يمكن أن تنشأ فنون وآداب مختلفة، بناء على الأوضاع المستجدّة للعاملين؟ وماذا عن العمال “التقليديين”، مثل عمّال المصانع والمناجم؟ هل باتوا بالفعل فئة هامشية، لا تمتلك تأثيرا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا مهما؟ هل يمكن اكتشاف تركيبات جديدة للهوية، بعد أن عاد البشر لاكتشاف “عماليتهم”؟ وهل يمكننا الحديث عن ذات مغايرة، تنبثق من أزمات التضخّم والمديونية وإفقار العاملين؟ وإلى أين سيودي بنا الضغط المتزايد للعمل؟     

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.7 6 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات