الليغو العربي.. أو “التطوير العمراني” بوصفه حربا على ذاكرة المدن

الليغو العربي.. أو “التطوير العمراني” بوصفه حربا على ذاكرة المدن

“إلى أي قدرٍ نتعالق نحن بنو البشر مع خراب بيوتنا؟ وكيف يمتد خراب البنيان وصولا إلى خراب الإنسان الساكن داخل هذا البنيان؟”

شاكر لعيبي، فنان تشكيلي عراقي

لا يمكننا اختزال التغيرات المدينيّة، من عمليات بناء وإزالة، وحلول عمارة حديثة مكان القديمة، في الصورة الشكلية للمكان فقط، ولا في غياب الجمالية أو حضورها، أو تضييق فسحات الحركة، بل لا بد من توضيح تأثير المكان والجغرافيا، وتحولاتهما، على الحياة اليومية للبشر، وأجسادهم، وأصوتهم، وذاكرتهم، وأنماط تواصلهم. ولعل الدولة هي الجهة الأبرز، التي تعمل على إحداث ذلك التأثير في حياة الناس، وفقا لتحكّمها السياسي بالمساحة والمكان والفراغ. المفكر الأميركي جون دوي يرى أن “ممارسات الدولة هي أعمق ممارسات بما يخصّ المجموعات، فهي تقنن الإدراك الإنساني للأفعال اليومية”.

وبالواقع فإن تأثير العمران السياسي والاجتماعي لا يقلّ عن أثر الحروب والأعمال القمعية المباشرة، ولذلك فإن فهم تغيّر المدن العربية، خاصة بعد ثورات ما عُرف بـ”الربيع العربي”، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كل العوامل السياسية والأيديولوجية والسلطوية، التي تحكم عمليات “التطوير الحضري”.

“القاهرة تبتسم، و الهيئة تستطيع”، ذلك هو شعار الهيئة العامة للنظافة بالقاهرة، التي تحتفى يوميا بمشروعات متعددة في العاصمة المصرية، يرى كثيرون أنها لا تفعل شيئا إلا زيادة قبح المدينة، من جرف أتربة، وتركيب أسوار حديدية حول مساحات النيل، أو إنشاء حدائق هزلية لبعض الميادين. ولكن هل هذه الأعمال، التي باتت محل تندّر وسخرية الجميع، بدفعها فقط غياب الحس الجمالي وانعدام المنطق؟

ربما لا تكون مشكلة تلك المشروعات، وغيرها من “مشاريع قومية عملاقة” للتطوير الحضري، غياب الجمالية، أو اقتلاع الأشجار، أو تهديم الآثار فحسب، وإنما البتر والاغتيال المعنوي لذاكرة المجتمع والأفراد، بدون أن يعود عليهم ذلك بأية منفعة عامة، أو تحسين حيوي ملموس في مستوى حياتهم. وبأخذ الحالة المصرية مثالا، يمكننا أن نطرح الأسئلة التالية: كيف تتعامل عمارة الدول العربية، في مرحلة ما بعد الثورات، مع ذاكرة المدن؟ وكيف تنشئ المساحات والأمكنة الجديدة حيّزا مناسبا للسلطة وهيمنتها؟  

حرب التدوين المدينية: هل يمكن طمس تاريخ الثورة؟

يُردِّد المفكر السلوفيني سلافوي جيجك، استنادا إلى ما قاله هيغل عن المؤرخ الأغريقي توكيديدس: “الثقل، الذي يُعطى لحدث ما عن طريق تدوينه، يُبدِّل الواقع المباشر لهذا الحدث”.

قد تكون عمارة المدينة من أهم وسائط التدوين الإنساني عبر التاريخ، فهي ترتبط في ذاكرة البشر بأحداث كبرى، طبعت علاماتها على الأبنية والشوارع والميادين، ما يعطي “الثقل”، الذي يتحدث عنه جيجيك وهيغل، إلا أن تخريب العمارة وتبديلها هو محو لذلك التدوين، وكتابة “نص” جديد.

مدننا هي أرشيفنا الحي عن ذاكرتنا، تتقاطع عليها كل العوامل المؤثرة في عالمنا الاجتماعي: الطبقة، الجندر، الثقافة الشعبية، السلطة، الخ. وهى المستهدفة بكل السياسات الحيوية للدولة الحديثة، التي لا تقتصر على الحيّز العام، بل تمتد إلى الحيز الخاص أيضا، فتغيير علاقتنا بالأمكنة، لا يؤثّر فقط على تواصلنا في المجال السياسي المباشر، بل أيضا على علاقاتنا الشخصية، وطرقنا في التعبير عن ذواتنا، ومخيّلتنا الفردية والجمعية.

المعماري والأكاديمي المصري علي عبد الرؤف، في كتابه “شعب و ميدان و مدينة: العمران و الثورة و المجتمع”، كتب محلّلا دور ميدان التحرير في عام 2011، وتحوّلاته من مساحة فراغ رسمية باردة، إلى مساحة فراغ شعبية، تملتكها الجماعة الإنسانية، ومن ثمّ، بعد فشل الثورة، إلى مجرد مكان لإنشاءات معمارية تجميلية، مفّتتة ومبعثرة، لا تنتمى للثورة، ولا حتى لما قبلها، ولا تذكّرنا بها. وهذا هو المقصود تماما.

استمرت تلك التغيرات العمرانية، المتسلّطة على الذاكرة الجمعية، بأساليب المحو والنسيان المتعمّد، لتشمل كل مبنى كان له تأثير واضح على الذاكرة. في حزيران/يونيو 2023، أقرّت وزارة التخطيط المصرية تحويل مبنى الحزب الوطني المنحل، والمبنى السابق لوزارة الداخلية، إلى فندقين سياحيين كبرين. ومن المعروف أن هذين البنائين مرتبطان، في ذاكرة المصريين، بالثورة، لأن المحتجين هاجموهما، واحرقوا المبنى الأول، ليصير علامة على تدمير هيمنة السلطة.

مبنى “الحزب الوطني” المحترق

محو اللحظة الثورية، أو إمكانية التعلم منها، أو احتمالية استدعائها، لم يتوقف عند تدمير القيم الرمزية والمعنوية للمباني ومساحة الميدان فحسب، بل شمل كافة الفراغات العامة الكبرى في مصر، وكان من أبرز فصوله تقويض الحق في الحركة، في المناطق الأساسية من المدينة، مثل ميدان رمسيس، عابدين، الجيزة، وغيرها. لتصير علاقة الدولة بالمجتمع علاقة ارتهان كامل. في الوقت نفسه لم تقدم السلطة بالمقابل أي رواية تعد بتحسين أوضاع الناس، باستثناء التخويف من الفوضى. بحيث أصبح الاستقرار هدفا في حد ذاته، عبر سردية الهلع والاضطرار.

يذكر الكاتب المصري محمد نعيم، في كتابه “تاريخ العصامية و الجربعة”، أن منطقة وسط البلد في القاهرة عرفت تطويرا مزدوجا، يؤمّن مصالح رأسمالية، إضافة إلى الهدف الأول المحوري، وهو النسيان. في عام 2020 بدأت عمليات التجديد و التغير الكامل لواجهات المحلات والأبنية، بدعوى استعادة المنطقة التراثية لرونقها، الذي يعود إلى العصر الخديوي، ما أسفر عن مبانٍ مثل مكعّبات لعبة “الليغو”، ذات بياض ناصع بلاستيكي.

طالت البلاستيكية العنصر البشرى كذلك، إذ يختلف جمهور المنطقة، ويتشكّل اليومي المعيشي، بحسب اختلاف الانشطة المتاحة في المساحة الجديدة، خصوصا بعد افتتاح “فود كورت”، المجمّع الذي يضمَ أشهر علامات الطعام العالمية، في كانون الثاني/يناير 2023، ليستطيع ذلك المعمار الحديث و”المتقّدم” تحقيق وظيفته، في توجيه التقنية والعمل والسياسة لمصلحة الدولة. وبتعبير المفكرين الألمانيين ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو، في كتابهما “جدل التنوير”، فإن “اختلاف العنصر البشرى هنا ليس ثقافيا فقط، بل طبقيا”، ويمكن القول إنه أقرب لنموذج استهلاك “البلوجرز” و”التيكتوكرز”، وما يتضمّنه من تصوّر عن أنماط الحياة.

إخضاع العشوائيات: كيف يُخلق الكائن المقنن؟

“لا صرخة من العذاب أشد من صرخة إنسان واحد، ولا عذاب أشد مما يمكن أن يعانيه إنسان واحد، ولا معاناة الكوكب بأسره أشد من عذاب روح واحدة”

لودفيغ فيتغنشتاين، فيلسوف نمساوي

ظلام حوارى المناطق الشعبية، وصعوبة السيطرة على مداخلها، بسبب نوعية تخطيطها، كان من ضمن الأسباب التي ضيّقت على السلطة حركتها، وقدرتها على توقّع حركات ساكني تلك المناطق. ولذلك، فمنذ العام 2022، بدأت عمليات الازالة الكاملة للمناطق العشوائية، وتعويضها بأحياء مخطّطة بمعرفة الدولة، لكن ما نصيب الافراد من تلك الممارسات؟ ماذا عن الوجه الاخر للقمع، غير الذاكرة الجماعية؟

تتشعّب عمليات التحكّم في ذاكرة التمرّد والحنين، لتطول الذاكرة الشخصية، وحبال الترابط بأماكن الحياة اليومية. وهذا ما حصل في حالة الأحياء العشوائية الشعبية المصرية. لا يمكن بالتأكيد رمسنة الواقع المعيشى السيء لتلك الأماكن (تحويله لصورة رومانسية)، فالحياة كانت شديدة الصعوبة فيها بالتأكيد، ولكن بدلا من تطويرها وتخديمها، نُقل سكانها إلى مناطق خاضعة لسيطرة سلطوية كاملة، لن تلبث أن تتحوّل بدورها إلى شكل آخر من العشوائيات، نتيجة ضعف الخدمات والرعاية الاجتماعية.

المشروع التوثيقي الفوتوغرافي للفنان محمد حزين، بعنوان “لو نقلوني..هموت”، يختصر ذلك البتر للجذور البشرية، بتلك العبارة على لسان جدته، مصوّرا بقايا منزل من مثلث ماسبيرو، تحيطه غابات أسمنتيه رمادية، أسعار العقارات فيها تتجاوز الملابين. اعتبرت جدة حزين محو سبعين عام من حياتها قرارا بإعدامها الفوري، أو بتعبير الفيلسوف الفرنسي غاستون بشلار، فقد  فقدت “ركنها فى العالم”، و”كونها الاول”، لتصبح بدونه “كائنا مقنّنا”، إي خاضعا لكل الترتيبات السلطوية. إذ أن المنزل واحد من أهم العوامل التي تثري أفكار وأحلام و ذكريات الإنسان. وذلك لاحتوائه للزمن مكثّفا.

“لو نقلوني.. هموت”

لكن ماذا عن “العمارة الجديدة”، كيف تصبح، بتعبير الفيلسوف البولندي زيغموند باومان، “أماكن طاردة” صوتيا، وليس جسديا وإدراكيا فقط؟ وكيف يؤثر خلوها من قيم الجمال، وممكنات الثراء الصحي والوظيفي، على أجساد البشر وأصواتهم؟

معركة الصوت: كيف تكلّمت الشوارع معنا؟

كما نستطيع قراءة سطوح الأمكنة والمساحات والفراغات والأبنية في المدينة، يمكننا كذلك قراءة العلامات الصوتية والموسيقية فيها، فعندما يغلب صوت على آخر، فذلك ليس فقط لأنه صوت أعلى، لكن لأنه صوت حركة اجتماعية واقتصادية وسياسية وهوياتية معيّنة، تشتبك مع الأصوات الأخرى، أو تتواطأ معها وتتداخل .

الباحث الفلسطيني عبد الله البياري، في بحثه” أصوات المدينة: الصوت كمجال قوة”، ينبّهنا لكون المدينة، بما هي بؤرة تمثيل الدولة، وتجسيدا لهيمنة مؤسساتها وعمرانها. هي أيضا نص سمعي وبصرى، تنطبق عليه علاقات السلطة والهيمنة القائمة.

تلاحظ الباحثة الأميركية ماريا فريدريكا مالمستورم، في كتابها “الشوارع تكلّمت معي”، أن الشوارع المصرية تحوّلت من مكان يضج بأصوات العنصر البشري قبل عام 2013، إلى مكان تتغلّب عليه الأصوات الآلية.. لقد تم إسكات العنصر البشري! شمل ذلك التحوّل كافة أشكال تمظهرات الصوت، سواء كان متمردا، او اقتصاديا، او فنيا، او حتى دينيا.

تجلّت المفارقة في شكل الاصوات في عام 2011، بالصراع بين أصوات الشارع، من صفير، وصراخ، وتكبيرات مساجد، وأبواق دراجات، وهتافات رمزية؛ وبين أصوات السلطة، برتابتها النظامية، مثل ضرب الارض بالأقدام، والصراخ الجماعي، وضرب الدروع. بما تحمله أصوات الجانبين من رمزيات، و قدرة على التحكّم في الاجساد والمعاني، والمسافات البينية المختلفة.  

من الأمثلة البارزة على ذلك، الباعة الجائلين، وسياسة التعامل معهم، منذ عام 2011، فقد بدأت مكبرات صوت في شبكة المترو بالتحذير من الشراء منهم، ثم قامت القوى الأمينة بملاحقتهم، وحبسهم لأيام. كما حدث عند إخلاء شوارع منطقة “النبي دانيال” منهم عام 2012، ودعوات تنظيف الشوارع من وجودهم بين عامي 2013 و2014، كأنهم عبء على الشارع، بجسدهم وصوتهم، ثم تم  نقلهم إلى” سوق الترجمان”، بوصف ذلك نوعا من القتل والعزل الرمزي والمادي. مع مصادرة كافة مكبرات الصوت الخاصة بهم في جميع انحاء الدولة، لتحلّ محلّها، في الفضاء العام، مكبرات عربات منافذ بيع اللحوم، التابعة للقوات المسلّحة، بدءا من عام 2015، والتي اتسمت برتابتها في النداء على البضائع، بصوت أعلى من صوت الباعة، وقد زاد من تلك الرتابة استغلال السلطة لمكبرات أصوات الجوامع على مدار ساعة، ووجودها في كل منطقة.

مصادرة مكبرات الصوت العائدة للبائعين الجائلين

تشمل تقاطعات الصوت الفن المستقل أيضا، الذي طُرد من الشوارع، لتحلّ محلّه ظواهر مثل “راقصات اللجان الانتخابية”، على أنغام أغان مصممة خصيصا لمناسبات السلطة، مثل “تسلم الأيادي” و”بشرة خير”.  في حين قُبض على شباب، كانوا يغنون في الشارع عام 2023،  بتهمة التسوّل عبر الغناء.

هيمنة مؤسسات الدولة تمتد حتى النقابات، فقد قام رؤساء هاته النقابات المشهورين، مثل هاني شاكر ومصطفى كامل، بتنظيم حملات ضد الأغاني الشعبية، وللقبض على “راقصي التيكتوك”، من الطبقات التي تستسيغ ذلك النوع من الموسيقى. لتصل السلطة على الصوت إلى الجسد والحيز الافتراضي، محاولةً تثبيت صور جندرية وطبقية وسياسية واقتصادية معيّنة.

“ليغو بوليس”: هل بإمكاننا التمرّد داخل الأسوار؟

يمكن أيضا ملاحظة ظاهرة تعميم الأسوار الرمادية، في “التطوير الحضري” للمدن المصرية بعد الثورة. شملت تلك الاسوار جميع أنحاء الدولة، وكأنها تثبّت صورة ذهنية للسجن في جميع تحركاتنا، وتوحي أن حيزنا الحالي والوحيد هو ما بين الأسوار.

يمكن لأسوار، مثل التى تعتلى الكورنيش، بمدن دمياط والاسكندرية، وعلى سفح المقطم في القاهرة، أن تحجب كثيرا من الأمور: جماليات المكان، الحق في التجوّل، والتشويش على الصوت.

أقامت فرقة “كايروكى” المعروفة، مؤخّرا، حفلة بعنوان “اثبت مكانك، ديناصور، صوت الحرية”، داخل سياج حديدي، تحيطه من الخارج عربات الأمن. استمع للحفلة جمهور يعي طبيعة ما سيقابله، إن خرج صراخه بتلك الاغنيات خارج ذلك الحيز: ستصبح نشازا يقاس بمقياس الجرائم، لأنها، في بيئتها المكانية، ليست أكثر من كلام زاعق عن الحرية والتمرّد، لكن داخل عُلب وأسوار.

يمكن تشبيه كل هذا بلعبة “ليغو بوليس”، وهي من أشهر إصدارات ماركة المكعّبات الشهيرة “ليغو”. والتي يبدو أنها النموذج المتبع لـ”التطوير الحضري”. ففي كل مكان تُشاد المكعبات والأسوار والطرقات، المصممة بعقلية بلاستيكية، تفتقر إلى التنوّع والحيوية. وكأن من سيسكنون ويستعملون تلك المكعبات، كائنات بلاستيكية بدورهم.

ليغو بوليس

إلا أن المجتمعات لا تسكت أبدا، ولا يمكن أن تتحوّل إلى دمى بلاستيكية. ربما يمكن أن تخفض صوتها، وتستمع رغما عنها لنداءات مكبرات أصوات السلطة، لكنها لن تتوقف عن الهمس و الكلام. في الأثناء ستتشكّل لغات جديدة، تتكّور وتتمايز، ولن تسطيع خطابات الصوت النمطية التافهة احتواءها، حتى تأتى لحظة تتقاطع فيها الأصوات المتوازية الهامسة، فتصطدم العوالم ببعضها، وحينها لن يمكن اخفاء صوت الانفجار.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.6 9 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات