انتفاضة الساحات: مدن “الغرب” حين توقّع اتفاقية توأمة مع مدن العرب

انتفاضة الساحات: مدن “الغرب” حين توقّع اتفاقية توأمة مع مدن العرب

عاشت مدن وعواصم العالم، بين عامي 2008 و2019، عقدا فريدا من حيث كثافة احتجاجاته وتواليها، وانتشارها في فضاءات جغرافية وثقافية وسياسية متنوّعة، فمن الثورة الخضراء في إيران عام 2008، التي أعقبت تزوير الانتخابات لصالح تيار المحافظين؛ إلى موجات الربيع العربي، التي ضربت ما لا يقل عن عشر دول عربية، من تونس أواخر العام 2010، وصولا إلى السودان والجزائر والعراق حتى العام 2019. إضافة إلى احتجاجات تركيا عام 2013، التي احتلّ خلالها المتظاهرون الفضاء العام، فيما بات يعرف بـ”تظاهرات حديقة غيزي”.

ترافقت موجة الاحتجاجات، التي شهدها “الشرق”، والتي تحوّل بعضها إلى حروب أهلية دامية وطويلة، مع احتجاجات في الفضاء الأوروبي والأميركي، بدءا بحركة “احتلوا” في الولايات المتحدة عام 2011؛ والاحتجاجات في اليونان وإسبانيا، التي أوصلت حركة “سيريزا” إلى الحكم في اليونان، وأفرزت قوى سياسية مهمة في إسبانيا، مثل “بوديموس” و”غانيموس”؛ مرورا بمظاهرات أوروبا الشرقية، خاصة في أوكرانيا عام 2014؛ وموجات الاحتجاج المتلاحقة في فرنسا، منذ إقرار قانون العمل عام 2016، وما تبعه من تظاهرات “الليل وقوفا”، ومن ثم احتجاجات “السترات الصفراء” عام 2018، وصولا إلى احتجاجات قانون التقاعد هذا العام.

النظرة الشاملة لكل الاحتجاجات السابقة، تدفع المراقب لملاحظة النقاط المشتركة فيما بينها سياسيا، فهي من ناحية استطاعت إظهار فعالية في عملية التعبئة، إلا أنها من ناحية أخرى أظهرت فشلا وعدم قدرة على صياغة المشروع، ومن ثم البديل السياسي. كذلك لعب الجيل الشاب، في معظم تلك الحركات الاحتجاجية، دورا فاعلا، مستفيدا من معرفته بتكنولوجيا العصر ووسائل التواصل. وتبقى النقطة الأهم هي محاولة احتلال الفضاء العام في كل تلك التظاهرات، التي حوّلت معالم هامة إلى مواقع للتظاهر، فمن ميدان التحرير إلى نيويورك وحديقة غيزي في أسطنبول، ومن شارع الحبيب بورقيبة إلى “ميدان التغيير” في اليمن، ومن “ساحة الجمهورية” في باريس إلى “ساحة التحرير” في بغداد، استخدمت كل هذه الاحتجاجات احتلال الفضاء العام والأماكن الرمزية فيزيائيا، وسيلةً أساسيةً للتعبير عن السخط. فكانت ساحة “الثورة” دائما الجغرافيا المدينية.

تشابه وسائل الاحتجاج، رغم التوزّع الجغرافي والاجتماعي للاحتجاحات، وتركزها في الفضاء المديني، يدفع إلى التساؤل حول ماهية هذا الفضاء، بالتزامن مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة؟ وكيف تشابهت المدن العربية مع نظيراتها في الإقليم والعالم، رغم اختلاف الظروف ومستوى “التطوّر”؟ ومتى وكيف انتقلت مظاهر البؤس الاقتصادية والاجتماعية، من مدن الأطراف الموسومة بـ”العالمثالثية” إلى مدن “المركز”، أو ما يسمى عالما أولا؟

قلب المدينة العربية: من اشتراكية إلى رأسمالية المحاسيب

انقلبت شوارع وساحات مدن عربية عديدة، خلال العقد الماضي، إلى مساحات للغضب، وللتعبير الحاد عن حالة الانسداد التي وصلت إليها أحوال الدول والمجتمعات العربية، قبل أن تعود بعضها إلى حالة السكينة والانضباط تحت سلطة الأنظمة، أو تنفجر، بمن فيها، في حروب أهلية، لا بد أن تغيّر شكل المدن ومحيطها إلى الأبد.

إلا أن تتبّع مسار المدن العربية المتفجّرة خلال العقد الفائت، يقود إلى ملاحظة تقاطعات هامة فيما بينها، فبعد استفادتها، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، من توسّع سياسات الرعاية الصحية والتعليم، وعمليات التوظيف في الدولة، وتأمين السكن الشعبي، ما حتّم بالضرورة زيادةَ في عدد السكان، وهجرة من الأرياف إلى المدن، بدأت هذه المدن، ومنذ تسعينيات القرن العشرين، مسارا انحداريا متسارعا، تمثّلَ في سياسات التحرير الاقتصادية، والتي بدأ بعضها منذ نهاية عقد السبعينيات، كما في مصر (سُمّيت “انفتاحا”)، ثم تسارعت في بقية الدول العربية، بالتزامن مع تغيرات سياسية واقتصادية عالمية، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وتفكك دول المعسكر الاشتراكي.

إلا أن “الانفتاح” في الفضاء العربي، لم يؤد لديمقراطية، بل جمع ما بين السياسات النيوليبرالية اقتصاديا، واستمرار الاستبداد السياسي، لتفتح شبكة العلاقات الزبائنية، التي رعتها الدولة العربية، الباب نحو توزيع الاقتصاد على العائلات الحاكمة والمتنفذة ومحاسيبها، ما جعل الليبرالية الاقتصادية مدخلا إلى فساد جديد، وعمليات خصخصة وبيع للقطاع العام، وتسليع قطاعات حيوية، مثل التعليم والصحة، ما ترك أثره على الفضاءات العامة. فمن إعادة إعمار بيروت بعد الحرب، إلى التجمعات السكنية المسوّرة في ضواحي القاهرة، طُرد وسط المدينة فقراءه إلى الأطراف، بينما انتقل الأثرياء الجدد إلى فضاءات مسوّرة بعيدة عن المدن. ضمن هذا السياق، نمت “الكومبودات” من جهة، والضواحي الفقيرة من جهة أخرى، بشكل متسارع، مستفيدة من شبكات الفساد، والمعادلات الطائفية والمناطقية في أحيان كثيرة، ما أكسبها القدرة على تأمين الحد الأدنى من الخدمات بأساليب “غير شرعية”، وخلقت أحزمة، أحاطت المدن الكبرى، مثل حلب ودمشق وبيروت والقاهرة، وصولا إلى الخرطوم وتونس والجزائر. وينطبق هذا في الإقليم على دول المحيط العربي، مثل إيران وتركيا.

 هكذا أعيد تشكيل قلب المدن، التي فرّ أغنياؤها وفقراؤها إلى الأطراف، في محاولة لإنشاء مراكز استثمارية ومالية وإدارية أكثر “حداثة”، تستفيد من تساقط ثمار الليبرالية الاقتصادية، يعمل فيها متعلّمون من أصحاب نفوذ، يتقنون الاندماج في الاقتصاد العالمي، ويؤمنون بالسوق وقوانينه في الربح وزيادة الثراء، الذي لا يتعارض بالضرورة مع المواقف السياسية لكثير منهم، من المحافظين اجتماعيا وثقافيا، أو حتى المنتمين لعقائد سياسية، كانت قد بنت سطوتها خلال فترة سابقة على “الوقوف في وجه الغرب”، ومن الأمثلة العيانية على هذا ما يطلق عليه في تركيا تسمية  “الجهاديون المقاولون”، في سخرية من تحوّل الإسلاميين إلى الاستثمار في العقارات، والذي كشفته الفضيحة المالية، التي كان “بطلها” ابن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

في هذا السياق المستمر خلال العقود الماضية، طردت المدينة فئاتها المتوسطة، من معلمين وحرفيين وموظفين إلى الأطراف البائسة، ما جعل انتفاضات العقد الماضي محاولة جسدية من المحتجين، لإعادة احتلال الفضاءات التي طردوا منها، أكثر من كونها سعيا جديّا لتغيير الأنظمة السياسية، أو إنتاج بديل عنها.  

رغم ذلك، فإن ما غاب عن التظاهرات في المدن العربية هو المطالبة الحاسمة والجذرية بتغيير المنظومة الاقتصادية، وتوزيع عادل للثروة، وإحياء مطالب العدالة الاجتماعية الغائبة، وهنا كان من الواضح أن القدرة الاحتجاجية والتعبوية، التي رافقت انتفاضات العالم العربي، تزامنت مع شلل برامجي، لم يتأخر في الكشف عن وجهه. وربما ساهم انعدام الجذرية، الذي وصل حد الميوعة أحيانا لدى بعض التجمعات، في انفضاض جماهير واسعة عن الانتفاضات العربية، خاصة وأن هناك جهات أخرى، غير الدولة، تقدّم الخدمات الاقتصادية والاجتماعية للناس، وربما يكون أهمها الطوائف والجماعات الأهلية وقادة الميليشيات وشبكات المتنفّذين، وهؤلاء نجحوا اليوم في احتلال الفضاءات العامة دون منازع.

كيف استطاع نموذج احتجاجي مثل هذا، بكل نقاط قصوره وضعفه، أن يؤثّر على مدن غربية أكثر تطورا؟

“تطريف” المدينة الأوربية: فوضى “الحثالة” والمهاجرين

استوحت مدن عالمية نموذج المظاهرات التي شهدتها الانتفاضات العربية. وهكذا استأنست حركة “احتلوا” بشباب ميدان التحرير في القاهرة، وانطلقت موجة من التفاؤل، قادت مفكرين ومثقفين إلى اعتبار الانتفاضات العربية نموذجا لمرحلة جديدة، فشهدت مدن غربية، أو “عالمية”، مثل مدريد وباريس ونيويورك ولندن، احتجاجات نُسجت على منوال الاحتجاجات العربية.

احتلت “فئات شابة” الساحات، إلا أن هذه الفئات ما لبثت أن تفتّتت وتفرّقت، سواء بسبب عنف السلطة، الذي ظهر بشكل جلي في مواجهة احتجاجات “السترات الصفراء” في فرنسا على سبيل المثال، أو بسبب الافتقاد إلى التنظيم والجذرية، وهو ما يمكن ملاحظته في حركة “احتلوا” أو “الليل وقوفا”.

غير أن اللافت للانتباه هو تقاطع فضاءات المدينة “الغربية” مع تلك العربية في عديد من النقاط، فعدا عن محاولة احتلال الفضاء العام، الذي حاوله المحتجون، لا يمكن نكران أثر السياسات النيوليبرالية اقتصاديا خلال العقود الفائتة، والتي أنتجت أشكالا من تفريغ قلب المدن، والفقر، والقلق الاقتصادي والاجتماعي العام، لا يلبث أن يعبّر عن نفسه بموجات من الاحتجاجات المتواصلة، التي سرعان ما تأخذ شكل الصدامات الاجتماعية العنيفة، كالتي تشهدها الضواحي الفرنسية بين فترة وأخرى. هذه الصدامات، ورغم عمقها الاجتماعي والاقتصادي، تحمل طابعا عرقيا وإثنيا، وهي شكل من أشكال الصراعات الأهلية المستجدّة في القارة الأوروبية، على اعتبار أن أغلب المنخرطين فيها من أبناء البلاد وحملة جنسيتها، وإن كانوا منحدرين من عائلات مهاجرة.

في المقابل، من الملفت عند كل موجة احتجاجات صعود خطاب طبقي، يستبطن استعلاءً على الفئات المحتجة، ومعادٍ للفقراء القادمين من الأطراف، وهو ما كان يمكن سماعه بوضوح إبان احتجاجات “السترات الصفراء”؛ أو معادٍ للمهاجرين، وهو ما يمكن سماعه في كل احتجاج تشهده الضواحي الفرنسية.

بهذا يبدو تذمّر الفئات الأفقر، التي عادت لتطلّ برأسها في فضاء المدن الأوروبية، واضحا، خاصة وأن هذه الفئات غالبا ما تنتمي إلى المناطق التي أفقرتها سياسات نزع التصنيع، وتوسّع اقتصاد الخدمات، يضاف إليها ما استقدمته التحولات الاقتصادية والحروب من مهاجرين قادمين من مختلف بقاع الأرض. هؤلاء جميعا من الفقراء، الذين يحاولون احتلال أماكن في الفضاء العام، لا تخلو من رمزية أو مكانة، كأن يهاجموا محلات السلع الفاخرة، أو أحياء مكاتب الشركات الفارهة، أو حتى أماكن تاريخية وقصورا رئاسية، لم تعد تحوي من معنى إلا كونها رموزا سلطوية.

لا تبدو المدينة الغربية أكثر “تطورا” من المدينة العربية، من جهة متانة اجتماعها المديني، فقد فقدت كثيرا من الأنظمة والمؤسسات الوسيطة، التي كانت تتيح قنوات سلمية للعمل السياسي والاحتجاج؛ ويبدو سكّانها شتاتا بشريا، يصعب تعريفه بالمنطق السياسي. وباستثناء حالات محدودة، مثل الاحتجاجات المنظّمة نقابيا في فرنسا، سرعان ما تغرق الحركات الاحتجاجية بالفوضى، أو تتبدّد بسرعة كما نشأت. فضلا عن عجز أي طرف، حتى لو كان منظّما سياسيا أو نقابيا، عن إنتاج خطاب واضح للشتات البشري المحتج.

ضمن هذا الإطار، تمتزج الأزمات الاقتصادية، التي يولدها توزيع جائر للثروة، معمم في مختلف أصقاع العالم، مع الحروب الأهلية المشتعلة في دول طرفية؛ وتنتقل أفكار العالم ومشاكله، عبر وسائل الاتصال وموجات الهجرة، إلى درجة أن تصبح صراعات ذات طابع طائفي في العراق موضع الجدل الأول في السويد مثلا.

“القرية الكونية”: فضاء عام متصل ومنفصل

صعدت، خلال عقود الماضية، توصيفات تتحدث عن “القرية الكونية”، بناء على توسّع شبكات الاتصال والمواصلات وسرعتها، وتسارع تدفّق المعلومات وانتقالها بين فضاءات العالم ومدنه، وسرعة وسهولة انتقال البضائع والأشخاص. وفي الوقت الذي انتقلت فيها السلع والأشخاص والمواد الأولية والمنتجات الفاخرة أو الرخيصة بين موانئ ومطارات العالم، وازداد فيه الاستهلاك، وبات بإمكان مواطن كندي مثلا، تصوير استمتاعه بوجبة سوشي يأكلها في رحلته إلى اليابان، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والحصول على إعجاب من صديق سويدي يقضي عطلته في القاهرة، يتصوّر ممسكا الهرم أو رأس أبي الهول بين يديه، كان هناك مصريون وسوريون وأفغان وإيرانيون يهربون من الحرب والفقر، وينقلون معهم لغتهم وثيابهم وعاداتهم، وانقساماتهم العشائرية والطائفية والإثنية، إلى شوارع باريس وبرلين وبروكسل ولندن، التي باتت تشهد صراعات لا تختلف بالضرورة عن ضواحي وشوارع دمشق أو القاهرة أو بغداد، كما صار بإمكان هذه المدن الانخراط في صراعات المنطقة العربية، ليس لأنها فقط لأنها عواصم قوى دولية، لها جيوش بأسلحة متطورة، بل أيضا لأنها قادرة مثلا على تصدير 3600 جهادي وجهادية، لينضموا إلى الجماعات المتطرفة في الحرب السورية والعراقية.    

عرفت العقود الماضية أيضا تزايد الحديث عن مشاريع “توأمة المدن”، أي الاتفاق بين مدينتين على التعاون في مختلف المجالات، والأمور التي تعني التجمّعات السكنية المدنية، وهي من مظاهر مشاريع “التطوير الحضري” المعاصر، التي ساهمت، فعليا أو رمزيا، في مسارات العولمة وإعادة إنشاء الفضاء المديني. ويبدو أننا نشهد حاليا نمطا آخر من “التوأمة”، أكثر عمقا، يجعل مدن “الشرق” و”الغرب” على إيقاع اجتماعي وثقافي متشابك. وهو إيقاع غير منتظم إلى حد كبير، يسهل أن يصير فوضويا، ولم يُنتج، حتى الآن، أي بنى سياسية قابلة للتحليل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات