الجنة في “دهب”: هل يمكن الهروب من المدينة إلى “اكتشاف الذات”؟

الجنة في “دهب”: هل يمكن الهروب من المدينة إلى “اكتشاف الذات”؟

القاهرة مكان مزدحم وخانق لسكانه منذ سبعينات القرن الماضي، لدرجة أن عددا كبيرا من الأفلام والروايات المصرية قد بنيت على تلك الفكرة، لكن المختلف عن ذلك القرن، ونقطة التحوّل، التي أضافت في قرننا بعدا كابوسيا للقاهرة، كان  مذبحة رابعة عام 2013.

بدت المدينة وقتها مجنونة، بما امتلأت به من رائحة الدم. “الجماهير” فقدت بشكل جماعي قدرتها على التعاطي مع الواقع بشكل عقلاني، واختارت ممثلا عن الجنون الصاعد من أحشائها: القوي الذي سيتكفّل بما أرادته في العمق، لكن ليس بإمكانها تحمّل وزره أو كلفته.

لذا عبدت “الجماهير” أول من تقدّم ليخبرها أنه قادر على تحمل الوزر، وجعلت منه “قلب الأسد”، نسبة إلى فيلم بالعنوان نفسه للممثّل المصري محمد رمضان، وهو  للغرابة واحد من سلسلة أفلام مدانة من “الطبقات الوسطى” المحافظة، التي هللت للمذبحة، وطلبتها دون أن تصرّح بها، لأن بطلها يروّج للعنف المفرط، أما في أيام “رابعة” فقد عاد للدولة ليس فقط حق احتكار العنف، بل استخدامه بإفراط ضد الجميع، من الإخوان إلى الثوار، ثم إلى الجماهير المهلِّلة أنفسها.

هكذا بدت القاهرة لكثير من المثقفين حينها: ذنبٌ مخفيٌ في الوجوه، لا أحد يتحدّث عنه، ولا أحد يرغب في التحدّث عنه، وكان من الطبيعي أن تكون أكثر الأغاني رواجا،  أغنية بكلمات وطنية، على إيقاع راقص صاخب، “قوم نادي ع الصعيدي وابن اخوه البورسعيدي”، بما يذكّر بحفلات الزار في فيلم “ريا وسكينة” الشهير، حيث تعلو الأغنية المفرحة والإيقاع الصاخب والرقص، فيدفنون معهم الجريمة. كان الكل يرقص، وبرزت كوميديا اللا موضوع بإلحاح، مثل كوميديا “مسرح مصر”، التي عرفت الازدهار في تلك الفترة، وطغت صحافة التفاهات على الصحف التي اشتهرت بالرزانة.

لم يكن الوجه الوحشي الأحادي للديكتاتورية هو السائد فقط، بل بدا أن قوانين القاهرة الأخلاقية أيضا تزداد صرامة في رجعيتها، بدا أن الشعب كله يمين متطرف.

القاهرة لم تزدحم وتتوحّش بين يوم وليلة، فعندما لم يعد بالإمكان تفريغ الغضب ضد السلطة، بعد عامين ثوريين، وثلاثين عاما من سياسة الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي حرص، عدا السنوات الأخيرة من حكمه، على توفير منافذ مُسيطر عليها لبخار الغضب المكتوم، لم يعد بالإمكان تفريغ الغضب إلا في أنفسنا، وفي أبسط المواقف.

في تلك الفترة، كان أحد الحلول التي انتشرت، ولكل أسبابه السياسية أو الاجتماعية أو الشخصية، هو هجرة القاهرة والمدن الكبرى نحو مدن نائية وصغيرة، وكنتُ واحدا ممن طبّقوا هذا الحل لأربع سنوات. والوجهة كانت مدينة “دهب”.

“دهب” مدينة ساحلية صغيرة نائية في جنوب سيناء، معزولة بحكم المسافة الطويلة بينها وبين القاهرة، ولأنها محاطة بالصحراء، لكنها بالداخل لم تكن مجرد صحراء، بل تحمل كل أبجديات المدينة: بنوك، طرق، كهرباء، مياه، مقاهٍ، مطاعم، سوق، شبكات محمول وإنترنت معقولة، صغيرة ولكنها أكبر قليلا من حي المعادي في القاهرة، مع إطلالة ساحرة على البحر، ومجتمع متنوّع من الأجانب المقيمين والمصريين، كما أنها، وعلى عكس القاهرة، قد تمثّل بيئة آمنة للأطفال.

إنها حياة رائقة داخل مدينة مصغّرة، وعلى عكس ما صوّرها مثلا فيلم بيتر ميمي الأخير “بيت الروبي”، ليست مكانا معزولا تماما، بل تحمل كل إمكانيات التفاعل بين بشر قادمين من خلفيات ومدن مختلفة، لكنّهم أقل عددا، بما يسمح لهم بممارسة التفاعل دون ضغوط المدينة الكبرى.

ليس هذا فقط، فالمدينة لم تكن معروفة بشكل كبير، فباستثناء الأجانب، الذين عرفوها أولا، لم يسمع بها إلا قلة من المصريين، ولذلك كانت تسمح فيه بما لا تسمح به المدينة الكبرى. فتحوّلت إلى مساحة آمنة متحررة من الأفكار المحافظة. لذا برزت قيمتها كجنة متخيلة، بعد فشل الثورة، كما يقول الكاتب ماجد عاطف في مقاله: ابعد.. الصورة تفضل حلوة، فقد وجد الشباب المتمرّد فيها ضالتهم، حيث يستطيعون العيش على النمط الذي اختاروه لأنفسهم، دون وصاية أخلاقية من أحد، وهو ما كرّسته فيما بعد بعض الأفلام السينمائية والمسلسلات، التي ظهرت فيها دهب مكانا ساحرا، مما زاد من شهرتها في أعوام قليلة.

هكذا بدأ موسم الهجرة من المدينة المصرية الكبيرة، بكل انقساماتها ودمويتها وتزمّتها، نحو أمكنة تبدو قادرة على منح الخلاص، إن لم يكن الخلاص الاجتماعي العام، فعلى الأقل الخلاص الفردي، وعلى مستوى “الكوميونتي”، أي الدوائر القريبة من الأصدقاء والمعارف. هل كل الخلاص ممكنا حقا؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن الهرب من أزمات المدينة العربية؟

آداب المدينة: كيف عادت “قيم الأسرة” إلى دهب؟

في البداية لا بد من القول: “دهب” أصبحت تدريجيا مدينة محافظة، وفقدت كثيرا من حرياتها، فلم يعد من الممكن للأفراد أن يعتبروها جنة “اللايف ستايل” الحر.

يذهب ماجد عاطف، في المقال المذكور أعلاه، إلى مقاربة لا أراها صحيحة: انتقال العائلات، سواء مما يُعرف بـ”الطبقات الوسطى” أو المحافظة إلى “دهب”، غيّر من بوصلة أجهزة الأمن في المدينة، التي صارت أكثر صرامة فيما يخص مراقبة الحريات. لقد تغيّرت بوصلة الأجهزة الأمينة حقا، وباتت أكثر محافظة، ولكن ليس بسبب انتقال تلك العائلات من المدن الكبرى، فأغلب أفرادها يعون طبيعة “دهب”، وذهبوا إليها وهم راضون بطابعها المنفتح، بل وربما طلبا له.

كما أن المدينة، قبل أن تصبح “تريند” يغري عائلات المدن الكبرى، سكنتها عائلات ريفية من دلتا مصر، ليست قليلة العدد، لكنها لا تسكن في الوجه البرّاق في المدينة، بل في بطنها غير المعروف، ويعمل أصحابها فيما تتيحه المدينة من أعمال، سواء بالسياحة أو سمسرة العقارات، أو في المطاعم والكافيهات، أو حتى في المصالح الحكومية، وأغلبهم متدينون، لكنهم متفهّمون لطبيعة “دهب” السياحية. والمصريون، ممن  يقطنون في أماكن يعتمد دخلها الأساسي على السياحة ووجود الأجانب، يمتلكون فهما فطريا لطبيعة تلك الأماكن، حتى وقت قريب على الأقل، ويقبلون فكرة التنوع، لأن الإضرار به يضرّ بأرزاقهم.

ما حدث بالضبط هو انتباه السلطات إلى أن “دهب” أصبحت “تريند” لبعض المصريين، يعكس الحرية والانفلات من القبضة  السلطوية، كما أنها أصبحت ملاذا لعديد ممن شاركوا في الثورة، رغم أنهم ذهبوا هناك لطلاق السياسة؛ أو من عرفوا بأنشطة أخرى، ثقافية وفنية، مرتبطة بمنطقة وسط البلد في القاهرة، وبالتالي فقد قرأت في الهجرة إلى “دهب” محاولة لإنشاء “مساحة آمنة” خارج السلطة الراسخة في المدن المركزية. وهذا بالطبع غير مقبول من منطق أمني.

بعض ممن جاؤوا للإقامة في “دهب” تعرّض لعمليات “تطفيش” من قبل الأمن. وقد عاصرت على الأقل حالتين أو ثلاث للقبض على عاملين بمجال حقوق الإنسان، أثناء وجودهم في المدينة للسياحة.

تستعيد قوى الأمن في “دهب” حقها غير القابل للمساومة، أي فرض قبضتها وأحكامها على الجميع، وبالتالي فلا يوجد “كومينتي” يإمكانه أن يعيش “لايف ستايل” متحرر. فأحكام السلطة، من السياسة المباشرة وحتى “قيم الأسرة” و”الآداب العامة”، ستطبّق على الجميع، رغم “تنوّعهم”. وما هربنا منه في القاهرة، يمكن استنساخه ببساطة في “دهب”، عندما تصبح لذلك ضرورة من وجهة نظر السلطات. بهذا المعنى فلا خلاص من المدينة العربية.  

بطن الحوت: كيف يعيش أهل الجنة؟

في كل مراحل رحلة البطل في الأساطير والقصص والدينية والملاحم، كما حددها الباحث الأميركي جوزيف كامبل، في كتابه الأيقوني “البطل بألف وجه”، ثمة مرحلة من العزلة يحتاجها البطل، قبل أن يصل إلى التنوير، تسمى بمرحلة “الكهف” أو “بطن الحوت”، يمكن إيجاد أمثلة على تلك المرحلة في شجرة بوذا، أو غار  حراء، أو في حوت النبي يونس، إنها مرحلة يواجه البطل بها مخاوفه الحقيقية وحده.

هدف تلك العزلة ليس الخصام التام مع العالم الشرير، بل العودة إليه بروح أكثر قوة، بعد تحقق معجزة الفهم، ويكون على البطل دَين نقل فهمه الجديد إلى العالم. اكتمال المعجزة مرتبط في الأساس بمرحلة العودة. والعزلة هنا مجرد نقطة في رحلة النضج النفسي.

عوملت “دهب” بوصفها مكانا يقي من الشرور، فيما يشبه الحيلة التي يمارسها الأطفال عادة: تختفي الأشياء المخيفة بمجرد إغماض العينين.  وصوّرت من خلال قاطنيها الجدد، خاصة من مثقفي القاهرة المرتبطين بمنطقة وسط البلد، بأنها “الجنة” التي عثروا عليها أخيرا، مدينة فاضلة نسبوا إليها ما لم تنسبه المدينة لنفسها؛ وصوّروها في كتاباتهم، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم الأدب والسينما والتليفزيون، بصفات رومانسية، تضفي شيئا من التميّز على قاطنيها، لكن هل تصلح دهب مكانا لإقامة طويلة، ما يجعلها بديلا فعليا عن الحياة الديستوبية في المدن المركزية؟ يمكن التشكيك في هذا بشدة.

للإقامة الطويلة في “دهب” شروط، من بينها أن يكون دخلك الأساسي مرتبطا بعمل خارجها، لأنها لا توفّر لك حياة جيدة، تستقيم مع الصورة الذهنية التي رسخت عنها، إلا بوجود دخل ممتاز، خاصة بعد ارتفاع أسعار العقارات بشكل مبالغ به. للإقامة في بيت على البحر، كما تُصوّر تلك “الجنة” في المنشورات الترويجية، قد تضطر لدفع عشرين ألف جنيه شهريا على الأقل.

الحل الثاني هو أن تتقاعد هناك حرفيا في سن مبكرة، بعد العمل الشاق، وتعيش على مدخراتك.

الحل الثالث العيش على ما توفرّه لك المدينة من فرص عمل، وهي أعمال لا تحقق دخلا كبيرا، مثل الغطس، العمل في كول سنتر، السمسرة، الخ.

الحل الرابع، وهو الحل النادر، أن تكون موجودا في المدينة قبل شهرتها، أي قبل عقود، وقادرا على توفير خدمة أساسية، مثل فندق أو مستشفى أو صيدلية، بات لها سمعتها الراسخة، مع العلم أن المساحة الضيقة في “دهب” لا تخدم التنافس في تلك المجالات.

بكل الأحوال ترتبط الإقامة في تلك المدينة بخفض سقف الطموح بشكل عام. إلا أن ذلك الطموح المنخفض هو نوع من الترف والامتياز، الذي لا يقدر عليه إلا قلّة من المحظوظين، من أصحاب الدخل أو المدخرات العالية. وكما أنك لن تستطيع أن تهرب في “دهب” من الوقائع السياسية والسلطوية للمدن الكبرى، فلن يمكنك الهروب أيضا من المشاكل والأزمات الاقتصادية.  

ربما لن يكتمل نضج الهاربين إلى “دهب” وتنوّرهم إلا عندما يبدأون التفكير، أو يضطرون للتفكير، بالعودة منها إلى المجتمع الكبير.

استعادة الأنا: لماذا لا نجد “الكوميونتي” الموعود؟

هنالك أسطورة أخرى عن المدينة، تتعلق بمفهوم “الكوميونتي”، وهي “ناس دهب”، وهي صفة تُسقط على المقيمين حديثا، لا على السكان الأصليين للمدينة، تكسبهم الصفات الأسطورية الحالمة التي أسبغت على المدينة، وتميّزهم عن سواهم، وتذكّرنا بالصفات الخيالية، التي أسبغت على السكندريين في عصور خالية.

تضغطنا المدن الكبرى تحت إيقاعها الذي لا يرحم، تجعل من قيم، كالصداقة مثلا، محل شك، لأن علينا جميعا التنافس بقوة، لكن لهذا السبب عينه، ولأن مصالحنا في النهاية مشتركة أمام جبروت المدينة الكبرى، نفهم في النهاية حاجتنا إلى بعضنا البعض، سواء من خلال تكوين العلاقات أو تبادل المصالح. ظن كثيرون أن ذلك ممكن في “دهب”، إلا أن الواقع كان مغايرا.  

في مرحلة “الكهف” أو ” المعجزة”، التي توفرها العزلة في مدينة ساحلية هادئة، يكتشف المرء “فرديته” المسحوقة تحت ركام المدينة الكبيرة، يبدأ فعليا في الشفاء من حمى الركض المتواصل، فيبدأ في الاتصال بجماعات أخرى في محيطه القريب، ولكن على أساس عدم التنازل عن” أناه” الفريدة، التي اكتشفها هناك. تلك الأنا، التي تتمحور حول ذاتها بشكل مبالغ فيه، لم تعد صالحة للمشاركة بشيء، أو التضامن الحقيقي، أو عقد صداقات متجذّرة، لأن ذاكرتها لم تتجاوز مرحلة العالم الشرير الذي هربت منه، ويظل العالم الجديد بالنسبة إليها شريرا أيضا، في مقابل أنا، لم تعد تحتاج إلى أحد.

استبدال الآخر أسهل في “دهب”، لأنه من الأساس لا لزوم له، فضلا عن شرط التنازل عن السياسة، من أجل حياة آمنة هناك، لا تتدخّل فيها السلطات، التي تملك قوة “الترحيل” خارج المدينة، أو منع دخولك إليها من الأساس، ولذلك لا تنجح أي مبادرات جماعية داخل المدينة.

النتيجة هي مجتمع أناني معزول، لكن الشر هذه المرة لم يعد بالإمكان نسبته إلى المدينة، بل إلى الأفراد في مواجهة ذواتهم الحقيقية لأول مرة، الشرط الوحيد لتطوّر ذلك المجتمع هو أن يناقض شرط “الجنة” أو المدينة الفاضلة المزعومة، أي أن يتحّول إلى بدوره إلى مدينة كبيرة، لا أقول بمواصفات القاهرة، لكن بمواصفات شرم الشيخ على الأقل، حيث تتوافر فرص أكبر للنمو الاجتماعي والاقتصادي، بل والنضج الشخصي، وهو ما سيحوّل “دهب” إلى مجرد مدينة عادية ضمن عشرات المدن الأخرى،  وسيدفع  السلطة لاستعادها بشكل أكثر صرامة، ما يناقض فكرتها الأساسية، التي تم ترويجها، باعتبارها يوتيوبيا للهاربين، الراغبين من التخلّص من  هدير المدينة الذي لا يرحم.

لا هروب من شروط مدنيّتنا المعاصرة، لا في “دهب” ولا غيرها، فالمشكلة ليست في وعي الأفراد أو ميولهم، بل في البنى الأساسية التي تحكم اجتماعنا ونشاطنا الحياتي. وكما اكتشفنا قبل عقود أن الثورة ليست الحل السحري، جعلتنا “دهب” ندرك أن الهروب، و”العودة إلى الذاتي”، ليسا بدورهما الحل.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.