خراب المدينة: لماذا يشعرنا تدمير الآثار باقتراب القيامة؟

خراب المدينة: لماذا يشعرنا تدمير الآثار باقتراب القيامة؟

هل هناك عنصر ديستوبي (قِيَامي) أصيل في عقيدة العرب؟ من علامات الساعة الكبرى عند المسلمين الإسلام نفسه، بعثة النبي محمد تحديدا. فنبوة نبي الإسلام نفسها، في نظر أغلب المسلمين اليوم، علامة على اقتراب الساعة. يحذّر القرآن الناسَ دائما من اقتراب الساعة. ويقول الناس في البيوت، والمقاهي، وأماكن العمل اليومية، حين يتعرّض المجتمع إلى كارثة عنيفة، أو حين يسمعون أو يقرؤون عن جريمة فوق العادة: “لقد اقتربت القيامة”. لا يقولون إن المجتمع يوشك على التحلّل مثلا، أو إن الدولة تكاد تنهار، أو إن الإنسانية قد توحّشت، بل ينجزون قفزة واسعة جدا نحو فناء البشرية كلها. والغريب أن المفهوم الدقيق للقيامة، لغويا، واصطلاحيا، هو البعث، قيامة الأجساد من التراب، لكنه يعني عند المسلمين في التداول اللغوي العكس: الموت التام، لأن البعث في عقيدتهم يلي موت كل النفوس.

والسؤال: هل الديستوبيا مكون أساسي من مكونات الإسلام بوصفه دينا؟ وهو الذي بدأ بمشاهد القيامة وأهوال الحساب في القرآن المكي، بينما بدأ الكتاب المقدس بالعكس، بتكوين العالَم. أو هل هي من مكوناته بوصفه حضارة أو وثقافة؟ وهل ينسحب هذا الحكم، إن أمكن، على الديانات الإبراهيمية جميعا، في إنذارها بنهايةٍ لبناءٍ شبه مكتمِلٍ، أكثر مما هي اكتمال لذلك البناء نحو النهاية؟

في الواقع لا يقول القرآن على الإطلاق بنوع من التطوّر العكسي للبشرية، بمنطق “خير القرون قرني”، واقتراب الساعة فيه لا يعني قربها بالنسبة لنا بوصفنا بشرا، بل بمقياس الزمن الإلهي، الذي هو، بحسب القرآن، ألف مرة ضِعف زمننا نحن. الديستوبيا الوجودية العربية هي التي قرأت القرآن، لا القرآن هو الذي أوجدها. الديستوبيا العربية الحالية ظاهرة ثقافية-مجتمعية عربية.

نحن في زمن القيامة، وخاصة بعد “الربيع العربي”، زمن فناء الأوطان، والخرائط، والآثار، والتاريخ، والحقيقة، وذلك في سياق انهيار الدول، والأنظمة العربية، وصعود تيارات من الإسلام السياسي، حطّمت التراث الحضاري حقيقة، لا مجازا، في محاولتها تفتيت هوية قومية وحضارية، لصالح هوية أممية إسلامية، تدّعي لنفسها مشروعا عالميا بديلا، له كذلك تأسيسه النظري. ومن هنا يمكن النظر إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، ليس باعتبارها فرقة إسلامية، بل فرقةً بعد حداثية، عَوْلمية، تقوم على تفكيك الهويات، وعلى الهدم بدلا من البناء.

إلا أن جماعات الإسلام السياسي ليست الوحيدة التي تهدّم العمران والآثار، بل كذلك دول وشركات ومؤسسات خاصة ومنظمات دولية، تفرض سياساتها ووصفاتها على حياة المدينة العربية، مدمّرة كثيرا من المعالم والأبنية والمساحات وأنماط الحياة، التي كانت سائدة سابقا. كيف ينعكس تدمير المعالم التاريخية للمدينة على وعي البشر في العالم العربي؟ وكيف تبدو “القيامة”، التي يعيشها الناس فيه، إذا نظرا إليها من زاوية العمارة؟   

القيامة الآن: هل “قاوم” العرب من خلال العمارة؟

في مقال بعنوان “القيامة الآن: لماذا يكتب المؤلفون العرب عن نهاية العالم؟، على موقع middleeasteye.net، بقلم لينا منذر Lina Mounzer، ترى الكاتبة أن جلّ الأقلام العربية، بعد الربيع العربي، يتوجّه إلى معالجة تيمة الديستوبيا، نظرا لفشل الثورات العربية الأخيرة، باعتبار ذلك ظاهرة عامة من منظورها. وهو منظور “ممكن” بشكل عام، نظرا للأسباب الواردة أعلاه. ويعدد  المقال عددا من الروايات، لإبراهيم نصر الله، وأحمد سعداوي، ونائل الطوخي، وأحمد ناجي، تدور حول الديستوبيا بشكل مباشر، بعد ثورة يناير في مصر.

لقد كان العرب أنبياء حضارة، ثم صاروا أنبياء قيامة. والقيامة هي المستوى الأعلى من مستويات الموت. وبرغم هذا فإن التصور القيامي العربي ليس بجديد، فقد شهد العرب في القرن العشرين انهيارات سابقة مروّعة، ربما كان أبرزها هزيمة الخامس من يونيو/حزيران، فارتبطت حداثة السبعينيات عضويا بهذا الشعور بالنهاية، والإحساس بالتوقُّت، بعد أن كان أدب الواقعية في الخمسينيات والستينيات متفائلا، صلب الأرضية، واضح القضية. وفي الواقع يمكن تتبّع هذه الديستوبيا عميقا في التاريخ الإسلامي، فمشروع ابن تيمية السلفي في مشرق العالم الإسلامي (ت 728هـ) يمكن تفسيره من هذا المنطلق، باعتباره محاولة لصَوْن هويةٍ دينيةٍ، تم تهديدها عن قريب، وبشكل حقيقي، للمرة الأولى ربما بعد الفتنة الكبرى، بالتبدّد والزوال على أيدي الصليبيين والمغول. كما أن مشروع أبي اسحق الشاطبي، المتوفَّى في تاريخ مقارِب في مغرب العالم الإسلامي (ت 790هـ) لتنظير مقاصد الشريعة، وإعادة بناء أصول الفقه في “الموافقات”، يمكن كذلك قراءته من هذا المنظور، باعتباره إعادة بناء، وإعادة نظَرٍ نقدية. فقد عاش في غرناطة، المملكة الوحيدة للمسلمين في الأندلس/الفردوس المفقود في ذلك الوقت، المحاطة بالأعداء الإسبان من كل جهة. الأول قاومَ بالمحافظة، والثاني حاولَ بالتجديد. ولكن انهيارات ما بعد الربيع العربي مختلفة عن كل ما سبق، فهي ليست غزوا خارجيا، بل انخسافا نحو المركز بأيدي أصحاب “الوطن” أنفسهم، انخسافا أقرب إلى طريقة عمل القنبلة النووية الاندماجية، دمّر كثيرا من الأوابد الحضارية، المعاصرة والأثرية. لقد كان “الربيع”، في أحد أوجهه، إيذانا بخراب “العمران”.

ومع انهيار كل ما في المكان، بقي المكانُ نفسه القائمَ الوحيدَ. صارت “الأرض” المجرّدة مفهوما. الأرض بالمعنى السياسي في شعر محمود درويش، أرض المناضل؛ والأرض في شعر عفيفي مطر، أرض الفلّاح. وبقيت العمارة، التي كانت على الأرض،  مسيحا قتلته السلطات والإرهابيون الإسلاميون، لا يتوقع أحد عودته، ويبكيه الجميع.

على أن هذا الوعي بالانهيار الموشِك، والساعة المقتربة، له أصول أبعد، تمتد إلى حدس الباحثين بقرب الربيع العربي نفسه، وما سينتج عنه من ويلات، تصاحب كل الثورات. فلْنقرأ ما قالته هبة رؤوف في جريدة “أخبار الأدب” المصرية (عدد 733 – 29 يوليو 2007) بعنوان “البحث عن الجمال الضائع”:الحديث عن العولمة والسوق والهيمنة، واجتياح الأنماط المعمارية المختلفة، يؤدي إلي تساؤل عن “المقاومة في ظل الاجتياح”؛ بمعني كيف تقاوم الشعوب بالمعمار من أجل استعادة الهوية؟ وكيف يعبر الإنسان عن مقاومته بالمعمار؟ وهل هناك أشكال مقاومة معمارية ومكانية لاحظتها خلال تجوالك؟ فمما لاشك فيه أن البنيان يؤثر في الدولة (…) وهنا أتساءل عن الدور النضالي الذي يجب أن يقوم به المهندسون والمعماريون. هل هذا الدور موجود بالفعل، بالإضافة إلى استهلاك الأماكن القديمة في السياحة؟”. ومن هنا يمكن للمعمار الأصيل أن يصير أقوى من الجيوش، رغم أن مبدعيه صاروا ترابا، ترابا ربما اندمج مع هذا المعمار نفسه، أو في المعمار المضاد.

وفي كتاب “عمارة المقاومة”، الفائز بـ”جائزة أحمد بهاء الدين” لعام 2010، للمعمارية الدكتورة عالية سامح عكاشة، نقرأ في الفصل الثاني، بعنوان “خلفية تاريخية عن تطور العمارة، من الهجوم إلى الدفاع إلى إعادة الإعمار”. ترى الكاتبة أن هناك أشكالا معيّنة يتخذها المعمار لنفسه في حالات المقاومة الفعلية، أثناء الحرب، وبعدها، وليس فقط المقاومة الثقافية، فكما أن هناك عمارة مقاومة للزلازل مثلا، فهناك عمارة مقاومة للقنابل، تنتشر في المناطق القريبة من خطوط المواجهة الساخنة، وإن تلك الملامح المعمارية المحددة، تتطوّر كالكائن الحي بحسب مجرى الحرب، وسياسة الدولة، ووفقا للمراحل الثلاث المذكورة في عنوان الفصل. وتتخذ الكاتبة أمثلتها من عدة دول عربية، تعرّضت لحروب قريبة العهد، مثل فلسطين ومصر وسوريا، إضافة طبعا إلى مثال هيروشيما، الذي لا يمكن تجاهله في هذا السياق.

العمارة “الزومبي”: ما الأشباح التي نراها على أطلال المقابر؟

هناك علاقة قارّة بين العمارة وبين الهوية الحضارية، تكمن في طبيعة فن العمارة نفسه. تختلف العمارة بوصفها فنا جوهريا عن كل من التصوير، والنحت، والتخطيط العمراني، والبستَنَة، برغم كونها كلها فنونا تشكيلية. الفرق الأساسي بين العمارة من جهة، وشتى الفنون التشكيلية الأخرى من جهة ثانية، هو أن العمارة فن “خالد”، موضوع ليدوم أطول فترة ممكنة من الزمن، بحيث يؤثر هذا الهدف على تكوينه، وآلياته بوصه فنا. يمكن القول إن العمارة “فن تاريخي”، فن يلخّص لحظة تاريخية معينة، بسمات فريدة، لا تتشابه مع لحظة أخرى. يمكن لرسّام سوري مثلاً أن يقتبس من أسلوب الفنان الإسباني خوان ميرو السريالي، في رسم مشاهد السماء السوداء، التي ملأتها أدخنة الحرب، في دلالة ساخرة على عبثية الموقف، وكونه فوق الواقع. ولكن لا يمكن لمعماري سوري أن يقتبس من عمارة أوروبية، حين يريد تصميم مباني إحدى الجامعات الحكومية، ليعكس التراث القومي، حتى لو كان ذلك المعماري متغرّبا إلى أقصى حد. بهذا الشكل تصير العمارة فنا هويّاتيا، نظرا لكونه يتمتع بعناصر فريدة، يمكن معها القول إن هذه عمارة فرعونية، وتلك إسلامية-عباسية، أو مملوكية، أو عثمانية، أو كلاسيكية جديدة أوروبية، أو باروكية. هذا بينما لا يمكن في أي فن آخَر أن نقع على تصنيفات فرعية بهذا التفصيل. لا نستطيع عادة، في الشعر مثلا، أن نحدد السمات الفريدة، الواضحة بالنظرة الأولى، التي تجعل من هذه القصيدة “قصيدة عباسية” مثلا. لذلك توجد لدينا “مرحلة” الشعر العباسي في الأدب العربي، ولا توجد قصيدة عباسية. ويمكن بسهولة أن نخلط بين قصيدة من العصر الأموي، وقصيدة من العصر العباسي، ولكن لا يمكن عادة أن نخلط بين مئذنة عباسية، وأخرى مملوكية، أو عثمانية. بمجرد النظر من بعيد إلى مئذنة مسجد أحمد بن طولون بالقاهرة، نعرف كونها مئذنة عباسية، إذا كنا نعرف سمات تلك الأخيرة مسبقا. ويمكنني، لو كنتُ معماريًا، أن أصمم مئذنة عباسية، ولكن لا يمكنني، لو كنت شاعرا، بالبداهة نفسها، أن أكتب قصيدة، يمكن بمجرد النظر الأول تصنيفها قصيدةً من العصر العباسي الأول أو الثاني.

وبهذا الشكل صارت العمارة تعبيرا عن الدولة والثقافة والديانة والشعب، بما يفوق أي فن آخَر. ومن هنا جاءت فكرة الأهرامات مثلا للفراعنة، فقد بُنِيَ الهرم الأكبر ليصير مضادا للزمن، ويقدّر العلماء أن سيستمر، حتى يتلاشَى تماما بعوامل التعرية، ما لم يتم ترميمه بشكل دوري، نحو ستة إلى سبعة ملايين سنة، أي بعد تطوّر البشرية تقريبا إلى فصائل لا نعرفها حاليا.

ولأن العمارة فن هوياتي بطبيعته، يصعب استيراده ليندمج مع العمارة المحلية، بعكس الفنون الأخرى الأكثر مرونة، القابلة للتنوّع بدرجة أكبر بكثير، والقابلة للفناء بالدرجة نفسها، فقد صار المعمار “رمزا” للبقاء حتى بعد الفناء. العمارة ليست فقط فنا خالدا، وفنا تاريخيا، بل هي كذلك فن شبحي، زومبي باصطلاح أدب الرعب، غير ميّت Undead، يعيش بعد الموت، وربما بعد القيامة. وإذا كان الفيلسوف هيجل يرى أن العمارة فن رمزي، لأنها لا تجسّد مضامين محددة، كما يفعل التصوير، والشعر مثلا، بل ترمز بأبراجها، ومآذنها، وأهراماتها إلى “الأعلى”، بوصفه اتجاها، بشكل عام، دون تعيين، فإننا نرى الآن أن العمارة فعلا فن رمزي، ولكنْ على نحوٍ مختلف، فهو رمزا للحظة تاريخية، وتلخيصا لدولة، ودين، وترجمة للتاريخ السائل الشفّاف في صورة مجمَّدة مرئية.

العمارة هي الملجأ الأخير للعرب، في شعورهم الدفين، العميق بقرب النهاية، ولهذا أبدعت العمارة الإسلامية مدارس مختلفات، من أواسط آسيا إلى غرب أوروبا، بدرجة لافتة للنظر من التنوّع القائم تحت مظلّة واحدة. وإن هدم الآثار وتحطيم المعمار في العراق وسوريا، خلال حروب ما بعد الربيع العربي، وإزالة المقابر المملوكية بقلب القاهرة مؤخرا، هي فعلا كذلك: إزالة لقلب المدينة والحضارة المعدّ أصلاً للخلود، واستبداله بقلب صناعي بعد-حداثي إسمنتي، عملي، يخلو من الأسلوب كليةً، وبالتالي لا يعبّر عن هوية، أو لحظة. بهذا يصير المكان وجها بلا ملامح، ويصير التاريخ شلالا جارفا لجميع الأشكال. وهكذا نرى أن الطرفين المتصارعين: أجنحة الإسلام السياسي العسكرية من جهة، ونظم الحكم العربية من جهة ثانية، يشتركان في إزالة الآثار، بناءً على مبدأ ضرورة طمس الحضارة لصالح الحاضر. وهو ما أشعر الجميع بالموت الحضاري، سواء أَنتصرَ هذا الطرف أم ذاك.

لقد اقتربت الساعة، وانشقّت العمارة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.