بدأت ظاهرة غير مألوفة تنمو، فجأة، في بيروت مع مطلع العشرية الأولى من القرن الحالي: لجوء أفراد عرب من “مجتمع الميم” إليها. بدا أن المدينة قادرة على توفير الحماية من الاضطهاد لهؤلاء، وأيضا الحرية “النسبية” في أن يشهروا هويتهم، أو أن يعيشوها بلا خوف تقريبا.

ما توفر لهم في بيروت ليس الحصانة القانونية ولا الحماية الرسمية، إنما وجود مجتمع مديني يعتنق قيم الليبرالية الاجتماعية، قادر أن يحتضن أولئك الهاربين من البطشين الرسمي والأهلي في معظم الدول العربية.

واكب ذلك انتعاش غير مسبوق للناشطين والجمعيات الحقوقية، ومنها جمعية “حلم”، التي أسستها مجموعة من المثليين اللبنانيين، وراحت تنظّم حملات علنية سياسية وثقافية وحقوقية، ساهمت إلى حد كبير في نشر وعي محلي أكثر تسامحا وتقبّلا لمجتمع الميم. وكان رد فعل السلطات غض النظر وحسب، طالما أنها لا تستطيع “التشريع”، بسبب قوة المرجعيات الدينية والطائفية من جهة؛ ولا تستطيع القمع بسبب قوة القوانين المدنية والالتزامات الدولية (حقوق الإنسان) من جهة ثانية. وغض النظر هذا كان كافيا لنجد مثلا حانات خاصة بالمثليين، أو مسرحيات وأفلاما ومعارض فنية، وكتبا (بحثية أو أدبية) مُستلهَمة من قضاياهم. كما أن قسما مؤثرا من الإعلام كان واضحا في الدفاع عن حقوقهم وحريتهم. لقد توفر نقاش علني وفضاء “ديموقراطي”، أتاح في المحصلة بيئة قبول (وليس تسامحا فقط) لمجتمع ميم  بكل ألوانه.

في هذا الوقت أيضا، وعلى نحو مماثل وموازٍ، كان ثمة “ثورة” هادئة محورها حقوق النساء، ومطالبهن التي لا تُعد، والتي يمكن حصرها بثلاث كلمات: المساواة والكرامة والعدالة. كان ذلك عنوانا لورشة هائلة لم تنته بعد. ومن البديهي أنها كانت مؤثرة وملهمة عربيا.

وفي تلك العشرية الأولى، كانت الفضائيات التلفزيونية اللبنانية قد أكملت حقبة من “توليد الصور”، التي مزجت الترفيه والفنون والسياحة والموضة والسياسة العلنية، فجعلت من لبنان وبيروت أرضا للتهويمات بنمط حياة مُشتهى.

هكذا استأنفت بيروت سيرتها (التي لا تخلو من الأسطرة) بوصفها ملجأ للمنفيين العرب، ورصيفا للمختلفين، أرضا للشباب الحالمين، ومدينةً للمغامرات الفردية، عدا كونها مكانا استثنائيا للحريات. معطوف هذا كله على جاذبية سياحية موصوفة.

“الفكرة اللبنانية” وعاصمتها بيروت

أبعد من ذلك، هناك التاريخ المدوّخ للمدينة. عاصمة الحداثة منذ عصر النهضة. المرفأ والمصرف والمطبعة والجامعة. أقانيم مؤسِّسة لبيروت بوصفها جسرا أنيقا للعرب نحو الغرب، وبالعكس أيضا، نموذجا كوزموبوليتيا في قلب الشرق، سبق “العولمة” في الاحتفاء بالتعدد والتنوع.

فمنذ منتصف القرن التاسع عشر، راحت تظهر برجوازية ريفية على أنقاض إقطاع يتفكك، وبرجوازية مدينية تجارية في بيروت خصوصا، عززتهما زراعة (وصناعة) الحرير، والوكالات التجارية والمصارف، التي ستنشأ عنها صلات وشبكة علاقات مباشرة مع الدول الأوروبية، في ظل شبه حكم ذاتي لجبل لبنان في الزمن العثماني. وتلازمت هذه النقلة التاريخية مع انتشار الإرساليات التعليمية، الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية (استجلبت رد فعل عثماني بأن تأسست، برعاية سلطانية أيضا، مدارس ومعاهد تعليمية في بيروت وطرابلس وصيدا)، في تنافس محموم كان من نتائجه الباهرة مثلا الجامعة الأميركية في بيروت 1866، وجامعة القديس يوسف (اليسوعية) 1875. بين التجارة والصناعة الزراعية والمصارف والتعليم الحديث، في لحظة استثنائية سُميت “عصر النهضة”، بكل ما أتت به من قطيعة مع الزمن السلطاني ودخول في العصر الحديث، راحت تنمو كتلة مدينية تعتنق قيما ليبرالية، ستترجم نفسها أولا في مطلب الاستقلال الوطني، وبحياة سياسية دستورية وحقوقية، وبنظام ديموقراطي برلماني، وباقتصاد السوق الحرّ.

ذلك لم يخلُ من تباين في استعداد الجماعات الأهلية للسير في “دولة لبنان الكبير”. لكن ميزة الإقرار بهذا التباين وتكريسه في ميثاق الدولة وفي الحياة السياسية العامة، جنّب لبنان مصير دول مجاورة، علقت في أنماط استبدادية خانقة، من غير أن يجنّبه في الوقت نفسه  انفجار تناقضاته (غالبا بعوامل خارجية)، كما شهدنا في حروبه الطويلة.

مع ذلك، ومن دروس تلك الحروب بالذات، بدت “الفكرة اللبنانية” أكثر جاذبية بما لا يقاس من الأيديولوجيات النقيضة، التي تحكم مصائر البلاد المجاورة. وعليه، جاءت حقبة ما بعد الحرب “ترميما” وإعادة بناء للنموذج نفسه، إنما وفق عوامل مستجدة، أبرزها انحراف الاقتصاد نحو النظام الريعي، وإلى نيوليبرالية مشوهة محليا بما قد نسميه مافيا أمراء الحرب، الذين غنموا السلطة. مضافا إلى ذلك، صعود “الشيعية السياسية” المسلّحة، التي تضمر أدبيات احتقار للفكرة اللبنانية من أساسها. والتي ستلعب دورا حاسما فيما بعد بتقويض كل شيء.

بين مطلع التسعينات ونهاية العشرية الأولى، استعاد لبنان واحدة من أفضل ميزاته: الطبقة الوسطى العريضة، بوصفها الطبقة المهيمنة. وربما كان هذا ميزة بلدين عربيين فقط: تونس ولبنان. وهذا مصدر اختلافهما عن سائر الدول العربية. وهي الطبقة التي تحمل القيم الأساسية التي منحت لبنان لونه ونكهته و”طليعيته”.

وصل مشروع ترميم لبنان إلى مأزق تناقضاته وعيوبه، التي أشرنا إليها، عند محطتين بالغتي العنف: اغتيال رفيق الحريري، بوصفه رمزا ومحركا ومهندسا لذاك “اللبنان” عام 2005، ثم “غزو بيروت” عام 2008 من  قبل الميليشيات الشيعية. منذ ذلك الحين وحتى العام 2016 (تاريخ تولي ميشال عون رئاسة الجمهورية) كانت مقاومة الانهيار تضعف شيئا فشيئا. ثم توالت بسرعة فائقة التحولات التي ستطيح بالفكرة اللبنانية، سياسة وثقافة واقتصادا واجتماعا.

فما الذي حدث؟

البلد الخطر والمعادي

ما بين 2005 سنة الانتفاضة المدنية الديموقراطية في لبنان، و2011 سنة الثورات العربية، كان واضحا أن حراكا تاريخيا يحدث في الخريطة العربية. حدث هذا بالضبط بمواجهة ثلاثة مشاريع كبرى: التوسع الامبراطوري الإيراني؛ الإسلامية الجهادية؛ “النهوض” الخليجي الهائل.

ثلاثة مشاريع متصادمة ومتعادية لكنها بالتأكيد مضادة تماما لما سيُسمى مشروع “الربيع العربي”. وستنجح إلى أقصى الحدود في إحباطه.

في بيروت، عنى هذا انكسارا نهائيا لفكرتي الاستقلال والديموقراطية. وأول ترجمة فعلية له كانت في نهايات عام 2015، حين بدأت المدينة تطرد على نحو قاهر مئات المثقفين والناشطين والإعلاميين السوريين اللاجئين إليها، كذلك النخبة الاقتصادية والاجتماعية السورية، التي وجدت في بيروت ملجأها. وكأن السلطات اللبنانية منصاعة تماما لإرادة حزب الله، الذي شارك بفعالية في الحرب السورية. لقد تمت تغذية المشاعر البدائية العنصرية على نحو ممنهج، ليس فقط ضد السوريين، إنما أيضا ضد العرب، فيما بدأت تتغلب خطابات معاداة الغرب على اللغة والأفكار المتداولة. وفي مناخات مثل هذه، تفاقمت “المخاوف” الطائفية واستعرّت النعرات المذهبية، مما سهل أكثر إلحاق لبنان بالمحور الإيراني، على نحو فجّ وعنيف، تماما كما حدث في العراق وغيره.

أفضى هذا إلى نفور عربي رسمي وشعبي من لبنان، وتحولت صورته بسرعة مذهلة إلى بلد خطر ومعادٍ.

“عاصمة الحرية” التي لا يحتاجها أحد

بعد العام 2016، دخل لبنان في عزلة عربية ودولية خانقة، فيما ثبت فشل النظام اللبناني وتعفنه على نحو لا رجاء فيه. ما عاد “نموذجا” لأحد. أما الكتلة المدنية التي كانت دوما صانعة الرأي العام، وصانعة المدينة ومظاهرها، فقد تمرّدت على نحو يائس عام 2019، كآخر محاولة لإنقاذ ما تبقى. وتضافرت مع هزيمتها انهيارات متتالية في الاقتصاد والأمن والقضاء والمؤسسات السياسية، انتهت إلى إفقار واسع النطاق، وخراب المنظومات التعليمية والصحية والبيئية والهياكل الاجتماعية وركائز الحياة المدنية. أما انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020، فكان تتويجا للكارثة، مشهدا أبوكاليبسيا يتناسب تماما مع فكرة “موت بيروت”.

بالطبع، حدث كل هذا، طوال وقت كانت بيروت تتأخر عاما بعد عام عن جريان العالم وتحولاته، بالمعنى المادي والعمراني. فمن دبي إلى طنجة، ومن اسطنبول إلى برشلونة، كانت المدن تسارع في ملاقاة التكنولوجيا، وأنواع جديدة من الاقتصادات والخدمات والاقتراحات العمرانية والثقافية، والأفكار الكبرى وشروط العيش وتحديثات البنى التحتية. في حين أن العاصمة اللبنانية كانت تقبع في الظلام بالمعنى الحرفي: لا كهرباء ولا خدمات انترنت موثوقة، ولا مياه نظيفة.

بمعنى آخر، لم تعد بيروت جسرا أو مرفأ أو مصرفا أو جامعة أو مطبعة (أو تلفزيونا وجريدة) لأحد. ما عاد أحدٌ بحاجة إليها. بل إنها هي نفسها ما عادت تجيد هذه الوظيفة. الاقتراح الوحيد الذي تستطيع تصديره: نموذج حزب الله “الممتاز” (وما يضمره من حروب أهلية وتقويض دول). فمن يرغب به؟

أما أولئك الذين أتوا المدينة في مطالع العشرية الأولى، ولاحقاً نخبة المهزومين بالربيع العربي، وما شابههم، فما عاد أحد منهم هنا.

هناك مدن تموت. وبيروت ماتت. لا أحد الآن لديه الفضول تجاهها إلا بالمعنى الأركيولوجي، أو بدافع نوستالجيا غير خلّاقة. ربما بالفعل باتت بيروت عاصمة للإلغاء العربي، بكل فصوله القديمة والمستحدثة، وذلك لأنها ألغت نفسها أولا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.