وطن وبراميل: لماذا يثير المنتخب السوري “حرباً أهلية مصغّرة”؟

وطن وبراميل: لماذا يثير المنتخب السوري “حرباً أهلية مصغّرة”؟

خسر المنتخب السوري، المصنّف في المركز الحادي والتسعين في الاتحاد الدولي لكرة القدم، في آخر أربع مباريات له مع الفريق الإيراني، الذي يحتل المركز الحادي والعشرين، وتعادل معه في المباراة الخامسة. وفي يوم الأربعاء، الحادي والثلاثين من كانون الثاني/ديسمبر، سيلتقي المنتخب السوري بإيران في الدور الثمن نهائي لكأس آسيا، على ملعب عبد الله بن خليفة في الدوحة.  كل ما في العبارات السابقة يبدو سياسيا لدرجة لافتة.

هذه هي المرة الأولى، التي يتأهل فيها المنتخب السوري إلى دور الستة عشر في كأس آسيا؛ وذلك بعد خسارته أمام أستراليا، وتعادله مع أوزبكستان، وفوزه على منتخب الهند. ورغم هذا الإنجاز الرياضي، فلا يبدو أن الفريق يحقق الحد الأدنى من الإجماع، فقد سبب دائما إشكالات سياسية، وكان سببا لاتهام الفيفا بتبنّي رواية النظام السوري، والموافقة على إجراءاته القمعية، التي يجيد إقحام الرياضة فيها؛ كما يؤدي تشجيع الفريق لخلافات دائمة بين السوريين، وصلت إلى الاتهام بالخيانة و”التشبيح”.

يصف الكاتب الاميركي ستيف فينارو، الخلاف حول المنتخب السوري بأنه “حرب أهلية مصغّرة”، تدور من أجل “روح الرياضة والوطنية”. إذ يسمّي البعض هذا المنتخب بـ”منتخب النظام” أو “منتخب البراميل”؛ بينما يعتبره آخرون فريقا لكرة القدم السورية، بعيدا عن السياسية. ومؤخرا، ظهرت آراء، تدعم فكرة أن هذا الفريق مكوّن من أبناء سوريا، بغض النظر عن أن النظام يستغلّهم سياسيا، ويجبرهم على رفع صورة رئيسه، لأن هذا الفريق يمثّل سوريا، وما سيكتبه التاريخ عنها. ولكن ما الذي يكتب في التاريخ فعلا؟

بحسب مجلة ESPN فإن نظام الأسد هو من “أقحم كرة القدم ضمن حملة القمع المروّعة، التي يشنها ضد شعبه”، وهو المسؤول عن اعتقال وتعذيب وقتل ما لا يقل عن 38 لاعبا رياضيا من الدرجة الأولى، وعشرات اللاعبين من درجات أقل، فضلا عن اختفاء 13 لاعبا. وتحدّثت تقارير عن أن ملاعب دمشق وحلب، وعدة مدن سورية أخرى، تحوّلت إلى مراكز اعتقال تعسفي، وحتى إلى قواعد لإطلاق الصواريخ، مثل ملعب العباسيين في دمشق. إضافة إلى أن أعضاء الفرق الرياضية كانوا مجبرين على الخروج في مسيرات مؤيدة لبشار الأسد، وارتداء قمصان تحمل صورته، إذ يبدو أن النظام أراد استغلالهم لتبييض صورته، كي يظهر بهيئة راعي الفن والرياضة، في مقابل المعارضة الإرهابية المتطرّفة دينيا. وفي الوقت الذي يستخدم فيه النظام المنتخب السوري لتبييض صفحته، يعاني الفريق من الإفلاس والإهمال، حتى على مستوى وجبات الطعام التي تقدم له خلال تنقّلاته، وصولا إلى إجبار لاعبيه على نقل بضائع إلى سوريا خلال جولاتهم.

زاد من احتدام الخلاف بين السوريين، ظهور لاعبي المنتخب في تسجيل مصوّر، يحتفلون فيه بتأهّلهم للدور الثاني من أمم آسيا، وهم يهتفون: “بالروح بالدم نفديك يا بشار”، ما اعتُبر دليلا قاطعا على أن هذا الفوز لا يمثّل سوريا والسوريين، وإنما سوريا بشار الأسد فقط، الذي سوف يستخدم الفوز بوصفه إعلان نصر لنفسه وسياساته، وهذا كان منذ البداية أحد أهم  الأسباب، التي جعلت عديدا من معارضي النظام السوري، يرفضون ربط المنتخب السوري بسوريا، فعندما يهتف لاعب باسم بشار، أو قائد أي ميليشيا آخر، بعد أكثر من اثني عشر عاما من الحرب الأهلية، فهو يمارس فعليا نوعا من العنف ضد ضحايا تلك الحرب.

نجم المنتخب السوري السابق مروان منى، اعتبر أن “الإدارات الرياضية السورية كانت تصرّ على إهداء أي فوز لحافظ الأسد، الأمر الذي استمر في عهد بشار. الهتاف كان إجباريا… الإدارات الرياضية عبارة عن أجهزة أمنية”.

رغم كل هذا يبقى سؤال الرياضة والسياسة بحاجة لمزيد من التمحيص، بالتأكيد ليس كل السوريين، الذين يتعاطفون مع المنتخب، من مؤيدي الأسد وجرائمه؛ كما أن كثيرين يريدون أن يروا أي شيء “سوري” فعلا في هذا العالم، مغاير للصور التي ألفوها عن الحرب والشتات، وقد يكون حضور “مشرّف” لفريق سوري في كأس آسيا مناسبة لذلك، حتى لو آلمهم ارتباطه بصور ورموز النظام. ولكن هل السوريون قادرون على إنتاج أي كيان “سوري”، يحقق الحد الأدنى من الإجماع المعنوي أو العاطفي؟ ولماذا تبدو “الكيانات السورية” المعاصرة مرعبة، ومثيرة لـ”الحروب الأهلية المصغّرة” دائما؟    

الهوية الرياضية: هل يقدم المنتخب تعويضا عن وطن ضائع؟

تسهم الرياضة في خلق الهوية الوطنية بكل تأكيد، وتعتبر عنصرا مهما من عناصرها، وهذا ما يتفق عليه كل علماء اجتماع ومؤرخي الرياضة. كما يرى عدد من الباحثين أن استخدام الرياضة، في إطار تنافسي صحي، قد يساهم في إعادة استخدام الرموز الوطنية بطريقة إيجابية. في مقال لها بعنوان “الرياضة: الروابط المعقدة بين المواطنة والرياضة والهوية الوطنية”. تقول الكاتبة والأستاذة الجامعية جيلينا دزانكيت: “تصبح الرياضة حافزا للهوية الوطنية والفخر والثقافة والرموز، وتغرس الشعور بالانتماء للمجتمع في الدولة”، فالألعاب الأولمبية مثلا تمثّل “مزيجا من القومية والأممية والرياضة والدراما الإنسانية، إلى جانب أنها تضع الحياة السياسية للشعوب تحت المجهر”، ومن هنا تأتي أهميتها “لأنها لا تساعد فقط في فهم بناء الأمم، بل أيضا فهم أنظمة المواطنة المتغّيرة”.

إلا أن الحذر ما يزال سائدا حول علاقة الرياضة بالسلطة والقومية والأيديولوجيا، إذ تؤكد دزانكيت أن “دعم وحضور الأحداث الرياضية، يجعلان الناس يعززون أبعاد الهوية الوطنية، ويؤكدون على ارتباط الفرد بنظامه السياسي. وهذه الأحداث الرياضية تخلق شعورا بالانتماء على المستوى المحلي، أما على المستوى الدولي فتسهم في تمييز هوية بلد معين، ووحدة مجتمعه داخليا، والشعور بالنجاح على الساحة الدولية. ما يتم اعتباره في بعض الحالات نجاحا تعويضيا عن الأداء السياسي السيء والاقتصاد الضعيف”.

لا يبدو أي من هذه الوظائف متحققا في الحالة السورية، إذ لا يساعد المنتخب في تعزيز هوية وطنية؛ أو زيادة الارتباط بالنظام السياسي؛ كما أن تمييزه لـ”الهوية السورية” لا يبدو إيجابيا على الإطلاق، ولا يساعد حتى في تقديم صورة تعويضية عن وطن ضائع، إذ يظهر عجزا عن تقديم أي رمز جامع. حتى العلم الذي يرفعه، وألوانه، مختلف عليها من قبل السوريين.

يمكن بالفعل أن يقدّم انتصار الفريق لسوريي الداخل بعض التعويض، عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة، إذ قد تشعر فئات منهم بالقدرة على تحقيق إنجاز ما، وسط ظروف بالغة القسوة، ولكن غالبا سيتبدد هذا الشعور بسرعة.

علق أحد مستخدمي “فيسبوك”، على المباراة المرتقبة بين المنتخبين الإيراني والسوري، بالقول: “الإيرانيين أكلوهم عالأرض، ورح ياكلوهم بالملعب”، وقد يكون هذا صحيحا إلى حد ما، إذ من المتوقّع أن يفوز المنتخب الإيراني بهذه المباراة، بالنظر إلى الفرق بين قدرات الفريقين. وحتى لو انتصر السوريون، لا يمكن الفرح كثيرا في سوريا بخسارة إيران.

السلام والاحتجاج: سوريا ليست ساحل العاج!

عندما تأهّل فريق ساحل العاج  لنهائيات بطولة كأس العالم 2006، كانت البلاد مبتلاة بحرب أهلية، اندلعت في التاسع عشر من أيلول/سبتمبر 2002، وقسّمت البلاد. فحكومة الرئيس لوران غباغبو كانت تسيطر على الجنوب، بينما سيطرت حركة تمرّد، تدعى “قوات ساحل العاج الجديدة”، على الشمال.

كان القتال ضاريا، ولكن قصير الأمد. وانتهى تقريبا في عام 2004، ولكن التوترات بين الجانبين عادت للظهور في 2005.

بعد التأهل، ألقى ديدييه دروغبا، هدّاف المنتخب التاريخي وقائده السابق، خطبة وسط زملائه، قال فيها: “يا رجال ونساء ساحل العاج، في الشمال والجنوب والوسط والغرب، أثبتنا اليوم أن بإمكان العاجيين أن يتعايشوا في سبيل هدف مشترك، ألا وهو التأهّل لكأس العالم. وعدناكم بأن الاحتفالات ستوحّد الشعب. واليوم نلتمسكم: يجب ألا ينحدر بلدنا الإفريقي الغني إلى الحرب. أرجوكم، ألقوا أسلحتكم، وأجروا انتخابات“.

يمكن اعتبار فريق ساحل العاج مثالا مهما على دور الرياضة في إعادة بناء الهوية الوطنية، فقد تصرّف اللاعبون بنوع من المسؤولية، لنشر رسالة سلام بين مواطنيهم. لم يعتزلوا السياسة، أو يدّعوا حيادا غير مقنع. كانوا منحازين جدا، ولكن انحيازهم لم يكن لمصلحة طرف ما، وإنما لمصلحة إعادة بناء الهوية والكيان الوطني.

بالطبع، لا يمكن للاعبين السوريين أن يلقوا خطبا شبيهة بخطبة دروغبا، فهذا قد يكلّفهم حياتهم، ولكن هنالك أمثلة أخرى، عن رياضيين لم يكونوا يستطيعون الكلام أصلا، إلا أنهم رفضوا أن يتورّطوا، بأي شكل من الأشكال، في دعم طرف يمزّق هوية بلادهم. والغريب أن المثال الأبرز هو إيران، داعمة النظام السوري الأساسية. فأثناء مونديال قطر عام 2022، شهد البلد احتجاجات عنيفة، على خلفية مقتل الفتاة الإيرانية مهسا أميني، على يد شرطة الأخلاق التابعة للنظام الإسلامي. اللاعبون الإيرانيون لم يسعوا لأن يكونوا جزءا من الاحتجاجات، ولم يتصرّفوا بوصفهم مناضلين، ولكنهم بكل بساطة رفضوا أداء النشيد الوطني الإيراني، في مباراة منتخبهم الافتتاحية، وهو ما اعتُبر احتجاجا مُعبّرا، لفت أنظار العالم كله. ما معنى أن تمجّد وطنك، إذا كان أهله يموتون ويعتقلون على يد أطراف “وطنية”؟   

من جديد، قد لا يستطيع لاعبو المنتخب السوري حتى أن يحتجوا سلبيا؛ ولكن هل هم مجبرون على الهتاف لرأس النظام؟ وحتى لو كانوا مجبرين، ألا يستطيعون فعلها بحماس أقل، وبطريقة تظهر أنهم مجبرون؟

أيا كانت الدوافع، فيبدو أن هنالك عطالة في أي نمط من الكيانية السورية، تمنع ممثليها من التعاطي مع الظروف والمعطيات بشكل خلّاق، أو محاولة تحقيق أي تواصل، عابر لذاتية سياسية شديدة المحدودية. قد يمكن تفهّم انحياز أي سوري في بدايات الحرب الأهلية، ولكن بعد اثني عشر عاما، يبدو الهتاف لأي طرف غريبا وعبثيا.

ليست سوريا ساحل العاج، ولا حتى إيران، إذ يبدو أن ذلك “الكيان الوطني” لا يمكن استعادته أساسا.

أبناء سوريا: هل يمكننا التعاطف مع إخوة الدم والأرض؟

الفريق مكوّن من أبناء سوريا”، وهي مقولة صحيحة بالتأكيد، ولكننا نشهد هنا ظاهرة غريبة، وهي أن فريقا مكونا من أفراد متجانسين ثقافيا ولغويا وعرقيا، لا يستطيع أن يعبّر عن “سوريا”. لدى المقارنة بحالة دول أخرى، مثل فرنسا وقطر وانجلترا، نجد أن هذه الفِرَق، التي تحوي خليطا عرقيا ودينيا، وعددا من المُجنّسين، قادرة على تحقيق “وحدة” أكبر من الفريق السوري. بالطبع يوجد كثير من التوتر حول تلك المنتخبات، خاصة الفرنسي، إلا أنه استطاع خلق نوع من التوحّد حول قيم معيّنة، تعني شريحة كبيرة من الفرنسيين، ومنها رفض العنصرية، واندماج الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين، ولفت الأنظار لنجاحات سياسة تنمية الضواحي الفرنسية، في تنشئة لاعبين هم من الأفضل عالميا. ما يُذكّر به المنتخب السوري دائما، ولا يستطيع أحد طرده من مخيلته، هو الحرب الأهلية والنظام الحاكم.

ربما لا يكفي أن تكون “ابن البلد” كي تنتج كيانا جامعا، إذ أن الإجماع ليس مقولة طبيعة، تنبع من الأرض أو العرق أو اللغة، بل تتطلّب جهدا سياسيا وفكريا واجتماعيا، وهو جهد لا يسعى المنتخب السوري لبذله، حتى على مستوى شكلي، بل يبدو أنه أحرص على تكريس خطاب الحرب التي لا تنتهي.

“أبناء سوريا” لم يعودوا كذلك تماما، فهم مقسّمون بين عدة مناطق نفوذ في الخريطة السورية؛ وتمازجوا مع مجتمعات دول أخرى في الشتات، ولذلك فإن مقولة “الأبناء” تترك انطباعا غير مريح، بدل الانطباع العاطفي، الذي من المفترض أن تثيره.

لا ندري إن كانت “سوريا” ستعود يوما، ولكن بالتأكيد، فإن “الكيانات السورية” الحالية ما تزال قائمة على نسق المنظومة نفسها، التي ولّدت الحرب الأهلية، ولذلك فمن الطبيعي أن يشعل المنتخب السوري “حربا أهلية مصغّرة”. وسواء وَصَفتَهُ بـ”المنتخب الوطني” أو “منتخب البراميل”، فهذا لن يغيّر شيئا من طابعه: مظهر آخر من مظاهر الحرب الأهلية السورية، بعد أن انحدرت وتحلّلت وفقدت المعنى إلى أقصى الحدود.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.8 6 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات