“كراهية الرجال”: هل تنفع الأفعال “الانتحارية” في مقاومة النظام الأبوي؟

“كراهية الرجال”: هل تنفع الأفعال “الانتحارية” في مقاومة النظام الأبوي؟

تلقّى عدد من المهاجرين العرب في ألمانيا، ممن يصنّفون “ليبراليين”، دعوة إلى حفلة، نظّمتها امرأة عربية شابة في برلين. كان شرط الحضور أن يرتدي الذكور ملابس نسائية حصرا. وبالفعل، لبّوا الدعوة، دون اعتراض يُذكر، وحضروا الحفلة مرتدين تلك الملابس، بل واستعمل بعضهم مواد تجميل. قبلها، في العاصمة النمساوية فيينا، قامت امرأة شابة نمساوية بدعوة أصدقائها إلى حفلة باذخة، وكان شرط دخول الذكور إليها أن يكونوا عراة، وأن يقوموا بأداء دور النادلين، ليلبوا طلبات الإناث في الشراب والطعام، بل أن يلعبوا دور الكراسي والطاولات عند الحاجة.

ليست الحفلتان المذكورتان في إطار ممارسات BDSM، أي الأفعال الجنسية القائمة على الإيلام والسيطرة والتقييد، والتي قد تأخذ أحيانا صيغة هيمنة النساء Femdom، وهو ميل جنسي معروف، يهواه عدد من الناس، وإنما نوع من التطبيق لأيديولوجيات “نزع الهيمنة الذكورية”، بهدف “قلب هرم السلطة”، والانتقام من النظام الأبوي. وبالطبع لا يمكن اعتبار مثل هذه الاحتفالات تيارا رئيسيا mainstream في الثقافة “التقدمية” السائدة، وإنما تعبيرا متطرفا extream، ولكنّه لم يعد نادرا.

 قد يسارع البعض إلى الاحتجاج، واعتبار هذا النمط من الأفكار والدعوات دليلا على الحال الكارثي الذي وصلت إليه المجتمعات، بسبب سيطرة أفكار النسوية، وغيرها من أيديولوجيات “الووك”، لكن هذا الجزع قد لا يكون مبرّرا أو دقيقا، فعند التأمّل في ميزان القوى بين الرجال والنساء، قد نفهم تماما سبب عدم اكتراث بعض الذكور بمعنى هكذا أحداث، وحضورهم لها عن طيب خاطر، وكأنها مجرد نكتة. فهم لا يأخذونها على محمل الجد، وغالبا يرونها جزءا من موضة لا بد من مسايرتها. على أرض الواقع لا ينقلب شيء في “هرم السلطة”، إلا في أوساط محدودة من “أصحاب الامتياز”، الذين يصرخون يوميا ضد “الامتياز”.

بعد سنوات من النضال النسوي، ما تزال النساء في معظم المجتمعات، خاصةً العربية منها، لا يحصلن على حقوق مساوية للرجال. تواجه المدافعات عن حقوق النساء تحديات كبيرة، في مجتمعات مليئة بالتطرّف، والحروب، والقتل العرقي، وانتهاك الإناث؛ ويلاقين صعوبات في التعامل مع صنَّاع السياسات، والتقاليد الاجتماعية والدينية، للاعتراف بالحقوق الأساسية، التي قد لا تبدأ بالتعليم ولا تنتهي بالحرية الجنسية، ففي صدارتها ومنتهاها حق الحياة والسلامة الجسدية نفسيها. وحتى في الدول الغربية، ما تزال النقاشات جارية، وأمام الحركات النسوية الغربية مهام كثيرة.

لا بد من طرح عدة أسئلة سياسية وأخلاقية، حول ذلك النمط من التصرفات “النسوية” المذكور أعلاه: كيف يمكن بناء مجتمع متضامن، والمضي قدما في السعي إلى المساواة، إذا كانت السلطة و”أهراماتها” هي المحرك والهدف الأساسي في المجتمع؟ بمعنى آخر، هل يمكننا تحقيق المساواة، التي نحلم بها مع الرجال، إذا اعتمدنا نفس أساليب الهيمنة التي نسعى إلى التخلّص منها؟ وهل التصرفات القائمة على “تفجير” الحقد التاريخي والاجتماعي ستنفع المسألة النسوية؟

نحيب الذكور: هل “كراهية الرجال” خرافة؟

تقول  الكاتبة والنسوية الفرنسية بولين هارمانج، في نص بعنوان  “أنا أكره الرجال”، إن كل الوقت الذي يقضيه الرجال في النحيب، حول مدى صعوبة أن يكونوا رجالا مُضطَهَدين، هو فعليا وسيلة بارعة لتجنّب المسؤوليات؛ والعمل على تحسين مظهرهم، بوصفهم ممثلين للهيمنة الذكورية. وهو ما علّقت عليه الصحفية البريطانية لوري بيني، في كتابها “الثورة الجنسية”، بالقول: “هذا  النحيب يستند إلى افتراض، يتسرّب من مسام الثقافة الأبوية كلها، وهو أنه من المتوقّع من النساء أن يتحملنّ الألم والخوف والإحباط،  لكن الألم الذكوري، على عكس ذلك، لا يُحتمل”. ومع ذلك تحرص بيني على التمييز بين كراهية الذكورية وكراهية الرجال.

“كراهية الرجال” Misandry ليست مصطلحا رائجا، من حيث الاستخدام أو المعنى، على عكس مصطلح كراهية النساء Misogyny. وقد رفض عديد من علماء الاجتماع والباحثين، وبعض علماء النوع الاجتماعي (الجندر) المقارنة بين الحالتين، لأن “كراهية الرجال” ليست مؤسَّسة ثقافيا، ولا تتساوى في نطاقها وتأثيرها وخطورتها على المجتمع مع كراهية النساء. وفي الوقت عينه هنالك من يعتبرن “كراهية الرجال” مبررة،  في معرض معارضتهن لكراهية النساء، ويرين أن الكراهية المُستهدِفة للذكور رد فعل، ربما مبرر، للاضطهاد الذكوري.

قد يتساءل البعض: إلى أين نريد الوصول، إذا كان سعينا نحن النساء والرجال، في كثير من الحالات، هو مجرد الانتصار في معركة كراهية، ننقل فيها السلاح من يد الرجال الى النساء، أو العكس، بدلا من البحث عن طرق يكون القانون والاحترام والمحبة محركات التغيير الأساسية؟ فلنحاول إذن الابتعاد عن الآراء، التي قد تعتبر متطرّفة، ولنبحث عن غيرها.

 يقول عالم الاجتماع الكندي أنتوني سينوت، مؤلف كتاب “الجسد الاجتماعي: الرمزية والذات والمجتمع”: “فكرتي كلها هي محاولة تحقيق التوازن بين الأمور. إذا كنت تفكّر في النساء بوصفهن ضحايا، فكر في الرجال أيضا بوصفهم ضحايا؛ إذا كنت تفكر في النساء بوصفهن بطلات، فكر في الرجال بالطريقة نفسها؛ إذا كنت تفكّر في الرجال بوصفهم أشرارا وقمعيين، فلتنظر إلى عدد قليل من النساء الشريرات”. ويضيف سينوت: “لقد تم تعويض التمييز الجنسي الذكوري القديم وكراهية النساء، جزئيا، بمواقف المساواة، ولكن أيضا بتمييز جنسي جديد”.

لكن هل هذا النوع من الصيغ الجاهزة يحقق التوازن الذي يريده سينوت؟

“ثقافة الحب”: إلى أين نمضي بعد فشل التوصل؟

تحدّثت الكاتبة والبروفيسورة النسوية الأميركية بيل هوكس كثيرا عن “ثقافة الحب المجتمعي”، أي الحب الذي لا يمكن أن ينشأ إلا بين الأنداد، ولا وجود له في سياق الهيمنة. مؤكدةً أن الأفراد لا يمكن أن يتغيّروا، ويغيروا المجتمع حولهم، إلا إذا تعلّموا التواصل الصادق والمفتوح، الذي لا يمكن أن يكون إلا عبر الرعاية والاحترام والالتزام والثقة، فحياتنا لن تتغير إلا بجعل أخلاقيات الحب أولوية: “لا أعرف أحدا اعتنق أخلاقيات الحب ولم تصبح حياته سعيدة، وأكثر إشباعا”.

لم تقصد هوكس بالضرورة الحب في صورته الرومانسية بين الرجل والمرأة، بل كثيرا ما كرّرت أننا جميعا نبحث عن الحب، ولكن أيضا نخاف من بعضنا، وهذا الخوف تكرّسه ثقافات الهيمنة، لضمان الطاعة، على الرغم من أن خيار الحب برأيها “هو خيار التواصل، لنجد أنفسنا في الآخر… لا يمكن أن توجد السيطرة في أي موقف اجتماعي تسود فيه أخلاقيات الحب. إذا تم إنشاء كل السياسة العامة بروح المحبة، فلن يكون لدينا ما يدعو للقلق، بشأن البطالة أو التشرّد، أو فشل المدارس في تعليم الأطفال، أو الإدمان”.

قد يبدو كلام هوكس عن “الحب” عاطفيا أكثر من اللازم، إلا أنه قد يكون مبنيا على ملاحظات من خارج الثنائية التقليدية حول رجل/امراة، عبّرت عنها بجرأة، فقد أشارت مثلا إلى العلاقات المثلية، التي تسودها سياسات الهيمنة نفسها، الموجودة في العلاقات الغيرية؛ وإلى النساء المتواطئات مع الأبوية، إما عبر قمع نساء أخريات، أو في تثبيط الرجال عند التعبير عن ضعفهم؛ وتحدّثت في كتابها “الشراكة: البحث الأنثوي عن الحب”، عن دحض الفكرة السائدة حول البيولوجيا، بوصفها قدرا، والحب الغريزي، الذي يُقال عادة أنه مزروع في النساء، ضاربة أمثلة كثيرة عن بعض الأمهات المسيئات، تماما كما بعض الآباء المسيئين. وإلى الحروب التدميرية بين بعض النساء المتنافسات. حتى خارج “هرم السلطة” التقليدي يبدو أن غياب الحب يدمرنا!

تلاحظ هوكس أيضا، في مقالها “نحو ثورة الحب”، أن عديدا من الباحثين الغربيين ابتعدوا عن محاولات التغيير الاجتماعي، وركزوا على العلاقات الفردية والحميمية، لأنهم يأسوا من خلق ثقافة السلام والعدالة، فاتجهوا إلى المعارك الصغيرة على الصعيد الشخصي.

 تقودنا هذه الملاحظة، في ظروفنا الحالية، إلى سؤال مهم: كيف يمكن أن نأمل بسلام عالمي، ونحن لا نستطيع حتى تحقيق السلام في علاقاتنا الحميمة، مع العائلة والشركاء والأصدقاء والجيران؟

تبسيط السلطة: هل ردود أفعالنا “السامة” مبرّرة؟

“عندما تقاوم النساء امتيازات الذكور، وتخلقنّ مساحات لهن، وترفعنّ قبضاتهنّ لتحطيم النظام الأبوي، فإن هذا لا يعتبر تمييزا على أساس الجنس. إنه رد على التحيز الجنسي”. تقول الكاتبة النسوية سارة بيكر،  لكن هل يستدعي تحطيم الأبوية، أن نحطّم الرجل بوصفه إنسانا؟ وأن نحطّم علاقاتنا الإنسانية؟

يذكّر هذا بميل كثير من الناشطين الحاليين، لتبرير عدد من التصرفات المدمّرة والعنيفة، بل حتى الدموية، بوصفها ردات فعل حتمية على واقع ظالم، دون أي استعداد لتحليل تلك التصرفات، أو دراسة جدواها، أو حتى رفض لا أخلاقيتها، وكأن كل ما يفعله المظلوم حق مبرر، لمجرد أنه مظلوم. فضلا عن أنه في بؤرة هذا النوع من الأفكار نقطة عمياء شديدة الاتساع، فهو لا يرى علاقات القوة والسلطة، في الطرف الذي يُعتبر مظلوما، ويتجاهل بنى ومنظومات القمع التي قد يبنيها، أو يكون مستفيدا منها، وكأن السلطة ظاهرة شديدة البساطة والتسطيح، ولا تمضي إلا باتجاه واحد.  

غالبية الرجال، كما تؤكد معظم الناشطات النسويات، متواطئون لإدامة الأبوية، لأنهم مستفيدون من السلطة التي تُمنح لهم. ومع ذلك، بعضهم أصدقاء، وعشاق، وآباءٌ محبون، ومعيلون. ربما لا يمكننا القضاء على الأبوية فقط عبر “ثقافة الحب”، التي تقترحها هوكس، فبدون القانون، وخلق منظومة عدالة اجتماعية، يغدو كل هذا مجرد إنشاء لغوي، لكن بالتأكيد أيضا لن نتمكن من القضاء على الأبوية من خلال ثقافة كراهية مضادة؛ والغرق في المناكفات الصغيرة، المتعلّقة بوجودنا الفردي؛ وإغراق علاقاتنا الشخصية بثرثرة ناصحيين نفسيين، حول “العلاقات السامة” و”الأشخاص النرجسيين”، وتشجيع الناس على الانعزال الفردي، والهرب من حل المشكلات.

الناصحون النفسيون، غير المؤهلين أكاديميا، أو المهتمين بالترويج التجاري لأنفسهم، يسهمون فعلا في تصاعد الصراعات والخلاف بين البشر، بدلا من متابعة حياتهم معا بالحد الأدنى من السلام. كما أن ثقافة “النصح الذاتي” التي يروجونها، تجعل البشر يدورون دوما حول ذواتهم، وتحدّ من قدراتهم على أن يكونوا فاعلين اجتماعيين. وفي ظل تعقيد المعارك الحالية، من أجل الحقوق السياسية، ومن ضمنها حقوق النساء، وبروز أشكال متعددة من التطرف، وتصاعد الحروب حول العالم، فإن هذا الدوران حول الذات ربما لن يكون من مصلحة النساء، لأنه يعزلهن فعليا عما يجري، ويجعل الناشطات منهن يعشن في فقاعات مغلقة، مليئة بالصراخ حول “سميّة” الآخر، الذي قد يكون التفاهم معه ضروريا في الشرط الصعب الذي نعيشه، خاصة أن النساء عادة هن أولى ضحايا المتطرفين وأنصار الحروب.

بالعودة لهوكس، فقد اعتبرت أن استبعاد الرجال من الحركة النسوية، أو التعامل معهم بوصفهم أعداء، من قبل بعض النسويات، من شأنه أن يضعف الحركة النسوية. بينما حمّلت الثقافة الأبوية مسؤولية قمع الإناث والذكور معا، لأنها زرعت فيهم الاعتقاد بأن الهيمنة هي الوسيلة الوحيدة للبقاء. وبهذا المعنى يمكننا أن نرى دعوتها لـ”الحب” من منظور جديد، فهي لا تعني تجاوز المشكلات الواقعية ببعض التفكير الطيب، بل بناء الروابط، وتحقيق القدرة على التواصل، سواء على الصعيد الشخصي، أو فيما يتعلّق بالشأن العام، بدلا من التظلّم اللانهائي من الآخر، ومحاولة تحطيمه.

ربما نحتاج بعض السلام الشخصي وسط هذا العالم المضطرب، واستعادة الثقة بمن حولنا، وبناء التضامن معهم، وليس تجريمهم، وقد يكون هذا خطوة أولى للتغيير الاجتماعي، بدلا من اعتبار كل تطرّف مضاد هو “ردة فعل” شرعية ومبررة وحتمية. “الحب” بوصفه فعلا، قد يكون أفضل من كل “ردات الفعل” القائمة على الكراهية، التي لا تنتج إلا الدمار الشخصي والاجتماعي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.6 10 أصوات
تقييم المقالة
1 تعليق
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
Abd
4 شهور

احاطة موفقة ، رغم ما لهذه الموضوع من تعقيدات وجذور متشعبة