مواسم “التضامن”: هل يمكننا العودة إلى “حياتنا الطبيعية” بعد حرب غزة؟

مواسم “التضامن”: هل يمكننا العودة إلى “حياتنا الطبيعية” بعد حرب غزة؟

شكّلت أحداث الحرب على غزة، التي بدأت منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، محور اهتمام وتفاعل ملايين حول العالم، ممن باتوا يعيشون في عصر البث المباشر للحروب والمجازر، لحظة بلحظة، ومن قلب الحدث. بجانب الكمّ الهائل من الفيديوهات، على مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت بمثابة روتين يومي، بما تحتويه من مشاهد مروعة، لها بالغ الأثر النفسي السيء على من يتداولها.

بدأت الأحداث بصدمة بالغة، أصابت كثيرين بالفزع والتشنّج والغضب، ويوما بعد آخر، أصبح الأمر بالطريقة التالية: استغاثات متكررة من داخل قطاع غزة، بشأن احتياجات عاجلة للمياه والغذاء والوقود، ومستلزمات طبيّة وأدوية؛ بالتزامن مع إعلان استدعاء 360 ألف جندي احتياط إسرائيلي، في أضخم استدعاء وتعبئة جنود في تاريخ إسرائيل، منذ حرب تشرين/أكتوبر 1973، ومنح الحلفاء والداعمين الضوء الأخضر لها، لاستخدام حقها في “الدفاع عن نفسها”. ليتم وضع مصير أكثر من مليوني مواطن فلسطيني على المحك.

أحدثت هذه الصدمة حالة عامة من الأسى والاعتلال المزاجي، الذي حفّز بدوره مستوى الهلع الأخلاقي والشعور بالذنب، وكثيرا من الغرابة والاستهجان، والتسابق على توصيف المجتمع بكونه “منحطا”، طغت القسوة على قلوب أفراده، الذين أصابهم التبلّد والتعوّد. ورغم كل هذا تبقى هناك بالنهاية رغبات مُلحّة لدى عديدين بتجاوز هذه الأوضاع، إذ هنالك أعمال ووظائف لابد من مباشرتها، والتزامات فردية وأسرية، تُعجّل بضرورة عودة الحياة لطبيعتها.

الرغبة بـ”عودة الحياة لطبيعتها”، تدفع إلى طرح تساؤلات عديدة عن كيفية هذه العودة: ماذا تعني عودة الاستقرار من جديد؟ وهل ما نريده ونبحث عنه باختصارٍ هو تطبيع الأثر النفسي لما يحدث حتى نستطيع مواصلة حياتنا؟ أم أن أحداث وكوارث مثل هذه قد تدفعنا للتفكير في السمات الأكثر بداهةً وأساسية لمجتمعاتنا؟

الشمولية المعاكسة: هل تبلّد الأحاسيس يقي من الحروب العالمية؟

صدر عام 2002 أحد أفلام الديستوبيا الأمريكية “Equilibrium” والذي يناقش فكرة تخيّلية لمجتمع ما بعد حروب عالمية، يخشى فيه قادة العالم الجدد من تورّط الإنسانية في حرب عالمية أخرى، ما اضطرهم إلى إرساء قواعد اجتماعية جديدة، تتحدّد فيها مهامهم القيادية بقدرتهم على ضبط المجتمع، بتفريغه مما يمكن أن يؤججه، من دوافع أو قيم أو مطالب، من الممكن أن تجمع بين الأفراد؛ كما يمنع كل الأشياء، التي تولّد الشعور والإحساس، مثل الموسيقى والفنون والأدب؛ بجانب إجبار الأفراد على تناول مادة كيميائية، وظيفتها العمل على كبت الشعور والإحساس والتواصل مع الآخر، واعتبار التوقّف عن الجرعة اللازمة جريمة تستوجب العقاب بالموت.

يؤسس الفيلم لفكرة غاية في الغرابة، وغاية في “العقلانية”، بضرورة مواصلة الحياة، بدون شعور أو تفكير بالآخر، فالفرد وذاته بمثابة المركز والمحيط معا، لا يجري الاهتمام بالظروف والسياقات الموضوعية، كما لا داعي للانخراط فيما يحدث للآخرين، وما يواجهونه، وبهذا الشكل يصبح الوجود المُعتمَد وجودا لا يكتفي بنزع الحقوق والحريات الشخصية، بل يتعداه لتجريم السمات البدهية، المتعلّقة بأي شيء من الممكن أن يلزمك بارتباط تجاه الآخر، سواء كان قريبا: أخا، زوجة، أبناء، أصدقاء؛ أو بعيدا: شعبا يتعرض للاحتلال أو المجاعة. وذلك للحفاظ على النمط الذي يرتضيه القادة للسلام.

هذه الشمولية المعكوسة، أي التي تفعل بالضبط، وبالقمعية نفسها، عكس ما تفعله الشموليات المحفّزة لجمهورها، يتشابه مع ما يمرّ به كثير منّا، تجاه الأحداث، التي نشعر بشكل أو بآخر أنها على صلة بحياتنا، وتؤثّر على نفسياتنا، والكيفية التي نتفاعل بها، لكن في الوقت نفسه، نجد أنفسنا فاقدين للإدراكات الحسية والتضامنية، لا تجاه الآخرين فحسب، بل تجاه أنفسنا أيضا. في وضع بائس ومخزٍ، أطلقت عليه المفكرة الألمانية-الأمريكية حنا أرندت مصطلح “worldlessness” (انعدام العالم)  لتوصيف حالة فقدان الصلة بالعالم (1)، وتلك الحالة مبالغ فيها بشكل كبير، فالأمر لا يقتصر على تفكيك الشعوب، أو الطبقات، أو أصحاب الدين الواحد، أو العرق والجنس المشترك، بل تفكيك الفرد ذاته، وعزله، وإفقاده الثقة بنفسه وبالغير، وبالتالي إلغاء كافة المشاعر الإنسانية، وتعطيل حس التضامن، لجعل كل شيء حول الفرد تشوبه “الغرابة” فقط.

تتجلى هذه الحالة بوضوح في توجّهات تطرح أسئلة مثل: كيف نتخلّص من الشعور بالذنب تجاه أحداث غزة؟ (2) وكيف أحمي نفسيتي من المحتوى العنيف المتداول؟ (3) والتي تتعامل مع الأحداث والصور والفيديوهات، التي تأتينا من واقع معيشي عنوانه “الحرب”، بطريقة تعامل الطبيب النفسي مع مريضه، بالتالي تظهر إمكانية الانفصال عن الواقع، بالقفز عليه، والابتعاد عن استقبال مزيد من الصور والأخبار السيئة، باعتبار ذلك وصفة طبية سحرية، لتطبيع الأثر النفسي، والتفكير في العودة لمزاولة أعمالنا، والاهتمام بحياتنا، التي لا يجب تعطيلها تحت أي ظرف.

يتناسب هذا التصرّف مع مجموعة من القيم والأفكار العصرية، التي ترى الأزمات والمصائب بالأساس مشاكل فردية، وحده الفرد من يقع فيها، وهو أيضا المسؤول عن انتشال نفسه منها. فوفق لغة العصر، أصبحت المشكلات تُعرّف بكونها مجالا كاملا من التحديات، التي تواجه الفرد، بمعزل عن تكوينه الطبقي والاجتماعي والثقافي، وبالتالي لا مجال لانتظار العَوْن الاجتماعي، لأن “الآخر”، الذي لم يعد لنا به صلة، هو فقط منافس شرس على مقعد النجاة.

في ضوء هذا، تثير مقولة “عودة الأمور لطبيعتها” تساؤلات جدية عن الطريقة التي باتت تدار بها الأمور، وتُعرّف نفسها بكونها “طبيعية”، بتغييب حس التضامن الاجتماعي والإنساني، وَحَلّ التنظيمات والأحزاب والجمعيات والنقابات، وأي كيان ينظّم الأفراد اجتماعيا، لصالح سياسات فردانية؛ وَأوامر للأفراد بالانعزال والتفكير فرادى؛ وثقافة انعزالية، تزرع بالأطفال بألا يفكر إلا في نفسه ومستقبله وحياته الخاصة.

ما بعد النجاة: هل الحرب أقل “طبيعيّة” من الاغتراب؟

للخوض أكثر في الطريقة التي تدار بها الأمور، يعرض فيلم “The good lie”، الصادر عام 2014،  مفارقة قاسية، بين طبيعة الحياة في ظل الحرب، ثم تجاوزها إلى السِلم الاجتماعي، أو “العَيْش الطبيعي”. إذ ينتقل ثلاثة شباب سودانيون للاستقرار في الولايات المتحدة الأميركية، بعد انتشالهم من قلب الحرب الأهلية الثانية في السودان، والتي خلّفت وراءها حوالي اثنين مليون قتيل، بجانب نزوح ما يقرب من أربعة مليون إنسان.

تتحدد “الكذبة”، التي يتناولها الفيلم، بثلاثة مستويات: يفصح المستوى الأول عن التناقض الرئيسي، بين الحياة وسط حرب أهلية بالسودان والحياة على الطريقة الأميركية. الحياة الأولى مليئة بالشعور الدائم بالخطر، وقرب الموت، والفقر المدقع، والتفاصيل اليومية المعقدة، مثل العيش في مخيمات، والتعرّض المستمر لما يمكن أن يُنهي حياتك؛ أما الحياة الثانية، فهي على النقيض تماما، لخّصها أحد الأبطال في جملة: “الحياة في بلاد الماكدونالدز”.

اعتقد الشباب الثلاثة أنه بمجرد انتقالهم بعيدا عن الحرب، فإن كل ما يحتاجونه هو الأمن والسلام، إلا أنهم تذكّروا أن عيْشهم ووجودهم في ظل المخاطر، والحياة غير الآدمية وسط أهوال الحرب، لم يمنعهم من أن يعيشوا “كتلة واحدة”، وفي “تواجد دائم” معا؛ بعكس ما وجدوا في الحياة الجديدة، والتي من المفترض أنها الحياة الأكثر طبيعية ورفاهية في العالم، والتي حظيت بسُمعة تسويقية جذّابة تحت اسم “الحلم الأميركي”.

بهذه الكيفية يتشكّل المستوى الثاني، لما وجده الشباب من معانٍ، كشفها لهم واقع الحياة، فالحرب والدمار لم يقتنصا من “لُحمتهم الاجتماعية”، بل عززا من تماسكهم ووجودهم العائلي، بعكس الحياة الجديدة الأميركية، التي جرّبوا فيها الفراق والاغتراب اليومي بالساعات، وانحصرت الحرية التي كانوا يبتغونها، في الكيفية التي يستطيعون من خلالها الاختيار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات.

اما المستوى الثالث، الذي انكشفت من خلاله “الكذبة”، فكانت استمرار الحياة وفق منطقين متعارضين تماما: المنطق الأول هو الشعور بالذنب، والتضامن مع الباقين من أهاليهم ومعارفهم وأبناء بلدتهم في السودان، الذين ما زالوا يعانون في أهوال الحرب؛ والثاني يستحثه شعور جديد، يتسم باللامبالاة، التي يحفزها الاندماج مع الحياة الجديدة ومتطلباتها الفردانية، المنزوع منها أي جانب تضامني تجاه الآخر، لتصبح الخيارات المتاحة إما أن تعيش “وحدك”، أو تنهار مع الآخرين.

تنعكس في هذا السياق صورة إنسان البلدان التي ترزح تحت أزمات الفقر والحروب والصراع الدائم، وفق ما عبّر عنه المفكر الفرنسي فرانز فانون بتوصيف “معذبو الأرض”؛ بينما تتحدد صورة إنسان البلدان بعد الصناعية المتقدّمة في توصيف المفكر الألماني هربرت ماركوز لما سمّاه “الإنسان ذي البعد الواحد”، الذي يتسم باليقين الهائل ضمن المجتمع المعاصر، مجتمع التكنولوجيا والصناعة المتقدّمة، وما يحققه ذلك اليقين من هيمنة على الفرد، تتجاوز كل أشكال السيطرة التي مارسها المجتمع في الماضي على أفراده، والتي كانت على مر العصور شكلا لا عقلانيا من أشكال العلاقات الإنسانية، وبسبب طابعها هذا على وجه التحديد، كان في وسع الإنسان دوما أن يعقلها ويفضحها ويطالب بوضع حد لها، بيد أن السيطرة الاجتماعية في عصر التقدّم الحالي، تتلبّس طابعا عقلانيا، يجرّد سلفا كل احتجاج ومعارضة من سلاحهما. ولكن أيٌ منها “الحياة الطبيعية”، حياة معذبي الأرض أم ذوي البعد الواحد؟

نضال “المقاطعة”: هل يمنع الضمير المرتاح طرح الأسئلة؟

بالعودة إلى الأحداث التي نعيشها اليوم، وبجانب انسداد الأفق، وتعطّل كل آليات التضامن المألوفة، تبرز دعوات “مقاطعة المنتجات الأجنبية” بوصفها محاولة لإظهار ما يمكن أن يفعله الأفراد، للتأثير، ولو بالحد الأدنى، على الأحداث. لكن الأمر ليس باليسير، حين يتعلق الأمر باستبدال المنتجات الأجنبية بأخرى محلية الصنع، فمن الممكن أن نجد بدائل للمنتجات الاستهلاكية، لكن ماذا عن الاحتياجات الأساسية، مثل الغذاء والدواء والأدوات الكهربائية؟

تعاني المنطقة العربية، وتتقلّص سيادتها بخصوص توفير احتياجاتها الغذائية، فوفق ما صرّح به رئيس اتحاد الغرف العربية سمير عبد الله”، تعتمد الدول العربية، في تأمين احتياجاتها الغذائية، على عمليات الاستيراد بنسبة 55 بالمئة، بفاتورة بلغت نحو 61 مليار دولار عام 2020. وهناك إحصاءات تشير إلى أنّه من المتوقّع أن تصل فاتورة استيراد الغذاء في المنطقة إلى 90 مليار دولار، في السنوات العشر القادمة. مبينا أن مساحة أراضي الدول العربية الصالحة للزراعة تقدّر بنحو 220 مليون هكتار، يتم استغلال ثلثها فقط، بنسبة لا تتجاوز الـ 30.5 بالمئة، كما أن متوسط الإنتاج الزراعي العربي يمثل نحو 4 بالمئة فقط من الإنتاج العالمي (4)

لقد شهدت منطقتنا عديدا من التهديدات المتعلّقة بأمنها الغذائي، بدايةً من جائحة فيروس كورونا، وتأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية، والتغييرات المناخية الحالية، وصولا إلى الحرب على غزة، ما يطرح أسئلة كثيرة عن جدوى أية مقاطعة.

يتساءل فرانسيس مورلابيه وجوزيف كولينز في كتابهما “صناعة الجوع”: لماذا لا تستطيع الشعوب إطعام نفسها؟ يذكر الكاتبان عديدا من الأسباب، المتعلقة بسطوة الشركات متعددة الجنسيات، مثل “بيبسي”، التي تستحوذ على علامات تجارية عديدة، مثل “كنتاكي” و”برجر كينج” و”بابا جونز”؛ و”كوكاكولا”، التي تمتلك “ماكدونالدز”، بجانب شركات كبرى أخرى، مثل “نستله” و”دانون” و”يونيليفر” و”كاراجيل”. عملت هذه الشركات، منذ عقود، على فرض سياسات، أصبح على إثرها مفهوم “الأمن الغذائي الوطني” في اختلال دائم، فمنذ دخولها للأسواق المحلية بدول عديدة، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، غيّرت نمط الزراعة المحلية، وروّجت لزراعات ومحاصيل متعلقة بالتصدير، بجانب احتكارها للتقنيات الزراعية الحديثة، ونوعيات معينة من الأسمدة والمبيدات، التي كان لها عديد من الآثار السلبية، سواء على جودة الأرض الزراعية، أو المزارعين والعمال (5).

لم يحدث هذا بعيدا عن أنظار الحكومات المحلية، التي وقفت بدورها في صف الشركات وسياساتها، وهيّئت لها الأراضي الصالحة للزراعة، بجانب العمالة المحلية الرخيصة، وفي النهاية تمّت التضحية بكل ما هو مرتبط بمفهوم “السيادة الغذائية”، الذي يبدو مفهوما منتميا إلى عالم قديم، طمرته قوى العولمة، وهو أمر لا يجافي الحقيقة.

ربما تكون دعوات المقاطعة إعلانا للحد الأدنى من التضامن، هو ما دفع عديدين للانخراط بها، إلا أنها تبقى نمطا من الحلول الفردية، التي لا يتوقع لها أن تؤثر وحدها على الشركات المسيطرة، والمنظومة القائمة. ربما قد يكون لها فائدة بإعادة التفكير، وطرح أسئلة حول ماذا ننتج، وكيف ننتج؟ وهل من سبيل لفك الارتباط بمنظومة اقتصادية وحيوية عالمية، نتهمها بالازدواجية والشر؟ وكيف ننتزع السيادة على قرارات دولنا، وعالمنا الاجتماعي عموما؟

ربما كانت راحة الضمير الفردي، التي تنتجها “المقاطعة”، بديلا عن طرح تلك الأسئلة الصعبة، وكل ما يترتّب عليها من نتائج فكرية وسياسية. بكل الأحوال، العودة لـ”الوضع الطبيعي” ليست أمرا صعبا، فربما ما نعيشه الآن هو بكل بساطة “الوضع الطبيعي”.   

المصادر

1- Towards a Poetics of Worldlessness: Hannah Arendt and the Limits of Human Action, Roland Vegso

2- عنوان فقرة برنامج تلفزيوني على قناة صدى البلد المصرية

3- عنوان فقرة ببرنامج الحكاية للمذيع المصري عمرو أديب

4- تصريحات رئيس اتحاد الغرف العربي

5-صناعة الجوع، فرانسيس مورلابيه وجوزيف كوليز

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.3 6 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات