مشهد البطولة: هل من المشروع أن نتكلّم عن “النقد الذاتي بعد النصر”؟

مشهد البطولة: هل من المشروع أن نتكلّم عن “النقد الذاتي بعد النصر”؟

أشعل هجوم حماس على بلدات “غلاف غزة” الإسرائيلية، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، خلافات وتباينا في وجهات النظر في كل مكان في العالم العربي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، حول ما إذا كان هجوما مدروس العواقب، ويسعى إلى تحقيق اهداف معيّنة حددتها حماس (لا أحد يعرف ما هي بالضبط حتى الان)، أم أنه كان هجوما انتحاريا، لن يفضي في نهاية الأمر إلا إلى قتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين.

قتلت حماس، حسب الرواية الإسرائيلية، أكثر من ألف وأربعمئة إسرائيلي، واختطفت أكثر من مئتي مدني، واستولت على آليات عسكرية إسرائيلية، عادت بها الى قطاع غزة، واستقبلها بعض السكان بالفرح والزغاريد، في مشهد أعاد لبعض العرب أملا كان قد انتهى، بعد سنوات من بدء بعض الدول العربية التطبيع مع إسرائيل، الواحدة تلو الأخرى. “أيقظوا أطفالكم مبكرا ليتفرّجوا على النصر”، هكذا كتب أحد مستخدمي موقع “فيسبوك”، وقد نشر صورة لطفليه في منزل جميل آمن في إحدى الدول العربية، وذلك قبل أن تبدأ إسرائيل برد فعل وحشي انتقامي على القطاع، حوّل غزة إلى “مقبرة للأطفال”. قتلت إسرائيل وتقتل آلاف المدنيين، عائلات بأكملها لم تعد موجودة، تم ويتم قصف مدارس ومستشفيات ومجمّعات سكنية.

هل أرادت حماس عبر هذا الهجوم إيقاف توسيع المستوطنات الإسرائيلية (وهي موجودة في الضفة الغربية فقط)؟ أو إيقاف التطبيع العربي مع إسرائيل؟ هل أرادت تحرير فلسطين؟ أو إجبار إسرائيل على تطبيق حل للدولتين؟ لا يمكن لأحد أن يعرف الآن بالضبط، ولا يمكن لأحد التنبؤ بما ستؤدي إليه الحرب الحالية. ومع ذلك، من المؤكد أن المدنيين في غزة يدفعون ثمن هذا الهجوم، الذي لم يكونوا أصحاب القرار فيه.

وإذا كنّا لا نستطيع أن نعرف ما يفكّر به قادة حماس، السياسيون والعسكريون، فيمكننا على الأقل أن نتساءل عن تفكير من يسميهم البعض “الجمهور العربي”، وهو تعبير غير دقيق، يشير غالبا إلى نخب، أو أفراد قادرين على إيصال صوتهم، ولديهم بعض المتابعين، أبدوا فرحتهم بعملية حماس. لماذا لم يسأل هؤلاء أنفسهم عن الجدوى والعواقب والمعنى؟ هل هنالك في الأطر الثقافية، التي يفكّرون ضمنها، ما يمنعهم من ذلك، أو يجعله غير مهم؟ وهل كان يجب أن حقا أن نوقظ أطفالنا مبكّرا ليتفرّجوا على النصر؟

جغرافيا النصر: لماذا من الأفضل أن نترك أطفالنا نائمين؟

ترتكب إسرائيل جرائم فظيعة ضد المدنيين في غزة، وأشارت التقارير الحقوقية الدولية إلى انتهاكات بحق المدنيين الإسرائيليين من جانب حماس أيضا. قد لا يكون أي طرف مستعدا للامتثال لمواثيق حقوق الإنسان في زمن الحرب، وربما لا تتسع قلوب البعض لإدانة الجانب الذي يدعمونه. ومع ذلك، يتم ارتكاب جرائم حرب من قبل إسرائيل وحماس، بشكل غير متناسب نظرا لاختلاف القوة النارية، ويتقاذف كلاهما الاتهامات، ويرفضان التعاون مع المحققين في جرائم حقوق الإنسان للكشف عن ما يحدث. إسرائيل تدّعي أن حماس تستخدم منشآت الأمم المتحدة والمدارس والمستشفيات أماكنا لنشاطها منذ عام 2014، ولهذا تقوم بقصف هذه المنشآت، ما يسفر عن مقتل مدنيين وجرحى وطواقم طبية. ومع ذلك، يُعتبر القصف الإسرائيلي لهذه المنشآت المدنية، حتى لو كانت فعلا مستخدمة من قبل قوات حماس، انتهاكًا للنظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية (نظام روما)،  وحتى لو كانت هناك تجارب سابقة لما يسمى “محور المقاومة” في تخزين الأسلحة، وإقامة المقرات العسكرية المؤقتة أو الدائمة في بعض المؤسسات المدنية. على سبيل المثال، فإن الحكومة السورية تستخدم المطارات المدنية والمصانع والمراكز الثقافية وبعض المباني السكنية للأغراض العسكرية، وتقوم إسرائيل بقصفها تباعا؛ أما حزب الله، الذراع الإيرانية في لبنان، فقد قام بتخزين نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، وتشير بعض تقارير إلى أن إسرائيل قد قامت بقصفه أيضا.

 بعض المتابعين يأخذ على ما يسميه “الغرب”، ووسائل الإعلام في الدول الغربية، تحيّزها لصالح إسرائيل، وعدم التمييز بين العداء للسامية والمواقف المناهضة للعدوان الاسرائيلي، بينما ترفض المحطات الإعلامية العربية مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها مقاتلو حماس، كما حدث في حالات الادعاء بحدوث اغتصاب نساء إسرائيليات. لا يبدو الموضوع سوى حفلة من الجنون، يدفع المدنيون ثمنها.

تحوّلت أنظار مؤيدي محور المقاومة، الذي يستمد شرعيته من رواية محاربة اسرائيل وتحرير فلسطين، نحو قادة المحور لدعم حماس، وفي الوقت نفسه، تمنّى بعضهم، سواء بالسر أو بصراحة، عدم توّرطه في حرب، قد تجعل لبنان، وربما سوريا، ضحية، أو تتطوّر إلى نزاع إقليمي. ولكنّ “المحور” لم يخيّب هؤلاء. إيران، الداعم الرئيسي لحماس، أعلنت بوضوح أن القرار بشن الهجوم تم اتخاذه من قبل حماس وحدها. وبالمثل، حاول حسن نصرالله، زعيم حزب الله، الابتعاد عن الشبهات المتعلّقة بحزبه وإيران، مؤكدا أن القرار كان فلسطينيا بحتا. واكتفى بتهديد الولايات المتحدة بميليشيات إيران في العراق واليمن. في النهاية، يمكن للمراقب أن يفهم أن محور المقاومة قرر التضحية بالمدنيين، الذين يفقدون أرواحهم في غزة، وذلك مع وعد بعدم التورط في الحرب أو توسيعها، شريطة أن لا يتم القضاء على حماس.

قد يسأل البعض عن البرنامج السياسي الذي سوف تعتمده حماس إذا جاءت نتائج الحرب لصالحها، وعن نوع “الحرية” الذي قد تفرضه إحدى ميليشيات إيران في المنطقة. وكذلك، كيف سيتم حل الخلافات بين حماس وفتح؟ هل يجب تأجيل مناقشة هذه التفاصيل إلى مرحلة ما بعد الانتصار في الحرب؟ تظهر أيضا سيناريوهات متشائمة للغاية حيال مستقبل غزة، حتى لو تم إجبار إسرائيل، من قبل المجتمع الدولي، على وقف إطلاق النار. ومع ذلك، قد تقوم حماس، والميليشيات المرتبطة بإيران، بالاحتفال بـ”النصر”، بطريقة تشبه انتصار بشار الأسد في حربه الكونية، بعد أن دمّر البنية التحتية في سوريا، وقتل مئات آلاف المدنيين، وهجّر ملايين آخرين، فيما من بقوا في البلاد، لا يجدون قوت يومهم. لكنه انتصر.

هل هذا هو المشهد الذي يجب أن نوقظ أبناءنا مبكرا كي يتفرّجوا عليه؟ ربما يحق لنا أن نقول، بوصفنا أمهات وآباء: أرجوكم، اتركوا أطفالنا نائمين، ودعونا نجنّبهم رؤية تلك الانتصارات.

صعوبة الأسئلة: ما ثمن ألّا نكون “صهاينة عرب”؟

طرح عدد قليل من المثقفين والإعلاميين العرب أسئلة عن أهداف حماس واستراتيجياتها، ومفهومها عن شعبها نفسه، ولكنهم لاقوا السخرية والتخوين والاتهامات، أقلّها “الليبرالية”، التي لا ندري ما مفهومها لدى المُتهمين؛ وأكبرها “الصهيونية العربية”، وهي تعبير غريب، ربما كان متوقعا من جريدة “ممانعة”، ولكن خروجه للتداول العام بهذه الطريقة، يثير أسئلة كثيرة عن وعي النخب العربية لمعنى المسؤولية السياسية والاجتماعية، والجدل في الحيز العام.

تبقى أسئلة “الصهاينة العرب” مُنكرة، على الرغم من عدم ظهور أي برنامج سياسي واضح من طرف حماس، أو إعلان أي هدف ملموس، كانت تسعى إليه من هجومها على إسرائيل، وبدون اتخاذ أية تدابير لحماية المدنيين، وتهيئهم للحرب، وبناء ملاجئ لهم، على الرغم من بنائها كثيرا من الأنفاق تحت الأرض، لأغراض دفاعية.

ربما، كي لا تكون “صهيونيا”، يجب أن تقوم برقابة ذاتية، تمنعك من طرح أي سؤال. وهذا غريب في مجتمعات شهدت ما بعرف بـ”الربيع العربي”، الذي قام، كما يُفترض، ضد أنظمة شمولية، منعت الجدل وطرح الأسئلة، بحجة معركة ما، غالبا ضد إسرائيل. بماذا يختلف أنصار عملية حماس المعاصرون، أو مبرروها، عندما يحاولون إسكات الآخرين بتهمة “الصهيونية”، عن مؤيدي النظام العراقي البائد، أو النظام السوري، أو نظام عبد الناصر في مصر، أو القذافي في ليبيا؟ وهل كانت المشكلة حقا في اولئك الزعماء؟

تكرار اللغة وأسلوب التفكير نفسه، قد يشير إلى أن المشكلة في بنى ثقافية واجتماعية، أعمق من هذا الزعيم أو ذاك، حتى لو اكتسبت دعاوى التخوين اليوم صيغة منمّقة، مستمدة من أفكار محاربة “الامبريالية” أو “الإمبراطورية”، على الطراز الغربي المعاصر.

رغم ذلك يصعب على الانسان كبح أفكاره وأسئلته، حتى لو تحت الضغط والابتزاز، ومن الأسئلة التي لا يمكن كبحها: هل كانت عملية حماس مجّرد رد فعل، خُطط له من قبل إيران، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأغراض إقليمية؟ وهل حماس حركة “وطنية”، بأي معنى للمصطلح، إذا كان آخر همّها حماية الأهالي الذين تحت سلطتها، وتكتفي بمعارك ذات مغزى ديني و/أو إقليمي ما؟ بغض النظر عن الإجابة، فإن عدم طرح هذين السؤالين البسيطين بشكل جدّي، ومحاولة استقصاء إجابتهما، ربما يشير إلى أن المشكلة ليست في “صهاينة عرب”، ولا حتى يهود، بل في بنية ثقافية/سياسية، لا تطرح نخبها أية أسئلة مهمة. “تتحمّس” فقط.   

التضامن العقائدي: هل ينفعنا تحليل “الإنسان المقهور”؟

حماس، المدعومة من إيران، متهمة بارتكاب  جرائم في غزة،  وباعتقال وتعذيب واغتيال ناشطين، وترهيب المدنيين الفلسطينيين، ومنذ أن تسلّمت السلطة في قطاع غزة يعيش أهلها في ظروف اقتصادية صعبة. وقد ظهر أحد قادة حماس في وقت سابق، يتحّدث أن قضية فلسطين ليست قضية الحركة الرئيسية. ومع ذلك حظيت عملية حماس الأخيرة ضد اسرائيل بدعم شعبي كبير في العالم العربي. لقد تم تجاهل كل الفظائع التي ارتكبتها حماس سابقا، والدعم الإيراني لها، وتطرّف عناصرها الديني، فقط لأنها تحارب العدو الاسرائيلي. أي أن المواجهة المقدّسة، وإيذاء العدو، أهم حتى من حياة الأطفال، الذين يجب علينا إيقاظهم.

الملفت أن حزب الله اللبناني، كان له، قبل الثورة السورية، مؤيدون كثر في العالم العربي، شهدوا لاحقا كيف دخلت ميليشياته العقائدية إلى الأراضي السورية، وساهمت في قتل السوريين، ما أدى إلى انفضاض كثيرين من العرب عن هذه الميليشيا، ومع ذلك توّقع كثيرون منهم الآن أن حماس قد تختلف عن أي ميليشيا عقائدية أخرى موالية لإيران. ما يدفع للتساؤل: هل كان الموقف ضد حزب الله موقفا طائفيا “سنيا”؟ وهل يمكن لضحايا أفعال تلك الميليشيات أن يصدّقوا بعد اليوم تعاطف جيرانهم العرب، عندما يكتشفون أنه مجرّد تعاطف قائم على حسابات طائفية؟

ربما يمكننا العودة لبعض التحليلات الكلاسيكية الشهيرة، مثل تحليل المفكر اللبناني مصطفى حجازي عن الإنسان المقهور، الذي يبني علاقة سحرية وهوامية مع المنقذ البطل: “سحرية لأنها تمثّل الأمل السحري في الخلاص.. إنه يأمل أن يستيقظ يوما ما، فإذا بالأمور قد انقلبت بصورة مفاجئة، وإذا ببطل الخلاص قد برز إلى الوجود”. ولكن بكل الأحوال قد لا يكون هذا مهما بعد الآن، فسواء عدنا إلى حجازي أو غيره، فنحن أمام حالة صادمة من الوعي، ربما لا ينفع أي تحليل معها.

يتداول أنصار عملية حماس أساطير بطولة، تحكي عن أهل غزة وعن صمودهم، لكن في الحقيقة أهل غزة يُقتلون، ويفقدون أبناءهم وأحبتهم. لا بطولة في القهر، ولا بطولة في صورة أب يبحث عن أولاده بين الأنقاض. إنه ظلم، كارثة، مصيبة، نحوّلها إلى أساطير صمود، حتى نهرب من مواجهة عجزنا، ومن مسؤوليتنا في إيجاد حلول جديدة وخطاب جديد، وأيضا في التفكير في المجتمع الذي أنتج حماس وغيرها من الأبطال.

“إن التغيير الاجتماعي لا يمكن أن يتم من خلال الأسرة العشيرية، أنه يتم تحديدا على حسابها، من خلال تغليب الهوية المواطنية على ما عداها”.ً هكذا قال حجازي، ولكن قوله لن يغيّر شيئا في الوقت الراهن. دعونا فقط نأمل ألا ترى بناتنا وأبناؤنا كل هذا بعيون “المتحمّسين”، علّ مستقبلهم يكون أفضل.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.6 18 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات