ينطلق عدد من التحليلات، التي لا تلقى رواجا أو حضورا كبيرا في الثقافة العربية المعاصرة، من أن “القضية الفلسطينية” لم تستطع أن تكون دافعا للقوى الديمقراطية في المنطقة العربية. وباستثناء فترة محدودة من سبعينيات القرن الماضي، أثناء صعود “اليسار الجديد” عالميا؛ ومن التسعينيات، حين بروز أفكار “عالم ما بعد الحرب الباردة”، القائم على العولمة المسالمة، ارتبطت “القضية” دائما بأكثر الأنظمة القومية، والحركات الإسلامية تطرّفا، وكانت ذريعة لانقلابات عسكرية؛ ومجازر تطهير طائفي وعرقي؛ وقمع كثير من الحركات السياسية والأفراد.

بالطبع، لا يمكن تفسير هذا بمشكلة في “فلسطين” نفسها، وإنما في البناء السياسي لقضيتها، المتعلّق بأزمات بنيوية في الدول العربية، خاصة المجاورة للمناطق المتنازع عليها. بهذا المعنى يتحدّث كثيرون، ومنذ زمن طويل، عن “فلسطين” بوصفها “ذريعة”، واستثمارا “انتهازيا” لقوى سياسية متعددة.

إلا أن هذا المنظور غير كافٍ، لأنه لا يفسّر الأسباب، التي تجعل أفرادا وقوى سياسية كثيرة تتمسّك بـ”القضية”، رغم ما عانته بسببها، ورغم بعدها النسبي عن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي نفسه. كما لا يمكن الأخذ بجديّة بطرح أن سكان المنطقة متحمّسون للقضية لهذه الدرجة لأن إسرائيل “مخلب صهيوني/إمبريالي”، يعيق تقدّم الدول والشعوب، فهذه المنطقة لا تحتاج لمخالب خارجية من هذا النوع، بوجود بناها الداخلية، المنتجة لأشكال متعددة من القمع والتطرّف والإقصاء، وحتى لو فسّرنا “التخلّف” في الدول العربية بأنماط الاستغلال وتقسيم العمل في النظام العالمي، وغيرها من نظريات “التبعيّة”، فإن إسرائيل لا يمكن أن تلعب دورا مهما في تعليل مشاكل دول مثل مصر وتونس واليمن.

ربما الأجدى النظر إلى البناء السياسي لـ”القضية الفلسطينية” بوصفه أسطورة مؤسِّسة، عابرة للدول والتنظيمات والقوى السياسية، ومرتبطة بالتشكيل السياسي الحديث لـ”الأمة العربية/الإسلامية”، أكثر من كونها أيديولوجيا قمعية لهذه الدولة أو تلك؛ أو لجماعات متطرّفة معيّنة. ومفردة “أسطورة” لا تعني الكذب أو الخرافة، وإنما رواية واضحة المعالم، ومُنتجة للمعنى، تلعب دورا في تفسير أوضاع وظواهر يعيشها البشر، وتساهم بتأسيس اجتماعهم ونظامهم؛ أما اعتبارها أسطورة لـ”أمة عربية/إسلامية”، فيقوم على ملاحظة أزمات المسألة القومية في المنطقة بعد انهيار الدولة العثمانية، إذ لم تتمكن الدول الناشئة حديثا من تحقيق كثير من الوظائف الاجتماعية والسياسية الضرورية لاستقرارها؛ أو بناء مؤسسات اجتماعية متوازنة؛ أو دمج المجموعات السكّانية المختلفة الموجودة داخل حدودها. وسط كل هذه المشاكل تبدو “الأمة” مثالا لا يتحقق على أرض الواقع، وهذا ما يعطي “فلسطين” جانبا من أهميتها وحضورها، فهي رمز، شديد الوضوح، للفشل العام في التأسيس القومي العربي، بتاريخها الذي لا يعدو تاريخ هزائم ونكسات ومآسٍ لـ”الأمة” أساسا، كما أنها المثال الذي لا يتحقق.

بهذا المعنى فإن “فلسطين” بالطبع “في قلب كل عربي”، ولا يمكن أن تتزعزع مكانتها، ما دام التشكّل القومي العربي قائما بهذه الصورة. ومع اضمحلال أو انهيار أي جهة كانت تحمل “القضية”، بأزماتها، مثل منظمة التحرير الفلسطينية، و”دول الطوق” العربية، تحرّرت “القضية” من أي تحديد واضح، أو مشروع سياسي يمكن الإمساك به، إذ لا توجد خطط معلومة، لا للحرب ولا للسلام، يمكن التواصل مع جهة معيّنة بخصوصها.

يمكن التساؤل هنا: إذا كانت “فلسطين” ليست مرتبطة بمشروع سياسي واضح، لأي قوة سياسية بإمكانها ادعاء تمثيل “شعب” (كما في حالة “منظمة التحرير”)؛ أو دولة يمكنها ادّعاء حماية مصالح بشر لا يمتلكون تمثيلهم السياسي، ومسؤولة وفق القانون الدولي عن ذلك (كما في حالة المملكة الأردنية، ومصر الناصرية، قبل تأسيس المنظمة)، فأين يمكن البحث عن “سياسية” القضية؟

ليس لدينا إلا مفردات مثل “شعب”، “أمة”، “قضية”، يمكن لأي جهة كانت ادعاء تمثيلها، واتخاذ قرارات باسمها؛ كما أنها لا تقدّم أي مفاهيم واضحة، قابلة للاستيعاب؛ أو تعريفات قانونية، يمكن الاعتماد عليها. وهذه مشاكل يدفع ثمنها الفلسطينيون أولا، في الأراضي المحتلة ومخيّمات الشتات. لقد أصبحت “فلسطين” أقرب لروح أو شبح يحوم في المنطقة، يظهر ويختفي، تاركا وراءه، بعد كل أزمة أو حرب، دما ومُهجّرين ومدنا مدمّرة.

ربما كان حال “القضية” هذا ليس مجرّد نتيجة لاضمحلال القوى السياسية التي حملتها، بل محصلة لعدة آليات، متعلّقة ببنائها نفسه، قد يمكن اقتراح تلخيصها بثلاث آليات: التبسيط والتأجيل والتعالي، مرتبطة بمشاكل التأسيس القومي لدول المنطقة. ما هذه الآليات؟ وهل يمكن تجاوزها لجعل “فلسطين” قضية سياسية؟ وهل يمكن أن “يتحرر” الفلسطينيون يوما من مشاكل “الأمة”؟

التبسيط: لماذا لا يجب أن تكون “القضية” عادلة لهذه الدرجة؟

يمكن اعتبار “التبسيط” ضرورة لكل نظام اجتماعي، بل وظيفته الأولى. ففي بيئة شديدة التعقيد، تحوي كما هائلا من الموجودات والاحتمالات والتأويلات، لا بد من بناء طرق لاستيعاب وترميز كل ذلك الفيض من العناصر، لإنتاج مجموعة من الإجراءات والبرامج والمعايير، وفق معنى ما، تمكّن البشر من التعامل مع بيئتهم وتاريخهم ووجودهم الاجتماعي.

“القضية الفلسطينية” هي نظام أيديولوجي قائم على التبسيط، مثل أي نظام أيديولوجي آخر، إلا أن “التبسيط” لا يعني مجرّد تعيين تحديدات بالغة السهولة، إذ أن ضرورة إنتاج إجراءات وبرامج، بناء عليه، تفترض أن يحوي بدوره أنماطا ورموزا مركّبة. تفتقر “القضية” لذلك إلى حد كبير، فهي تسرد قصة لا تقدّم كثيرا من الأفكار المركبة. هنالك ضحية واضحة تماما، وعدو واضح تماما، ومظلمة شديدة الوحشية والسوء، وحق ناصع الوضوح. فضلا عن رموز لغوية وبصرية مكررة، لم تتغيّر طوال عقود.   

عملت كثير من الحركات السياسية عبر التاريخ على إنتاج قصص واضحة، إلا أن “القضية الفلسطينية” تفوّقت في الوضوح على كثير من قضايا التحرر الوطني المماثلة لها، وهي أقرب لمفاهيم العدالة المطلقة، والحق الذي لا جدل فيه.

كان لذلك نتائج كثيرة على المستوى السياسي، فهو أولا سَهّل تركيب “القضية” على السرد والمفاهيم الدينية، فبات صراع الخيّرين والأشرار صراعا شبه ديني، حتى بالنسبة للعلمانيين وغير المسلمين؛ وساهم ثانيا في قمع كثير من الجدل، الذي ربما كان لمصلحة “القضية”، إذ من يجرؤ على انتقاد قصة بهذا الوضوح والعدالة؟ وثالثا أعاق كثيرا من متبني القضية عن ملاحظة تعقيد الواقع الاجتماعي حولهم، وهي ملاحظة ضرورية لأي عمل سياسي.

وإذا كانت “فلسطين”، عن حق، “قضية العرب المركزية”، أي أساسية في سرد “الأمة” عن ذاتها، فيمكن تخيّل مدى النتائج السياسية والاجتماعية لهذا النمط من التبسيط. استُعملت “القضية الفلسطينية” مبررا سهلا لممارسات شديدة الدموية، بعيدا عن حدود الأراضي الفلسطينية نفسها بمئات، وأحيانا آلاف الأميال. يصعب في الواقع تحديد من بسّط الآخر لهذه الدرجة: هل الأمة من بسّط “فلسطين”، أم العكس هو الصحيح؟

بكل الأحوال، تبدو تلك العدالة الإلهية، الواضحة، التي لا لبس فيها، والمنتقمة ممن يعاديها، مضرّة للفلسطينيين وغير الفلسطينيين، وربما كان تخفيف عدالة “فلسطين” قليلا، وجعلها أقرب للنسبية، والاحتمال، والاختلاف، أصلح لجعلها بناء سياسيا أكثر ديمقراطية. إلا أن هذا قد يطعن مفهوم “الأمة” الحالي بالعمق.

التأجيل: لماذا الكسل السياسي مفيد لـ”الأمة”؟

مع انشغال معظم دول الجوار بمشاكلها وحروبها الداخلية، لم يعد أي طرف يتوقّع منها تقديم مبادرة أو مشروع حل لـ”القضية الفلسطينية”، والموضوع متروك، نظريا، للفلسطينيين أنفسهم، خاصة بعد اتفاقية أوسلو، وتأسيس “السلطة الفلسطينية”. توجد حاليا قوتان سياستان فلسطينيتان، يمكن اعتبارهما الأقوى، بغض النظر عن مدى تمثيلهما الشعبي، وهما حركتا “فتح” و”حماس”. ورغم أن للحركتين برامج سياسية معلنة، إلا أن أيا منهما لا تمتلك برنامجا عمليا لإنهاء “القضية”. ما زالت “فتح” وسلطتها مصرّة لفظيا على حل الدولتين؛ فيما تريد “حماس” مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، رغم حديثها عن “هدنة”، في حال انسحاب الدولة العبرية إلى حدود عام 1967. وفي كلتا الحالتين، لا نعرف ما الاستراتيجية التي تتبعها الحركتان لتحقيق غاياتهما فعلا، “فتح” كامنة في مناطق سلطتها، و”حماس” دخلت حربا إقليمية، من المستغرب أن يكون قادتها مقتنعين بأنها ستحلّ “القضية”.

يُظهر هذا آلية “التأجيل”، وهي لا تعني التوقف عن الفعل، وإنما ترك أفق “القضية” مفتوحا إلى ما لا نهاية. وقد يكون لهذا منطقه: نحن الآن ضعفاء، أو غير قادرين على الأقل على الوصول إلى ما نريده تماما، ولذلك نحرص على جعل النهاية بعيدة قدر الإمكان، فربما يأتي وقت، أو جيل آخر، يحقق أحلام الأمة كلها في القضية؛ فضلا عن أن أي حل غير مقنع، ليس فقط لعموم الفلسطينيين، وإنما للأمة أيضا، لن يستمر، وستعود الأوضاع للانفجار من جديد.

إلا أن التأجيل الدائم هذا، وترك “النهاية مفتوحة” إن صح التعبير، يسمح بالخمول والعطالة السياسية، إذ لا توجد أية جهة أو قوة تتحرك بوضوح في اتجاه معيّن، ولتحقيق غايات محددة، عبر برامج يمكن محاسبتها على أساسها. وهذه ليست حالة جديدة في “القضية”، بل رافقها منذ نشأتها، وتكرّست بعد هزيمة حزيران/يونيو عام 1967، ثم البروز القوي لمنظمة التحرير. وربما كانت مصر الدولة الوحيدة في المنطقة، التي تحرّكت منذ عام 1973 لإنهاء ذلك التأجيل، من جهتها على الأقل.

أدى التأجيل الدائم إلى غرق التنظيمات الفلسطينية في “مستنقعات” الدول، التي تواجدت فيها، وعندما تحرّك ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير، لإنهاء التأجيل، اتُهم من أطراف كثيرة، بـ”تصفية القضية”. ما يطرح عدة أسئلة: لماذا لا يجب “تصفية القضية”؟ وإذا كان عرفات نفسه، أبرز قائد في التاريخ الفلسطيني، والأكثر شرعية وشعبية، غير مخوّل برسم نهاية لها، فمن يحق له ذلك؟

ربما لا يتعلّق الموضوع بعرفات أو غيره، أو ببنود اتفاقية أوسلو، مهما احتوت من مشاكل، وإنما بأن المثال الذي قدمته “القضية” للأمة لا يمكن إدراكه بالعمل السياسي، أو حتى العسكري الواقعي، و”تصفية القضية” تعني إنهاء ذلك المثال، وهذا، أيضا، قد يطعن مفهوم “الأمة” الحالي، ويؤدي لاضمحلاله.

بكل الأحوال، فشل عرفات، رغم واقعيته، بـ”تصفية القضية”، إذ كانت أطراف كثيرة، من الجانب العربي والإسرائيلي، ضد تلك التصفية، وعادت “القضية” إلى دأبها القديم: جولات دموية بنهايات مفتوحة.

يمكن للمثال الفلسطيني المؤجّل، غير المُدرك، أن يكون محرّكا كبيرا للحشد والتعبئة، ولكن ليس للسياسة بمعناها المنضبط، ولذلك فربما كان الأنسب للقوى الأكثر حرصا على الحفاظ على “الأمة”. ولتلك “الرؤيا” نظائرها بالطبع في الجانب الإسرائيلي.

التعالي: هل ستبقى “القضية” إذا متنا؟

شعارات مثل “نموت وتحيا فلسطين”؛ وأغانٍ مثل “ما هَم نموت يا أمي، تبقى القضية”، من كلاسيكيات “القضية الفلسطينية” كما نعرفها، وما ارتبط بها من قضايا في دول الجوار. وهي لا تتعلّق برغبة في الاستشهاد، أو “ثقافة الموت”، كما يرى بعض نقّادها، بقدر ما ترتبط بعامل ربما يكون أكثر أهمية، وهو “التعالي”، وما يرتبط به من تصعيد، إذ أن “القضية”، تؤمّن لأفراد كثر معنى مثاليا، أكبر وأسمى من يوميات حياتهم المألوفة، وهذا أمر معهود في كثير من المنظومات الأيديولوجية، إلا أن تعالي “القضية الفلسطينية” لا يقتصر على التسامي النفسي، المؤدي للارتباط أكثر بالجماعة، وإنما يبدو تعاليا تاما، إذ توجد “القضية” باستقلال عن حامليها أنفسهم، وسابقة على وجودهم، ومحدّدة بغض النظر عن وجهات نظرهم أو مصالحهم أو تعقيدات وجودهم الاجتماعي.

يجعل هذا من المتاح لأي جهة خوض المعارك، دون أية آلية تمثيلية، تعطي شرعية مبدئية لخياراتها، ورغم أن المجتمع الفلسطيني، في الداخل والمخيمات، هو من يدفع ثمن الحروب، إلا أنه لا يمتلك أية سيادة على خيارات “مقاومته”، فالقضية وضروراتها متعالية عليه: أي مستقلّة وسابقة ومحدّدة.

سابقا، اهتمت منظّمة التحرير بعقد “المجلس الوطني الفلسطيني”، وامتلاك قراره، باعتباره آلية تمثيلية لـ”الشعب”، ورغم كل ما شابه من مشاكل ونواقص، إلا أنه أعطى نوعا من الشرعية الشعبية للمنظمة، دعمها تخلّي الأردن ومصر عن وصايتهما على الفلسطينيين، واعتبار منظمة التحرير “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني” في قمة الرباط عام 1974، وبذلك اكتمل سعي المنظمة لبناء “الشعب الفلسطيني”، بوصفه فاعلا سياسيا مستقلا في المنطقة، وربما كان هذا من أبرز الإنجازات، التي حققتها المنظمة وسط ظروف شديدة الصعوبة، من شتات وتهجير وتعرّض لقمع الأجهزة الأمنية العربية. إلا أن “التعالي” المرافق لـ”القضية” كان يُفسد دائما فكرة الشرعية الشعبية، ولطالما فرضت دول عربية، وتنظيمات فلسطينية، خياراتها الخاصة على الفلسطينيين، وجعلتهم يدفعون أفدح الأثمان.

تشتت “المجلس الوطني الفلسطيني” بعد اتفاقية أوسلو، وعرفت الأراضي الفلسطينية كثيرا من الاضطرابات المتعلّقة بالشرعية الشعبية، إلى أن جاءت انتخابات عام 2006، وما تلاها من اقتتال أهلي بين الجماعات المسلّحة، لتنتهي بعدها العملية السياسية الفلسطينية. وبانتهاء العملية السياسية فقدت كل الأطراف الفلسطينية شرعيتها، باستثناء اعتراف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، بوصفها شريكا، يشبه الدولة؛ فيما يبدو حكم حركة “حماس” في قطاع غزة أقرب لحكم الميلشيات، رغم تأسيسه “حكومة”، قد يمكن مقارنتها بما يُعرف بـ”حكومة الإنقاذ” في محافظة إدلب السورية، التي أسستها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا). وفشلت كل محاولة لاستعادة شرعية فلسطينية، تشمل الضفة وغزة معا، بسبب الخلافات المستعصية بين السلطة الفلسطينية وحركة “حماس”.

لا توجد اليوم أية آلية جديّة لقياس توجهات الفلسطينيين، ومعرفة منظوراتهم حول قرار الحرب والسلم، إلا أنهم يدفعون ثمن الحروب التي يفرضها تعالي القضية. إضافة لهذا، فإن الشرعية السياسية، والمجالس المنتخبة، ليست مجرد آلية لاستطلاع الرأي، بل تعبير عن تعددية المجتمع، واختلاف توجهاته ومصالحه وفئاته، ومفهوما التعددية والاختلاف قد يكونان نقيضين مباشرين لـ”التعالي”، ولذلك قد يبدو حكم الميلشيات أنسب لـ”القضية”، كما تكوّنت تاريخيا.

يموت كثير من الفلسطينيين في الحرب الحالية، التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، عقب عملية “طوفان الأقصى”، ولكن هنالك إدراكا عاما، لدى حركة حماس، والمؤيدين الكثر لـ”المقاومة” في الأمة العربية/الإسلامية، بل ربما بين قتلى الحرب أنفسهم، أن “القضية” ستبقى فعلا بعد موت الفلسطينيين. فهذا من بديهيات التعالي.

هل يمكن جعل “القضية” ديمقراطية؟

الإجابة على هذا السؤال مفتوحة على كثير من الاحتمالات. ربما يتطلّب الأمر التخلي عن “فلسطين” التي نعرفها، والآليات التي صنعت قضيتها، إذ يصعب للديمقراطية، مهما كان تعريفنا لها، أن تعمل ضمن التبسيط والتأجيل والتعالي؛ أي لا يمكن لها أن توجد خارج السياسة أصلا.

كما أن دمقرطة “القضية” قد تستلزم خلاص “فلسطين” والفلسطينيين من “الأمة” نفسها، فهذا الارتباط، القومي والديني والأيديولوجي، سيعرقل أي محاولة لإعادة بناء السياسة الفلسطينية، ولا يمكن أن تبقى “فلسطين” محمّلة بـ”شرف الأمة”، وتتحرّر سياسيا في الوقت نفسه؛ كما لا يمكن لدول “الأمة” التحرر وهي تحمل “همّ القضية”، بكل آلياتها الموصوفة أعلاه.  

إذا كان المرء متفائلا، فربما يمكن الحلم بوقف الحرب الحالية، واستغلال ذلك لاستعادة العملية السياسة الفلسطينية، وبناء شرعية جديدة، تمثّل اختلاف وتنوّع المجتمع الفلسطيني، في الضفة وغزة، وربما في المخيّمات أيضا، وتكون الجهة المخولة والمسؤولة عن خيارات الفلسطينيين، سواء كانت السلام أو المقاومة. إلا أنه يبدو حلما بعيد المنال، إذ من المستبعد أن تترك الحرب الحالية، حتى لو توقفت في أسرع وقت ممكن، مجالا لتمثيل أو شرعية، والأغلب أنها ستزيد الاضطراب الميليشياوي في الأراضي الفلسطينية، حتى لو نشأت فيها حكومة جديدة، تنال اعتراف المجتمع الدولي.

إلا أن التحليل الأيديولوجي، ونقد “القضية”، قد لا يكون عبثيا تماما، حتى في هذا الظرف، إذ ربما يساهم في إثارة جدل عام، في كل من “فلسطين” و”الأمة”، يبني بعض التراكم الفكري، الذي يقلّل من تبسيط القضية، وينال من تعاليها، وعندها، ربما، لن تبقى مؤجّلة إلى الأبد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.2 19 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات