“أيام العرب” في السويداء: هل سيحسم الجبل حرب الرايات السورية؟

“أيام العرب” في السويداء: هل سيحسم الجبل حرب الرايات السورية؟

فتحت الاحتجاجات المستمرة في محافظة السويداء الباب واسعا للحديث عن علاقات وبنى اجتماعية متعددة المستويات في سوريا. فمن ناحية هناك العلاقة بين ما يسمى “الجماعة الأهلية”، وموروثها وعاداتها وأزيائها ورموزها، وبين الدولة المركزية، التي طالما قدّمت نفسها في منطقتنا بوصفها مشروع تحديث، رغم أنها كانت وما زالت مطعّمة ومسكونة بكثير من “الأهلي” وأعرافه وتحالفاته. ومن ناحية أخرى هناك العلاقة ما بين “أطراف” و”مراكز”، والحديث عن الأطراف في بلاد الشام غالبا ما يقود إلى بيئة اقتصادية اجتماعية، تعتمد على أنماط إنتاج زراعية وفلاحية، وإن تبدلت بعض أحوالها في العقود الأخيرة من القرن الماضي ومطلع الألفية، نتيجة التحولات الاقتصادية، وزيادة النمو السكاني، وتوسّع التعليم والرعاية الصحية.

هكذا، ورغم التمسّك الذي أبداه المحتجون، أو غالبيتهم، في السويداء، بالإطار الوطني، الذي نشأت عليه الدولة السورية وسرديتها الرسمية، إلا أن حرب العقد الفائت، تؤكد أن هذا الإطار، وإن جرى تكراره على ضفتي الانقسام السوري، بات إطارا مخلّعا، ويدرك الجميع صعوبة ترميمه، بعد قمع مديد مارسته السلطة، التي انحطت إلى طرف، بين أطراف النزاع الأهلي.

وفي هذا السياق، فربما كان من أكثر الظواهر إثارة للتساؤل في احتجاجات السويداء، علم “الحدود الخمسة”، الذي رفعه المحتجون بكثافة، ويراه كثيرون رمزا للطائفة الدرزية، وتحديا مباشرا لمركزية الدولة السورية، وأفكار “الوحدة الوطنية”؛ فيما يؤكد آخرون أنه لا يتناقض أبدا مع الرواية الوطنية السائدة. وقد تكون حرب الرايات، بكل ما تحمله من دلالات رمزية وسياسية وثقافية ومذهبية، إحدى أهم فصول الحرب السورية عموما. فقد كان نقض الاجماع المفترض حول علم “الجهورية العربية السورية” الحالي، الإعلان الأهم عن التخلّع الوطني الحاصل.

 يبقي التساؤل مشروعا وملحّا، بعد عقد من الدم والدمار، حول الأشكال والهياكل السياسية الممكنة مستقبلا، بهدف خلق روابط سياسية جديدة في سوريا، خاصة بعد فشل مشاريع “الصهر في بوتقة واحدة”، على ما تقول عبارة وحدوية سورية شهيرة. فما الذي يقوله اقتفاء أثر الوقائع التاريخية، التي ربطت سكان جبل حوران بالسلطة، منذ سكناهم المكان؟ وما الذي يميّز احتجاجات السويداء، ضمن السياق الذي حكم علاقة هذه المساحة الجغرافيا وأبنائها، بالسلطة القادمة من خارجها؟ وهل يمكن لمظاهراتها اليوم أن تفضي إلى مشروع سوري، يطوي صفحة سنوات الحرب الفائتة؟

حاملو البيارق: لماذا رفع الجبل العلم العربي والعلم السوري؟

يبدو تناول سياق التاريخ السياسي والاجتماعي لجبل الدروز، أو “جبل العرب” كما هو اسمه اليوم في المرويات الرسمية، ضرورة لإجلاء كثير من اللبس، الذي يحيط تواريخ بعض الجماعات والأمكنة في منطقتنا، ويركّبُ فوقها من الصور المتخيلة، والتحليلات الجوهرانية، ما لا تحتمله.

بالعودة إلى أواخر القرن السابع عشر، وصلت من جبل لبنان إلى الجبل، الذي صار اسمه “جبل الدروز”، أولى المجموعات الدرزية، نتيجة للنزاعات العائلية والعشائرية في لبنان، لتستقر في قرية نجران غربي السويداء، وكانت من آل الحمدان وأبو فخر، إلا أن كثافة الهجرة من جبل لبنان والشوف ستبدأ ما بعد عام 1711، الذي شهد هزيمة تحالف العائلات والقبائل اليمنية على يد تحالف القبائل القيسية في معركة “عين دارا” (والصراع بين قيس ويمن لم يتوقف يوما في التاريخ العربي والإسلامي، من الجزيرة العربية وحتى الأندلس) ما أدى إلى نزوح عدد من العائلات المنضوية في الحلف اليمني باتجاه منطقة حوران، التي كانت مسكونة من عائلات فلاحين، يدينون بالإسلام أو المسيحية، بينما يرتحل بين قراها وخرائبها المهجورة، التي ستتحوّل إلى قرى مأهولة، قبائل من البدو، أهمها مشيخات الفحيلية والسردية والسرحان، التي حصلت على لقب “مشيخة حوران” من الدولة العثمانية، مقابل جبايتها للضرائب، وحماية قافلة الحج.  

خلال هذه المرحلة من القرن الثامن عشر، تمكّن السكان الفلاحون في حوران من إضعاف المشيخات البدوية، نتيجة كثافة توطّن الفلاحين في القرى وإعمارها، ليشغل آل الشبلاق في السهل منصب شيخ المشايخ، فيما شغل آل الحمدان المنصب نفسه في الجبل، وانتقلوا من نجران إلى مدينة السويداء، ليتخذوها مركزا لهم، فيما تمتّع آل أبو فخر، إلى جانبهم، بسلطة دينية واقتصادية وازنة، وكان تركّز سكن القادمين الجدد في المناطق الغربية والشمالية الغربية من محافظة السويداء اليوم.

استمر توافد العائلات الدرزية إلى المنطقة، قادمة من ثلاث جهات أساسية: الجبل اللبناني ومنطقة الشوف؛ ومنطقة الجبل الأعلى وجبل السماق بالقرب من حلب؛ ومناطق الجليل الأعلى وصفد، لذا تكثر بين عائلات السويداء التسميات التي تدلّ على المناطق والقرى التي قدمت منها، مثل “الريشاني” و”القلعاني” و”العقباني” و”الصحناوي” و”المتني” وغيرها، بينما بقيت حمولات الهجرة الثلاث الكبرى تطبع السويداء باسمها حتى اليوم، وهي: الحلبية، التي شملت العائلات القادمة من الشمال؛ والصفدية، للعائلات التي جاءت من الجليل وصفد؛ والشوافانة، للعائلات القادمة من لبنان. أمّا إعمار القرى والخرائب المهجورة، فيفسّر تكرار كلمة خربة في أسماء كثير من القرى، مثل “خربة عواد”، “خربة الإمباشي”، “خربة دير الجوخ”، “خربة القرعة”.

بلغ عدد القرى المسكونة، التي أعيد إعمارها، حوالي ثلاثين قرية، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بسب ازدياد وتيرة الهجرة، وذلك جراء عدة عوامل، منها استمرار الصراعات العشائرية والعائلية في جبل لبنان، ومن ثم اشتعال الصدامات الطائفية فيه، والتي أدت إلى خسارة المقاطعجية الدروز لما يقارب عشرا من أصل اثنتي عشر من مقاطعاتهم، ومنازعة الموارنة لهم على موارد جبل لبنان والشوف.

يضاف إلى ما سبق، تشجيع الدولة العثمانية هجرة الدروز إلى جبل حوران، كي يتصدّوا لغارات البدو وهجماتهم على القوافل، ضمن إطار تحديث وحماية الطرق في القرن التاسع عشر، وفي هذا لم يكن الدروز الوحيدين، الذين استخدمتهم السلطنة العثمانية، بل سمحت لأعداد من الإسماعليين بالعودة إلى مدينة السلمية ومحيطها، في ريف حماة؛ وأسكنت مجموعات من الشركس، في قرى وبلدات على خط البادية، الممتد من حلب شمالا حتى العاصمة الأردنية عمان جنوبا. لتتولّى الجماعات الثلاث حماية المناطق التي أُسكنت فيها من غزوات البدو الرحّل. ولو راقبنا خط سكن هذه الجماعات من الشمال إلى الجنوب، يمكن ملاحظة أنها تسكن على خط هطول المطر، إذ تتراجع نسبة الهطولات المطرية شرقي هذا الخط، وتتصاعد غربه، وصولا إلى الساحل. وهذا لا ينفي استخدام وتأليب السلطات هذه الجماعات ضد بعضها أحيانا، مثل النزاعات التي كانت تقوم بين الدروز والشركس في قرى القنيطرة والجولان؛ كما لا ينفي تحوّل جبل حوران إلى معقل للتمرّدات الدائمة، التي أقلقت الدولة العثمانية، على عكس ما طمحت إليه، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918).  

ضمن هذا الإطار، استمر توسّع العائلات الدرزية وسكنها في جبل حوران، وإعادة إعمارها للمواقع المهجورة، منذ أيام الدولتين الأيوبية والمملوكية، فبدأت تتحوّل إلى قرى مأهولة، تزدهر أحيانا، أو ينتقل أهلها منها إلى قرى أخرى، بحسب مقتضيات الأمان أو كرم الطبيعة، إلا أن ضغط القادمين الجدد سيدفع العائلات للتوسع من الشمال والشمال الغربي، باتجاه الجنوب والجنوب الغربي، كما سيبدأ النزاع البيني على الموارد، التي ستحجزها العائلات الأكثر عددا وقوة وسطوة، قبل أن تتحوّل تسميتها إلى “عائلات عريقة”، بعد جيل أو جيلين من توطيد سلطتها وتحالفاتها، على جري العادة في كل زمان ومكان.   

هذه السكنى ستترك أثرها على حياة الدروز، ولهجتهم ولباسهم وأغانيهم وأسماء مواليدهم، التي ستنطبع أكثر بالعمق البدوي للمنطقة، والممتد من بادية الشام وصولا إلى الجزيرة العربية، هكذا سيجري مثلا تبنّي لبس العقال العربي على رؤوس الرجال، وتبدأ الأحرف اللثوية تحجز مكانها الظاهر على ألسنتهم، وتنتشر أغاني الجوفيّات (نسبة إلى منطقة الجوف في الجزيرة العربية) وغيرها من أنماط الغناء والشعر الأقرب للبداوة، ثم ستُبنى التحالفات العابرة للطوائف، بين البدو المرتحلين، والفلاحين المستقرين أو شبه المستقرين، وهؤلاء دروز ومسيحيون ومسلمون سنة وشيعة، كلما اقتضت الحاجة إلى الوقوف في وجه السلطة، التي تريد جباية الضرائب، وفرض التجنيد الإجباري، ونزع السلاح.  

إلا أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سيشهد تحولات هامة، فعدا عن كثافة الهجرة، وتوسّع إعمار القرى والبلدات، ستبرز مجموعة من العائلات، لتحتل مكانة لم تشغلها سابقا، بعضها بدأ بروزها خلال المعارك، التي خاضها أهالي الجبل ضد جيش إبراهيم باشا، أثناء محاولة حاكم مصر محمد علي التوسّع في بلاد الشام، على حساب السلطنة العثمانية (1832-1840).

ضمن هذه التحولات السكانية والسياسية، سيحجز آل “الأطرش”، المنحدرون من العائلات القادمة من الجبل الأعلى قرب حلب، مكانتهم، بعدما انتزعوا السيطرة من أيدي آل الحمدان، فيما سيترسم نفوذ العائلات الجديدة على خارطة الجبل، متزامنا مع صعود المكانة الدينية لعائلة الهجري القادمة من جبل لبنان، والمستندة إلى إرثها الديني، وكذلك آل الحناوي من سكان القرى الجنوبية، وهؤلاء استندوا إلى علاقة نسب وخؤولة مع أولاد إسماعيل الأطرش، مؤسس السلالة الطرشانية. في المقابل سينحسر جزء من النفوذ الاقتصادي لآل أبو فخر، أمام الضغط  العددي والاقتصادي للعائلات المنافسة في المنطقة الغربية من السويداء، وبعد خسارة حلفائهم آل الحمدان لسلطتهم.

شغلت الصراعات والتحالفات العائلية جزءا مهما من أحداث المرحلة، وانتقلت كثير من العائلات من قراها إلى أماكن أخرى، كي لا تدخل في منافسات مع عائلات مجاورة، لذا يندر أن لا يكون هناك عائلة لم ترتحل بين قرية وأخرى تلك الأيام، بوصف ذلك نتيجة مباشرة للصراع على الموارد، الشحيحة أصلا.

قدوم عائلات جديدة وانهيار سلطة قديمة، لم يمر دون صراعات داخلية في الجبل، وهي المعروفة باسم “ثورة العامية” (1888-1890)، والتي اصطدمت فيها مجموعة من العائلات بسلطة آل الأطرش، التي فرضت نفسها رسميا مكان آل الحمدان منذ عام 1875، فاستطاعت الانتفاضة تحصيل حقوق للفلاحين، بعد صراعات بينية دامية، وتدخّل الجيش العثماني، ومن الملفت أن قادة العامية الأساسيين هم من المنحدرين من جبل لبنان، ممن عاشوا ثوراته الفلاحية العامية، ونقلوا أجواءها ومطالبها معهم إلى موطنهم الجديد، وبنوا، خلال انتفاضتهم هذه، تحالفات عابرة للطوائف والانتماءات العائلية العشائرية.

 أما سهل حوران، والذي سيشكل لاحقا محافظة درعا، فانهارت فيه سلطة آل الشبلاق، ليصعد مكانهم آل الحريري، وإلى جانبهم مجموعة من العائلات، التي توزّع نفوذها على جهات السهل الخصبة.  

تشير هذه التحولات إلى الأثر الذي تركته حركة الانتقال والهجرة السكانية، إضافة إلى حركة التوطّن التي شهدتها منطقة حوران، والتي يمكن لها أن تفسّر أيضا، كيف صار يشار إلى جبل الريان أو حوران في بعض المراجع القديمة، بتسمية “جبل الدروز”، خاصة لدى الرحالة الأوروبيين، وهي التسمية التي كانت تشير سابقا إلى جبل لبنان، قبل أن تنتقل عائلات درزية بكثافة إلى الجنوب السوري.

ضمن هذا الإطار والذي شهد صدامات داخلية ومع المحيط، ومن ثم مع السلطنة العثمانية، التي سعت إلى بسط نفوذها على حوران كاملة، دخلت السويداء القرن العشرين، وهي على خصومة مع السلطات العثمانية، التي لم تتردد في ارتكاب أعمال القتل والتخريب، مثل التي رافقت القضاء على الانتفاضة العامية، أو خلال حملة سامي الفاروقي عام 1910، في محاولة بسط نفوذ السلطة على الجنوب السوري، كما لم تتردد بإعدام مجموعة من الوجهاء المحليين عام 1911، بينهم والد سلطان الأطرش، الذي سينحاز لاحقا إلى الشريف حسين في وجه السلطنة العثمانية، وسيساعد مع رجاله طلائع الجيش العربي، الذي قاده فيصل بن الحسين، لتحتفظ السردية المحلية في السويداء لنفسها بمفخرة دخول دمشق، ورفع العلم العربي فيها في 30 أيلول/ سبتمبر 1918، قبل يوم من وصول فيصل ومن معه. هكذا بات الجبل في قلب رواية القومية العربية.

سامي الفاروقي

ستحتفظ السويداء لنفسها أيضا بأسبقية رفع علم الاستقلال السوري عام 1945، وبتحمّل الكلفة البشرية والاقتصادية للثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي (1925-1927)، لكنها أيضا ستتذكر خلف هذا مرارة العلاقة مع السلطة في المرتين، إذ لم تلبث مجموعات المقاتلين الدروز بالعودة إلى جبلها بعد إعلان الحكم العربي، وبرود العلاقة بضباط فيصل، الذين بدأوا يركّزون سلطتهم في العاصمة؛ أما بعد جلاء الفرنسيين عام 1946، فسرعان ما تورّطت السلطات بتأليب الصراعات الداخلية في الجبل، فيما يعرف بأحداث “الشعبية والطرشان” عام 1947، ثم قصفت الطائرات الحربية السويداء عام 1953، ووقع ما لا يقل عن 250 ضحية، ما أعاد إلى ذاكرة الناس، القذائف التي رمتها عليهم الطائرات الفرنسية إبان ثورتهم، لتلعب الحادثة دورا أساسيا في خلع الرئيس السوري أديب الشيشكلي في شباط/فبراير 1954.

هذه التواريخ الحساسة، تطبع العلاقة والتفكير بالسلطة القادمة من خارج الجبل، لدى كثيرين، أيا كانت هذه السلطة، وأيا كان صاحبها، وربما يفسّر هذا اللامبالاة التي تظهرها بعض الفئات تجاه التغيير حتى اليوم، إذ يرونه دائما على حسابهم، وهنا لا يجري الحديث عن مظالم متخيّلة، بل عن وقائع حقيقية، ما زال هناك شهود أحياء عليها، وما زالت الأشعار والأغاني الشعبية تحتفظ برواية أحداثها، وذكر أسماء أبطالها، وأسماء خصومهم وأعدائهم.   

هكذا فإن حركات النزوح والصراع العشائرية منذ مطلع العصر الحديث، خلقت جماعة لها خصوصيتها، كانت دوما متصلة ومنفصلة مع كل ما يجري حولها. وأعطى لها طابعا غريبا بعض الشيء، فالسويداء في قلب القومية العربية والوطنية السورية، ولكنها، وفي الوقت نفسه، “جبل الدروز” أولا وأخيرا.

صراع الرايات: من راية البعث إلى “الحدود الخمسة”

ظهرت راية “الحدود الخمسة” بين الدروز في مطلع القرن العشرين، ورغم وجود هذه الألوان الدلالية في الموروث الديني للموحدين الدروز، إلا أن الراية تبقى أمرا مستحدثا، وربما هذا ما يفسر اختلافات شكلها، أحيانا، لنراها مرة على شكل نجمة

أو على شكل مستطيلات متوالية، بينما يمكن أن يرد اللون الأخضر فيها على شكل مثلث، فتتشابه مع الأعلام الرسمية للأردن أو فلسطين مثلا.

لا ينفي هذا قدم الدلالات اللونية، التي تحيل بشكل مباشر إلى كبار الدعاة الفاطميين من مؤسسي المذهب؛ وفي جانبها اللاهوتي تأخذ دلالات أبعد، تتعلق بقصة الخلق وتفسيراتها.

غير أن الراية اتخذت مع الوقت، بعدا اجتماعيا وسياسيا، إضافة إلى رمزيتها الوجدانية الدينية لدى المؤمنين، وربما هذا ما دفع شيخ العقل حكمت الهجري، لتوضيح أنها لا تتناقض مع راية الجمهورية، رغم أن هذه الأخيرة مختلف عليها، بين ضفتي الانقسام السوري اليوم، فبينما يرفع النظام علما تم تبنيه إبان الوحدة المصرية السورية (1958-1961)، يرفع جزء من المعارضة السورية علم الاستقلال، وتدور بين المعارضين أنفسهم أسئلة وخلافات حول طريقة تبنيه وتعميمه، منذ مطلع عام 2012.

في ظل هذه الصراعات تجدر الإشارة إلى أن أهالي الجبل وسكانه كانوا دائما يخوضون معاركهم تحت ما يسمى “رايات البيارق”، إذ نشأ لكل قرية بيرق خاص بها، كان يحمله عادة رجل قوي البنية، ويتصف بالشجاعة، وغالبا ما يتم اختياره من العائلات التي لا تتمتع بموقع الصدارة، في نوع من الاعتراف بالقوة البدنية والميزات الفردية سبيلا للصعود الاجتماعي وحجز المكانة، وربما لتلافي الخلافات العائلات، وتوزيع المهام بين أبنائها. عملت حركة “رجال الكرامة”، وهي مجموعة مسلحة أسسها الشيخ وحيد البلعوس، قبل اغتياله في أيلول/سبتمبر 2015، على استعادة نظام البيارق هذا.

ومن الملفت في تظاهرات السويداء ارتفاع علم الاستقلال، إضافة إلى العلم الرسمي حتى الآن، فيما يبدو أنه رسالة من المحتجين لتوحيد السوريين. غير أن الراية، التي تلقت الهوان والسخط، هي راية حزب البعث، لا بل أغلقت مقرات الحزب بآلات تلحيم الحديد، ومنعت بعض القرى ترديد شعاراته في مدارسها، في دلالات لا تخلو من رمزيتها التاريخية.

ذاك أنه، ومنذ تأسيسه، شغل البعث مكانة في السويداء، بين مجموعة من الأحزاب الأخرى، إذ أن الشعارات العلمانية والعروبة والمحافظة الاجتماعية والنبرة الخطابية، التي ميزت المزاج البعثي؛ وانتشاره في أوساط فلاحية، جذبت عددا كبيرا من أبناء المحافظة، فكان لهم حضورهم ضمن المراحل المختلفة التي مرّ بها الحزب، في رحلة صعوده وانحطاطه. فقد استقطب البعث أبناء وجهاء بارزين، على رأسهم منصور بن سلطان الأطرش، وشبلي العيسمي، اللذين سينتهي الأمر بهما منفيين، بعد انقلاب 23 شباط/فبراير 1966، وبينما سيعود الأطرش إلى المحافظة مطلع السبعينيات، دون أن يمارس دورا سياسيا، سيبقى العيسمي في المنفى، حتى اختطافه من مدينة عاليه اللبنانية عام 2011، وقد تجاوز الثمانين من عمره.

كما عرف جناح البعث العسكري أسماء، مثل سليم حاطوم وفهد الشاعر، وبينما انتهى الأول مقتولا على أيدي رفاقه، الذين حاول الانقلاب عليهم، عاش الثاني حياته في الظل، بعد خروجه من السجن، يعاني آثار التعذيب، حتى وفاته منتصف التسعينيات.

الأسماء الأربعة السابقة، هي نماذج لعشرات الأسماء الأقل شهرة ربما، والتي يعرفها أبناء السويداء، توزّعت على أجنحة البعث وتشكيلاته، ولقي معظمها مصير المذكورين سابقا، لتكون جزءا من سجل الخيبات من السياسة والسلطة في الرواية المحلية للأحداث، ومن استطاع منهم البقاء  داخل سوريا، دون أن يسجن، اكتفى بنشاطاته الاجتماعية، والكلام الموارب في المضافات، إذا أتيحت له الفرصة، بينما حاول من أسعفه العمر والصحة الانخراط في أجواء الحماس، التي رافقت احتجاجات 2011.

تبدو عملية إغلاق مقرات البعث، وإزالة أعلامه، نتيجة مباشرة لما اقترفه الجهاز الحزبي، الذي تكرّس واجهة مدنية للصيغة المخابراتية العسكرية الحاكمة، كما أنه كان سلما لصعود شخصيات هزيلة، وأداة لتحييد أسماء وازنة، في لعبة، وإن أتقنتها السلطة، إلا أنها لم تكن لتمرّ دون أثر، في مجتمع محافظ على أعرافه وتراتبيته، ويقلق من تغييرها.

غير أن إزالة أعلام البعث، الذي بشّرَ أعضاءه، على ما يقول نشيده، بأنه “صامد في ساح النضال“، وكذلك بتوحيد الشعب، في بيت آخر: “وحّد الأحرار هيّا /وحد الشعب العظيم“، انتهى بنتيجة تفتيتية كارثية سابقا، سواء في العراق أو في سوريا. فمن أغلقوا مقراته طوال العقد الماضي، على امتداد الأراضي السورية، لم يحملوا بالضرورة رايات جامعة أو عابرة للانقسامات، ما يجعل كثيرين في المنطقة يتساءلون عن القادم، وعن التفاعلات التي سيحملها، والنماذج التي يمكن لها أن تبرز. هذه التساؤلات أو التخوّفات المشروعة، لا تعني أبدا أن القديم لم يحن أوان إزالته، كي يمكن للجديد أن يبصر النور.

التفكير في المستقبل: لماذا لا يُبعث ماضي “العاميّة”؟

فتحت الانتفاضات في الدول العربية الباب واسعا على التساؤل حول مستقبل الدولة، وكيفية تشكّلها، والروابط التي يمكن أن تربط رعاياها. فقد انهارت دول الاستقلال العربية، التي تأسست ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت مسيرة تقهقرها الواضحة منذ نهاية الحرب الباردة، لتتحوّل معظمها إلى دول فاشلة أو شبه فاشلة، ثم لتغدو مجرد طرف في حرب أهلية عربية مديدة، سواء خاضت هذه الحرب داخل أراضيها، أو في أراضي جيرانها.

في المقابل، ظلت مشكلة الثورات العربية، خلال العقد السابق، افتقادها للجذرية السياسية الواضحة، وميل خطابها إلى الإصلاح، على ما يلاحظ عالم الاجتماع الإيراني آصف بيات، فهي، وإن طالبت بإسقاط النظام، إلا أنها تكتفي بهذا ولا تقول كيف، كما أنها لا توضح إلى من توجه طلبها، ولا تقول ما هو مشروعها بعد إسقاط الأنظمة. فيما لم يتردد كثر من الثوار/ الناشطين، بالتأكيد على أنهم لا يريدون السلطة، ولا يسعون إليها، في تصريحات لا تخلو من الأثر التطهّري، الذي أشاعته الحالة الناشطية في الأجواء السياسية العربية، ما فوّت عليهم فرصة إبلاغ وإقناع مجتمعاتهم، بكيفية تغيير أحوالها البائسة. وما عدا الكلام الغائم، عن الديمقراطية وصناديق الاقتراع و”الدولة المدنية”، لم يشرح هؤلاء للناس، كيف سيحققون برامجهم التغييرية، بينما غابت قضايا جوهرية، مثل التوزيع العادل للثروة عن قاموسهم بالمطلق، وحضرت مكانها خطابات معلّبة عن التنمية والتمكين والمشاريع الصغيرة، ما أدى لانفضاض جزء من الناس عنهم، وترك الطريق مفتوحا أمام من هم أكثر تنظيما وأوضح هدفا، وإذا كان من أبرز هؤلاء العسكر والإسلاميون، فهناك أيضا القوى الأهلية والطائفية والزعامات المحلية، المستندة إلى البنى الاجتماعية التقليدية.

ضمن هذا الإطار العام، تأتي احتجاجات السويداء، التي توسّعت قاعدة داعميها، بالاستناد إلى تردي الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع الاحتجاجات المطلبية، وهي وإن ظهرت بهذه القوة في الأسابيع الفائتة، فإنها سارت بمسار تدريجي منذ عام 2015، ازداد حدة وتصاعدا، بعد هدوء الجبهات نسبيا عام 2018، وتوقّف مظاهر اقتصاد الحرب، وتحوّل المحافظة لساحة مفتوحة، تتقاسمها عصابات الخطف وتجارة المخدرات، وهذا، فضلا عن تهديده الأمني للناس، شكّل تحدّيا واضحا لقيمهم وأعرافهم الاجتماعية.

غير أن العتبة، التي تجاوزتها الاحتجاجات، تحتاج اليوم إلى من يقول كلاما واضحا في السياسة، يدعم وضوح المتظاهرين في الشارع، وهذا ما افتقدته الساحة السورية على مدار العقد الفائت، بعد تولّي هياكل المعارضة الهزيلة وشخصياتها تمثيل الناس، وكل هذا يعتمل في سياق سنوات من الحرب، ورغبة  صادقة بالتغيير، غير أن هذه الرغبة تقع عليها مسؤولية التفكير بالأشكال التمثيلية، والروابط السياسية التي تريد انتاجها، لتحقق ما تريده.

قد يكون أحد أهم الأسئلة، التي تفرض نفسها على المُطّلع على تاريخ الجبل، سواء سميناه جبل حوران أو العرب أو الدروز، هو لماذا لا تلجأ منطقة شديدة الاتصال بتراثها وتاريخها، إلى تجربة مترسخّة في انتفاضاتها الشعبية منذ القرن التاسع عشر، وهي تجربة “العاميات”،  أي الهيئات الشعبية المستقلة، التي يديرها عوام الفلاحين والحرفيين، في وجه السلطات المركزية والعائلات المتنفّذة. هل السبب هو الخوف من اتهام أهل الجبل بنزعة انفصالية؟ أم أن التركيب الطبقي الحالي للحراك، الذي تتصدره القيادات الدينية والعائلات الكبيرة، يمنع التفكير بـ”العامية”؟ أم السببان معا؟

من وثائق العاميات في جبل لبنان

من جديد، يبدو أن الجبل يعيش تناقضه، الذي يمكن وصفه بـ”التكويني”، فهو دوما عنصر مؤسّس في الخطابات المركزية، ومن جهة أخرى شديد الاستقلال والخصوصية عنها، وربما سينتج الحراك الحالي إجابة جديدة عن هذا السؤال التكويني، تؤثّر، كالعادة، على مصير سوريا بأكملها.

المراجع

فندي أبو فخر، التاريخ الاجتماعي لجبل حوران 1685-1918.

بريجيت شيبلر، انتفاضات جبل الدروز حوران من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال 1850-1949.

خيرية قاسمية، الحكومة العربية في دمشق 1918-1920.

عبد الله حنا، العامية والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران 1859-1918

Joseph Kessel, Voyage en Syrie .

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.9 8 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات