“ألف ليلة وليلة” التلفزيون: كيف تطوّرت النسخة “المؤدبة” من مخيّلة المنطقة؟

“ألف ليلة وليلة” التلفزيون: كيف تطوّرت النسخة “المؤدبة” من مخيّلة المنطقة؟

لا تعدّ ألف وليلة وليلة دخيلة على الدراما، حتى من قبل إنشاء التلفاز، إذ بدأ بثها في الإذاعة المصرية عام 1955، ثم انتقلت إلى التلفاز المصري، بعد إنشائه بتسع سنوات، ومنذ ذلك الحين لا تمر بضعة سنوات، إلا وتُصنع منها نسخة جديدة، والتي كان آخرها مسلسل “جودر” هذا العام 2024، والذي حظى بنجاح كبير، ضمن موسم رمضاني زخم.

تغيّرت طبيعة الليالي طيلة زمن عرضها الدرامي، حسب رؤية كل مؤلف، والأسلوب الأدائي لكل فنان، وذلك يتسق مع كونها نصا مبنيا في الأصل على أساسه الشفوي، الذي انتقل عبر كثير من بلدان العالم. ورغم تدوينه، ما زال حتى الآن قادرا على أن يحمل بصمات منتجيه وسارديه ومؤديه، وأن يمتزج مع الظروف الاجتماعية والسياسية المختلفة، ما جعل منه كائنا حيا لا يموت أبدا ولا يشيخ، بل يزداد ألقا.

كيف بدأت الليالي من الأصل في الدراما؟ وكيف تغيّرت على مدار عرضها؟ وكيف اختلفت عن نسختها الشعبية الأصلية؟ ما الذي اهتم الصنّاع بتقديمه، وما الذي ركزوا على حذفه في تاريخ عرضها الطويل؟ كيف تعاملوا بالذات مع الحكايات الجنسية، التي تحفل بها الليالي؟

الليالي بوصفها رقصة: لماذا ظهرت الحكاية بهيئة استعراض؟

ظهرت أول نسخة لليالي في الإذاعة بمحض الصدفة، كما أوضحت مجلة “الجيل”، فقد تلقى محمد أمين حماد، رئيس الإذاعة المصرية آنذاك، مجلدين من نسخ الليالي. وبعد أن زاره المخرج محمد محمود شعبان “بابا شارو”، وجدا، بتصفّح المجلدين، أن الليالي مادة غنية، يمكن استخدامها في الإذاعة. ومن هنا بدأ الإعداد لتقديمها، عبر تكليف الشاعر طاهر أبو فاشا بكتابة محتوى خاص للإذاعة عن قصص الليالي، فيما قام بدور شهريار عبد الرحيم الزرقاني، وقامت بدور شهرزاد زوزو نبيل، التي تعد أشهر صوت لشهرزاد على مدار الليالي.

بعد ظهور التلفاز كانت الفكرة مغرية لإعادة إنتاج الليالي من جديد، ومن هنا ظهرت أول نسخة لها من بطولة محمود الدفراوي وسهير المرشدي عام 1969، وإن كانت هذه النسخة قد اختفت، ولم يظهر منها على الإنترنت إلا الحلقة السادسة عشرة، التي رفعتها قناة “ماسبيرو زمان” على يوتيوب، أما النسخة الثانية لليالي، والتي تعدّ أشهر النسخ وأكثرها نجاحا، ومازال ذكرها يتردد حتى الآن، فقد عُرضت عام 1984، من بطولة حسين فهمي ونجلاء مصطفى، وهما من أشهر نجوم عصرهما آنذاك. وإن كان المؤلف قد اختار أن يجعل شخصية شهرزاد قريبة من فتيات جيلها، لذا نسج حكاية حول شهرزاد، الفتاة المعاصرة، التي تجد مصباحا سحريا، وتطلب من مارده أن تعود إلى زمن ألف ليلة وليلة، رغم أن الليالي في الأصل بالطبع ليست حدثا تاريخيا يمكن العودة إليه. تجد الفتاة نفسها بصحبة أبيها في زمن سحري، وتقترح الذهاب لشهريار، كما في الحكاية الأصلية، وإن كانت تتعالى عليه بداية، لظنها أن مسار الحكاية واحد، وبالتالي رقبتها معفاة من الموت، إلا أنها تكتشف أن الحكاية مرهونة بتصرفاتها، فتفعل مثلما فعلت شهرزاد.

فيما بعد، انتبه صنّاع الدراما إلى ما يمكن أن تحويه الليالي من استعراضات أو غناء، بالطبع لم يكن هذا ممكنا خلال نسخة عام  1984، لأن أيا من البطلين لم يكن مغنيا أو راقصا، وكان التركيز على صناعة دراما من الحكايات، لذا ففي العام الذي يليه، 1985، أوكلت لشيريهان، أشهر بطلة استعراضات حينها، بطولة مسلسل “ألف ليلة وليلة: عروس البحور”، والذي تم فيه التركيز على حكاية بعينها من الليالي، مع إعادة استخدام صوت زوزو نبيل الشهير من نسخة الإذاعة، في شارة المسلسل، وعبر الرسوم المتحركة.

 كانت شهرزاد (صوت زوزو نبيل الإذاعي) الراوية، فيما تقوم شيريهان بدور عروسة البحور، وهو الأمر نفسه، الذي سيتكرر في العام التالي، بعنوان “ألف ليلة وليلة: وردشان وماندو”، ثم في العام الذي يليه، بعنوان “ألف ليلة وليلة: الثلاث بنات (كريمة وحليمة وفاطيمة)”.

بالتأكيد، كان مقدّرا استكمال عديد من حكايات ألف ليلة وليلة، من بطولة شيريهان، إلا أن الحادثة التي تعرّضت لها عام 1989، حالت دون استكمال تلك السلسلة، فقامت ليلى علوي، في العام نفسه، باستكمال بطولة السلسلة، بعنوان “ألف ليلة وليلة: الأشكيف وست الملاح”، مع بعض الاستعراضات، التي لا يمكن مقارنتها بالتأكيد بتلك التي كانت تؤديها شيريهان، المتخصصة بالاستعراض. ثم وفي عام 1990 استكملت الفنانة رغدة السلسلة، تحت عنوان “ألف ليلة وليلة: بدر باسم وجوهرة بنت السمندل”، والتي كانت الموسم الأخير، الذي قدم الشكل الاستعراضي، بالبداية الموقّعة بصوت زوزو نبيل.

الملفت أنه في العام نفسه، 1990، أنتج مسلسل آخر لليالي، بعنوان “ألف ليلة وليلة: حمّال الأسية”، حرص صنّاعه على التميّز في الغنائية، لذا كان بطلاه هما المطربان علي الحجار وسلمى الفلسطينية، ولكن لم يكتب له النجاح، ربما لأن الجمهور العربي لم يكن في الغالب متحمسا إزاء المنتجات الغنائية الطويلة.

الليالي بوصفها حكاية: هل أدّى الممثلون أفضل من الراقصين؟

في عام 1991، أي العالم التالي مباشرة، تشجّع الصنّاع على أن يصبح أبطال الليالي من مشاهير نجوم الدراما، بعد أن ظلّت الليالي لسنوات أسيرة للاستعراضات والغناء، مثل يوسف شعبان وإيمان الطوخي، في مسلسل “ألف ليلة وليلة”، والذي استُكمل الحكاية الموازية لشهريار وشهرازاد، بجانب استكمال القصص، التي ظهرت في نسخة المسلسل الأولى عام 1984.

في كل النسخ، التي تلت النسخة الأصلية، لم يبد صنّاع الأعمال مهتمين بالقصة المركزية لليالي، مثل البداية الخاصة بتضحية شهرزاد، أو قصة شهريار مع زوجته، وإنما بسرد الحكايات الفرعية، التي ترويها شهرزاد، وكأن ما نشاهده حاليا هو استكمال لقصة مركزية نعرفها سلفا، ربما لأن صنّاع المسلسلات شعروا أن الحكايات تنتج كل عام جمهورا، على معرفة بالفعل ببداية القصة الشهيرة، ومن هنا لا حاجة لكثير من المقدمات، والأجدى التفرّغ لسرد حكايات، مثل الصياد، المارد، الأربع سمكات، ست الحسن، الشاطر حسن، الملك يونان، الحكيم رويان، السبع بنات، القضاء والقدر، بنت السلطان والأمير المسحور.

ثم وفي العام التالي 1992 قدّم سمير غانم نسخة جديدة للغاية من الليالي، أيضا باسم “ألف ليلة وليلة”، عبر تحويل القصة الأسطورية، لأخرى بشكل كاريكاتوري، بداية من الملابس الغريبة، وأغطية الرأس المبالغ في ضخامتها وهيئتها، مرورا بطريقة الحديث نفسه، وانتهاء بالحكاية. وللغرابة فقد استخدمت هذه النسخة الكاريكاتورية، ولأول مرة، القصة الأقرب لنسخة الليالي الأصلية، من خلال رحلة شهريار إلى أخيه، بعد اكتشافه خيانة زوجته، ثم اكتشافه خيانة زوجة أخيه أيضا. ولكن الجديد الذي قدمه العمل، أن تلك الخيانة لم تحدث من الأصل، وأن شهريار قد قتل زوجته بناء على وهم، وليس حقيقة أكيدة.

في عام 1993 ظهرت نسخة أخرى من الليالي، بطولة إلهام شاهين وسمير صبري، باسم “معروف الإسكافي” والتي لا يتوفر منها إلا حلقة وحيدة على الإنترنت، ويبدو أنها لم تحظ بنجاح يشجّع عرضها من جديد. ثم، وفي عام 1994، عُرضت نسخة “ألف ليلة وليلة: السندباد” من بطولة فاروق الفيشاوي وآثار الحكيم، وهي أول نسخة يندر فيها الرقص، وإن كان العمل يبدأ هو الآخر من غير نقطة البداية في الحكاية بين شهريار وشهرزاد، بل تحدثّت شهرزاد على أنها سبقت وحكت قصة معروف الإسكافي، وهي قصة الموسم السابق، بأبطال مختلفين، وكأن العمل هو استكمال لقصص الليالي، التي تستمر كل عام.

ثم وفي عام 1995 وباسم “ألف ليلة وليلة: علي بابا والأربعين حرامي”، بطولة يحيى الفخراني ودلال عبد العزيز، ظهر أول استخدام “سياسي” لليالي في الدراما، عبر هجاء السلطة الحاكمة، بالحديث عن الضرائب والحكّام، من خلال أحداث المسلسل، أو عبر أشعار سيد حجاب، التي تغنيها شخصيات الأعمال. الأغاني هنا في الغالب في صلب العمل. كما أنه، ولأول مرة، تُقدّم شخصيتا شهريار وشهرزاد داخل العمل بأدوار معبّرة عن الشر. وهي بالطبع مجازفة قام بها الصنّاع لأول مرة، ولاقت النجاح الذي كانوا يرجونه آنذاك.

في العام التالي استكملت دلال عبد العزيز العمل، باسم “ألف ليلة وليلة: فضل الله ووردانه”، ولكن بصحبة بطل آخر وهو أحمد عبد العزيز، مع طاقم مختلف، وإن استمرت أشعار سيد حجاب. لا تبدأ القصة هنا من بداية الحكاية أيضا، وأهم ما تم تقديمه هو اطلاعنا على شخصيات جديدة، لا تقتصر على شهرزاد وشهريار، فهناك مسرور السياف، الذي يقع في حب جارية، وكان في الأعمال السابقة شخصا مجرّدا من الحب والرحمة، أما هنا يبدو قادرا على الحب، وهو ما يشجّع الملك على أن يفقد غضبه شيئا فشيئا، بجانب حكايات شهرزاد، والتي هي أساس ومحرك الحكاية.

توقفت الليالي لعام، ثم عادت في عمل عام 1998، بطولة بوسي وماجد المصري، باسم “ألف ليلة وليلة: ذات الخال”، وهنا يبدو شهريار غاضبا أكثر من أي جزء من مضى، بل يبدو غيورا حتى من كلمة “بلغني” التي تقولها شهرزاد في مطلع حكاياتها، ويتساءل: من أين بلغتها هذه الأخبار؟ بل ويحاول استقدام مسرور لقتلها، ومن ثم يتراجع، وإن كان في نهاية العمل يستسلم، ويقع أسيرا لحبها. وبطاقم صناع هذا العمل نفسه، مع تغيير البطل إلى أحمد عبد العزيز، عرض في العام التالي 1999 مسلسل “ألف ليلة وليلة: ذات المال”.

مع دخول الألفية الجديدة ظهرت من جديد رغبة في العودة إلى الليالي، باعتبارها عملا استعراضيا وليس دراميا، ومع شهرة نيللي، ونجاحها في الفوازير الرمضانية، شجّع هذا صنّاع الدراما على إنتاج نسخة من الليالي، على النمط التي كانت تقدمها شيريهان، وذلك باسم “ألف ليلة وليلة: ضوء المكان وبدر التمام”، وإن لم تُستكمل بأجزاء أخرى.

ليالٍ موازية: هل قدمت الدراما المعاصرة رؤى مغايرة لليالي؟

بعد فترة توقف طويلة نسبيا في عرض الليالي، عادت من جديد، ولكن برؤية مختلفة تماما عما كان يعرض سابقا، وبمحاولات تجديدية، وذلك في عام 2005، مع فاروق الفيشاوي ونيرمين الفقي، باسم “ألف ليلة وليلة: سالم وغانم”. وتنقلب هنا الآية تماما، فالملكة جليلة هي التي تعرّضت للخيانة، ومع هروب زوجها، تقرر قتل جميع الرجال، وتحكم مملكة من النساء فقط. يأتي جليل إلى المملكة بحثا عن كلبته، وبعدما يتم القبض عليه، يحكي حكايته، فتؤجل الملكة موته كل ليلة، لكي يحكي لها قصة الأخوين غانم وسالم.

بعد خمس سنوات، وبعنوان “مش ألف ليلة وليلة”، يقدم أشرف عبد الباقي وريهام عبد الغفور، قصة بطلاها هذه المرة شهرزاد وشهريار فقط، لتبدأ القصة في الليلة الأخيرة من الليالي. وفيها لا يبدو شهريار راغبا في العفو عن شهرزاد، بعد أن أنهت أيام حكاياتها، وترى في المنام أنها ستُقتل، فتقرر حينها التحكّم في مصيرها، لا عبر الحكايات بل عبر الثورة. ويعدّ هذا المسلسل، الذي أُنتج عام 2010، نقدا لاذعا للسلطة الحاكمة، التي كان يبدو أن الشعب قد ضاق بها ذرعا، وعلى استعداد هو الآخر للثورة عليها. فكان هذا العمل أقرب لواحدة من بوادر ثورة كانون الثاني/يناير عام 2011.

في عام 2015 عادت الليالي، هذه المرة ببطولة شريف منير ونيكول سابا، باسم “ألف ليلة وليلة”، مع ذكر طفولة شهريار، التي لم تظهر في الليالي السابقة، ورصد غيرة أخيه منه، والتي لم تكن موجودة في الليالي السابقة أيضا، مع رؤية مغايرة تماما لشخصية شهريار، لم يظهر مثلها أبدا في الدراما، فهو هنا الشرير تماما حتى النهاية، بل شره يصل إلى قتل زوجات الشعب، وزوجات وزرائه شخصيا. كما أنه، ولأول مرة، يظهر في لحظة قتل فتاة بدم بارد، بينما يأكل بجانبها التفاح، لتنتهي الحكاية بمحاولة أخيه اغتياله، ثم هروب شهرزاد وعائلتها من المملكة.

تأتي النسخة الأخيرة من الليالي هذا العام، 2024، بمسلسل “جودر”، والذي حظى بنسبة مشاهدات كبيرة في السباق الرمضاني الممتلئ بالأعمال، بسبب تقديمه لوصفة جديدة تماما هذه المرة.

“جودر”: هل تصلح الليالي لتقديم أبطال شعبيين؟

باسم “جودر – ألف ليلة وليلة”، وببطولة ياسر جلال وياسمين رئيس وجيهان الشماشرجي، بدأ المسلسل قريبا من بداية الليالي السابقة، إذ يطلب شهريار امرأة، ويتزوج بالفعل من ابنة وزيره، وهي ياسمين رئيس، والتي تحكي له قصة جودر المصري، وهنا، لأول مرة، شهرزاد تحكي فقط، وليست بطلة الحكاية، بعكس ياسر جلال، الذي يقوم بدوري البطولة، شهريار وجودر.

تتميز هذه النسخة من الليالي بأنها الأفضل بصريا من كل النسخ التي سبقتها، وبالطبع يرجع هذا لكونها الأحدث، ولتطور التقنيات في عصرنا. كما يأتي تميزها من إخلاصها للحكاية، عبر دمج كثير من قصص ألف ليلة وليلة ببعضها، إلى جانب استلهام القصص الشعبية، ليتحول جودر هنا من شخصية في حكايات شهرزاد، إلى ما هو أقرب للبطل الشعبي، فهو البطل الذي يتم تحضيره لفتح الكنز، بينما لا يفعل شيئا في القصة الأساسية سوى الأكل والنوم، حتى موعد فتحه.

يوضح الناقد فلاديمير بروب، أهم نقاد الحكايات الشعبية، في كتابه “مورفولوجيا الحكاية الشعبية” أن هناك واحدة وثلاثين وظيفة، وسبع شخصيات رئيسة في الحكاية الشعبية. الأمر الذي يتحقق كثير منه بالفعل داخل قصة جودر، الدرامية وليس الأصلية، ولأن الحكاية الأصلية لم يكن بها شرير يواجه البطل، أضاف المسلسل شخصية الشرير (طائفة الشمعيين)، لخلق صراع بين الخير والشر، ولتحقيق أغلب وظائف الحكاية الشعبية بالمسلسل.

أما عن دمج قصص الليالي نفسها، فنجد شخصية “شواهي ذات الدواهي” من حكاية “عمر النعمان”؛ فيما حكاية خيانتها للملك زوجها هي القصة نفسها التي ترد في “الصياد والعفريت”؛ أما مدينة النحاس فهي أيضا إحدى قصص الليالي، وكذلك قصة محاولة إغواء الأميرة لجودر.

وعلى الرغم من جدة وفرادة فكرة دمج القصص، ولكنها أيضا في بعض الأوقات تقع في فخ الإطالة وعدم الفائدة، وتصبح غير مفهومة، كأن تضطر شواهي، القادرة على السحر، من الزواج من ملك مدينة النحاس العجوز، وإخفاء حبها عنه، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بالرغبة في الالتزام بقصص الليالي، مما يجعل سردها في غير محلة أحيانا.

تغيرت أحداث أخرى أيضا، نظرا لطبيعة الليالي المتجاوزة لما يمكن أن تظهره الدراما، وهو ما يظهر في حلقة النهاية، ففي القصة الأصلية يلتقي جودر بشبح الأم، التي هي في الأصل جنيّة متنكرة، لكي يحصل على الكنز، وللحصول عليه  ينبغي أن يجبرها على خلع ملابسها تماما، ولكن في العمل الدرامي سيقابل شبح أبيه الراحل، ويجب عليه أن يغمد السيف في جسده. يفشل جودر في المرة الأولى، وينتهي العمل على هذا النحو، مع وعد بجزء ثانٍ، تحّمس له المتابعون.

لمَ ظهر الأب مكان الأم؟ ولمَ تجاهل الصناع تماما التفصيلة الأصلية في الليالي، رغم التزامهم بكثير من التفاصيل الأخرى؟

المخفي من الحكاية: كيف تجاهلت الدراما الجنس في الليالي؟

تعرّضت نسخة الليالي الأصلية لعديد من التغيرات، فالقصص التي بدأت شفهية، وانتقلت عبر بلدان العالم، مع اعتقاد أنها ذات أصل فارسي مفقود، لم تكن كما وصلت إلينا في نسختها الحالية، وهو ما جعل حكايات الليالي نفسها تضمّ تفاصيل وشخصيات من بلاد فارس والهند واليونان وتركيا وآسيا الوسطى. ثم ظهرت نسختها العربية المكتوبة، التي انتقلت لأوروبا، من خلال ترجمة أنطوان غالاند في أوائل القرن الثامن عشر، والترجمات الأخرى التي تبتعه، واعتمدت على النسخة العربية لمطبعة بولاق. وفي النسخة المترجمة ظهرت عدة تغييرات، منها حذف التفاصيل الإيروسية للقصص، لتناسب المجتمع الأوروبي في العصر الفيكتوري؛ ومنها إضافة قصص لم تكن موجودة في نسخة الليالي العربية المكتوبة، مثل علاء الدين، وعلي بابا، والسندباد.

أما القصة المركزية، فإنها لم تتغير في الغالب، وبقت كما هي، إلا أن الدراما المصرية غيّرت فيها لتناسب طبيعتها، فالملك الذي حكت كل النسخ الدرامية أن سبب كراهيته للنساء هو خيانة زوجته، لم يكن هذا دافعه الوحيد، فبعد الخيانة، يرتحل شهريار مع أخيه، ويصادفان امرأة، يحتجزها الجني النائم الأكثر إرعابا، فتهددهما بإيقاظه، مالم يمارسا معها علاقة جنسية، فيضطران للموافقة، ثم يعود شهريار لقصره، معتزما القضاء على كل النساء.

ليست هذه الحكاية الوحيدة، التي تحوي طابعا جنسيا في الليالي، بل ضمّت بعض القصص حكايات حول الحب المثلي وازدواج الميل الجنسي، مثل ما ذُكر في حكاية “عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان”؛ أو مواقف جنسية بين الرجال والنساء؛ بل وصل الأمر لحكاية عن جنس المحارم، كما في قصة الصعلوك؛ أو قصة “قمر الزمان والملكة بدور”، حينما تحب الملكة ابن زوجها؛ بجانب الجنس مع الحيوانات، كما في قصص “وردان الجزار” و”داء غلبة الشهوة عند النساء”.

وبتجاوز الحكايات نفسها، فإن الحكاية الإطارية لشهرزاد وشهريار لم تخل هي الأخرى من الجنس، فجميع القصص التي ورد ذكرها في الدراما بين شهريار وشهرزاد، جعلت العلاقة بينهما مقتصرة فقط على الحكايات، التي ترويها شهرزاد، بينما في الحكاية الأصلية أنجب شهريار وشهرزاد عديدا من الأطفال.

يرى بحث بعنوان “الإثارة الجنسية واللغة في ألف ليلة وليلة” أن “الجنس عادة ما يصنع قصة جيدة“، لذا فربما بجانب جودة الليالي القصصية، فإن إغراقها في الجنس كان أحد السمات، التي ضمنت نجاحها شفهيا حول العالم. ويوضح البحث أيضا أن “القصص الجنسية تجبر الملك على مواجهة حالته النفسية، فالصدمة، يمكن أن تكون بمثابة عملية الشفاء“، وبالطبع تستكمل شهرزاد هذا عبر معاشرة شهريار نفسه جنسيا، إذ أن “قدرة شهرزاد على السرد القصصي، والتي من خلالها تسحر الملك، تنقذ حياة العديد من العذارى، وتضعها في منصب الوكيل والمنقذ. لذا، ومن أجل تحقيق هذه المهمة، يجب عليها أن تضحي بحريتها وعذريتها“.

ويوضح  كتاب “الاستبداد السلطوي والفساد الجنسي في ألف ليلة وليلة” لمحمد عبد الرحمن يونس، أن “حكّام ألف ليلة وليلة، خلفاء أو ملوكا، رغم انهم يستشيرون وزراءهم أو قادة جيوشهم العسكريّة، أو خاصّة المقرّبين منهم في بعض الأحيان، فإن هؤلاء الحكّام يظلّون في نهاية المطاف أنانيين وفرديين وطغاة، يتعاركون لأجل النساء“. وهو نموذج متكرر في الليالي. في العموم يوضح الكاتب أن نموذج المرأة المتكرر في الليالي أيضا هو نموذج متلاعب، ويميل للجنس وللشهوات، مشيرا إلى أن “نصوص ألف ليلة وليلة نصوص مثيرة جريئة. إنّها تخدش أعماق الإنسان، في حاضره وماضيه، وما توسوس به نفسه الأمّارة بجميع المعاصي”.

ولكن الأعمال الدرامية رغم كل ذلك تختار أن تنأى بنفسها تماما عن أي إشارة للجنس، وهذا مفهوم طبعا، باعتبار أن الدراما في الغالب محافظة، وتُقدّم لجمهور المنزل، بعكس السينما التي يمكنها أن تخرج من هذا الإطار، وتقدم رؤية أجرأ.

الليالي لم تقدّم أبدا عبر السينما، الأمر الذي يزداد صعوبة في الوقت الحالي، بسبب عناصر الليالي البصرية، التي تحتاج ميزانية ضخمة في المؤثرات ومواقع التصوير والديكور، قد لا يمكن للسينما المعاصرة تحمّل كلفتها، فضلا عن أن المحاذير الرقابية في السينما المصرية باتت أشد من أي وقت مضى، وهذا يجعل تقديم تلك الحكايات الثرية، بكل دلالاتها وتعقيداتها، أمرا قد لا نشهده في وقت قريب.

رغم كل هذا ما تزال التجربة مفتوحة، تنتظر رؤية مغايرة ربما عمّا سبق تقديمه، فالليالي ستظلّ نصا لن ينتهي أبدا، طالما الناس قادره على صياغة الحكاية، والاستماع إليها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.8 5 أصوات
تقييم المقالة
1 تعليق
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
إلهام عبد الباسط
12 أيام

مجهود كبير و سرد ولا أروع