انتهى موسم دراما رمضان 2024، ومعه ينتهي التنافس على “الأعلى نسبة مشاهدة “، والعبارات التي تتصدر التريند، واعتقاد كل فنان أنه الأول على ساحة منصات التواصل الاجتماعي؛ وانتهت الألقاب أيضا، التي وصف البعض نفسه أو عمله بها، مثل “أفضل ممثلة نسائية شعبية”، أو “مسلسل الشارع”، وغيرها، التي يثبت عدم صحتها فيما بعد، مع نسيان الجمهور لتلك الأعمال، بمجرد انتهاء عرضها.

والملاحظ  على منصات التواصل الاجتماعي، باعتبارها فد تكون أداة  مهمة في الوقت الحالي لقياس اهتمام الجمهور بالأعمال الفنية، أن هناك حالة مقارنة مستمرة بين كثير من الأعمال، التي عُرضت في هذا الموسم، ومدى تشابها، وهذا التشابه ليس فقط على مستوى التيمات الدرامية، والتي كان الكاتب الفرنسي جورج بولتي قد حصرها في 36 تيمة فقط، وفقا لكتابه “سبعة وثلاثون موقفا دراميا”، بل أيضا على مستوى التكرار الممل، سواء في القصة أو الشخصيات أو الكادرات، وحتى الحوار، الأمر الذي حوّل الأعمال من حدث درامي، يتطور وفق أداء تمثيلي، تصوغه لغة الصورة، وتتضافر معه عناصر فنية أخرى، لطرح فكرة أو قضية ما، إلى مجرّد مجموعة من المشاهد، التي يبدو انها جُمعت بالقص واللصق، كحالة إنسان فقد جميع ملابسه، واضطر إلى اللجوء إلى جلباب واحد، وترقيعه من هنا وهناك، لسد الثغرات التي يمتلئ بها.

هل الثغرات التي تجعل منتجي الدراما التلفزيونية يلجأون إلى الترقيع هي ثغرات في الموهبة؟ ولماذا صارت أعمالهم تُفصّل وكأنها مخصصة فقط لـ”ميمز” و”ريلز” وسائل التواصل الاجتماعي؟

مصادر الترقيع: لماذا نعود دائما إلى “الزمن الجميل”؟

“أحلام الفتى الطائر”، “المشبوه”، “سلام يا صاحبي”، “الهروب”، “البيضة والحجر”، “المنسي”، جميعها أعمال ترى شبحها يطاردك في كثير من مسلسلات رمضان هذا العام. لم يكن هذا مجرّد شعور، بل أمر يمكنه ملاحظته بوضوح، بناء على كثير من التفاصيل الدرامية المنقولة من هذه الأعمال، ففي مسلسل “كوبرا” مثلا، شخصية كوبرا (محمد عادل إمام) شاب يشارك في عملية سرقة، ثم يستولى على المال، ويحاول الهرب، بينما تطارده عصابة شيخون (مجدي كامل)، وكذلك الشُرطة، وهذه الحبكة الأساسية التي يقوم عليها مسلسل “أحلام الفتى الطائر”.

أثناء رحلة الهروب، يلجأ كوبرا إلى عدد من الأماكن والشخصيات المختلفة للاختباء. بعض مشاهد هذه الرحلة تبدو شديدة القرب من فيلم “المنسي”، لعادل إمام، وتحديدا مشهد النهاية، عندما يحتمي البطل الرئيسي (المنسي/ كوبرا) من البطل الضد (رجال أسعد يقوت/الشرطة) بأهالي المنطقة. كما يتشابه المسلسل، إلى حد التطابق، مع فيلم “البيضة والحجر” لأحمد زكي، في جزء من رحلة البطل، حين يختبئ كوبرا بمعاونة شخصين في منزل بإحدى القرى، ويكتشف أن أهلها يعتبرون المنزل مسكونا، وعندما يرى أهالي القرية قدرة كوبرا على النجاة من حريق المنزل المفتعل، يعتبرونه صاحب كرامات وقدرات خارقة، فيستغلّ هذا الاعتقاد للنصب على الناس، باسم شفائهم من السحر، ويرتدي العمامة والعباءة الخضراء، ويستمع لطلباتهم، إلى أن تأتي فتاة تطلب منه تخليصها من “الجني العاشق”، الذي يمنعها عن الزواج. كل هذا السياق الدرامي هو النصف الأول من فيلم “البيضة والحجر”.

أما مسلسل “بيت الرفاعي”، من بطولة أمير كرارة، فيبدو شديد القرب من فيلم “الهروب”، من بطولة أحمد زكي (منتصر الهارب من العدالة) وهالة صدقي (صباح راقصة). إذ يلعب كرارة دور شخصية ياسين، الذي يُتهم في جريمة قتل، ويصير هاربا من العدالة، وأثناء رحلة اختبائه، تساعده وتقف إلى  جواره “سامية حلويات” (ميرنا وليد)، فتجمعهما قصة غرامية مع تطور الأحداث.

وبعض المسلسلات دمجت بين قصة فيلم “المشبوه”، ورحلة البطل فيه نحو التوبة؛ وبين فيلم “سلام يا صاحبي”، وعلاقة الصداقة والأخوّة القوية بين البطلين، منها مسلسل “العتاولة”، الذي يردد فيه خضر (طارق لطفي) ونصّار (أحمد السقا) مقولة: “طول عمرها متقسّمة على اتنين”، دليلا على العلاقة القوية بينهما، ولكن الأخير يحاول التوبة، والأول لا يترك له مساحة لذلك، ومن هذه النقطة يبدأ الصراع.

هناك أعمال أخرى، قصتها تتطابق مع أفلام لنجوم آخرين، مثل مسلسل “أشغال شقة”، الذي يمكن اعتباره نسخة حديثة من فيلم “صباح الخير يا زوجتي العزيزة” (1969)، لصلاح ذو الفقار ونيللي، وتدور أحداثه حول أزمة زوجين، بعد إنجابهما، واحتياجهما لمُساعدة في المنزل؛ والبعض استنسخ أعمالا غير مصرية، مثل “نعمة الأفوكاتو”، والذي يتشابه بشكل كبير مع المسلسل الكوري الجنوبي “تزوجي زوجي” Marry my husband، إذ تدور الأحداث في العملين حول سيدة تكتشف خيانة زوجها، وتعود من الموت لكي تنتقم من منه، ومن زوجته الجديدة، لأنهما تخلّصا منها، واستوليا على أموالها.

هناك مستوى آخر من التكرار، وهو تقديم الأفكار نفسها، التي طُرحت في عشرات الأعمال من قبل، مثل الصراع على الثروة، والانتقام، والنزاع على الميراث بين الأشقاء، والمشكلة، كما ذُكر من قبل، ليست في تكرار التيمات، وإنما الدوران داخل المعالجات القديمة نفسها، ومن الأمثلة على ذلك مسلسل “إمبراطورية ميم”، الذي أعاد تقديم فكرتين من عملين مختلفين، ومزجهما معا: الأولى نص قصصي بالاسم نفسه للأديب المصري إحسان عبد القدوس، تمت معالجته سابقا في فيلم سينمائي، بالنتيجة الدرامية نفسها، وهي أن الآباء دائما على حق، وجيل الأبناء هو الأكثر قربا للتخريب والانهزام والتخلّي عن الأصالة؛ أما الفكرة الثانية فمن مسلسل “الراية البيضا” لأسامة أنور عكاشة، الذي ناقش تغيّر الهوية، من خلال أزمة هدم المباني التي تعبّر عن التراث، على يد فئة من الباحثين عن الثروة، سواء “فضة المعداوي” في “الراية البيضا”، بما تمثّله من عشوائية وجهل؛ أو “يحيى شاكر” في “إمبراطورية ميم”، بما يمثّله من قيم الحداثة والثروة. ربما كان الدفاع عن التراث العمراني والثقافي، يوجه شجع بعض المستثمرين الجدد، مناسبا لعصر عكاشة، إلا أنها يبدو خاويا من المعنى، في عصر يتمّ الهدم فيه بيد السُلطة.

ليس تكرار أعمال قديمة أمرا غريبا في عصرنا، بل ربما كان اتجاها عالميا، ففي السينما الأميركية المعاصرة مثلا، تحقق إعادة إنتاج الأفلام القديمة أعلى العوائد، إلا أن تلك الأفلام تُقدّم بوضوح بوصفها Remake، وهذا بذاته ما قد يدفع جمهورا واسعا لمشاهدتها، لأسباب تتعلق بالحنين إلى أفلام الماضي، أو الرغبة بمشاهدتها بحلّة جديدة تناسب العصر والأجيال الجديدة، فيما يبدو التكرار في الدراما المصرية المعاصرة أقرب لميل صنّاع الأعمال للاستسهال في أداء عملهم، إذ يعتمدون على مبدأ تقديم خلطات، يظنون أنها مضمونة النجاح والتأثير بالمشاهد.

وعلى الرغم من أن التكرار والاعتماد على “الخلطات المضمونة” من السمات العامة لأعمال الثقافة الجماهيرية، إلا أن دراما رمضان هذا العام تجاوزت الحد المعتاد، إلى الاستنساخ الكامل لمشاهد وأفكار ومعالجات معروفة. وهذا، حتى بمقاييس الثقافة الجماهيرية، ليس أكثر من ترقيع رديء.

كيف يمكن لهكذا ترقيع أن يصنع التريند؟

فن “اللوازم”: هل التكرار يصنع التريند؟

نُشرت مئات التغريدات والمنشورات ومقاطع الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي، مقتطعة من مسلسلات. ومن خلال الملاحظة والرصد على مدار الشهر، يمكن الخروج باستنتاج واضح عن أهم الشخصيات التي تصدّرت التريند، ولفتت أنظار الجمهور، وجميعها بعيدة تماما عن السياقات السابق ذكرها، فقد لمعت الأدوار البعيدة عن التكرار، والتي تقدّم سلوكا أو أداءً مختلفا، سواء على مستوى الكوميديا أو الدراما الاجتماعية أو الأكشن.

ففي مسلسل “العتاولة”، يُلاحظ أن شخصية عيسى الوزان (باسم سمرة) كانت الشخصية الأبرز والأنجح على منصات التواصل، رغم أن سمرة أدى نمط الشخصيات الشريرة من قبل، لكن “الوزان”، بلازمته الكلامية “يلا بينا”، قدّم أمرا جديدا ولافتا للمشاهدين، فأصبح التريند، ووظفته قناة mbc ليكون على رأس الدعاية لأفلام قناة mbc2 بعد العيد. ويعدّ هذا دليلا على النجاح؛ كما كان لعاطف (مصطفى أبو سريع) نصيبه من التريند، فقد أصبحت جملته الشهيرة في المسلسل “المال الحلال أهو”، واحدة من أبرز تريندات رمضان في أسبوعه الأول.

مسلسل “أشغال شقة”، والذي استطاع حصد إشادة نقدية واسعة، ومشاهدات عالية على منصة “شاهد”، قدّم شخصية “أم صابرين”، التي صنعت لها الممثلة انتصار لازمة حركية خاصة، وأيضا “دادة صفية” (إنعام سالوسة)، و”عربي” (مصطفى غريب)، وجميعهم  شخصيات تبدو مبتكرة نسبيا.

 أما في مسلسل “كوبرا” فكان التريند الأبرز والأقوى هو “كزبرة”، مطرب المهرجانات الشهير، سواء بأغنيته “الفن”، التي حققت أكثر من مليون مشاهدة على قناته على يوتيوب، أو لازمته الشهيرة “على الدوغري”، والتي استُغلت جيدا في الدعاية للمسلسل على موقع تيك توك، وأصبحت من الكوبليهات الشهيرة، التي يصنع عليها مستخدمو تيك توك “الليبسنغ” lipsing، ولم ينتشر أي مشهد آخر من المسلسل على المنصات بالدرجة نفسها.

الملاحظ أن تصدّر التريند يعتمد على اللازمات الحركية واللفظية، التي تمثّل الخُطاف الذي يجذب المشاهدين نحو الشخصيات، لأنها تضيف جديدا، يجعل الجمهور ينجذب. إلا أن الترقيع لا يرقى حتى لمرتبة خطّاف. فحتى لو افترضنا أن الأعمال الرمضانية تُصمم فقط لصناعة تريند خلال الموسم، فكثير منها يفشل في مهمته تلك، بسبب استسهال صنّاعها الكبير في عملهم.

افتعال “الميمز”: هل سيتذكّر أحد مسلسلات رمضان؟

كل ما ذُكر في السياق السابق يشير إلى نتيجة واحدة: التكرار الممزوج بخُطاف جيد يصنع تريند، ويجعل من المسلسلات أكثر مشاهدة وجذبا خلال شهر رمضان. ولكن هل تستمر هذه الأعمال، أو تصبح محل اهتمام وتقدير من الجمهور في المستقبل، كما كان يحدث سابقا، في حالة مسلسلات مثل “ليالي الحلمية”، أو “ذئاب الجبل”، أو “الشهد والدموع”، أو “الفرار من الحب”، أو “الليل وآخره”، أو “أحلام الفتى الطائر”؟ الإجابة الأكثر احتمالا أن هذا متعذّر التحقق في أعمال غير أصيلة، لا تشبه ذاتها، بل صُنعت لتكون مزيجا من أعمال مختلفة، وقُدّمت أيضا بمعالجات تتسم بالتكرار أو المَط والحشو.

لا يُقصد في هذا الإطار الميل لمقولة “زمن الفن الجميل”، وأن الأعمال التلفزيونية القديمة أفضل، والأحدث دون محتوى، ولكن المشكلة ربما قد تكون في سيطرة فكرة التريند على أذهان صُنّاع الأعمال. وهذه ظاهرة معقدة، لها أسبابها الثقافية والتقنية، بل حتى الإنتاجية والتسويقية.

رغم كل هذا فمن الواضح أنه لا يمكن إنجاح مسلسل عبر محاولة افتعال “ريلز” و”ميمز” حوله فقط. قد يقول البعض إن تلك الاعمال التلفزيونية لا تصلح فنيا لأبعد من التريند. ولكنها، بهذا المستوى من التفكير والأداء الفني، لا تصلح حتى للتريند.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 2 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات