رومانسية النزاعات: هل ما يزال لدى السينما ما تقوله عن “الحب والسياسة”؟

رومانسية النزاعات: هل ما يزال لدى السينما ما تقوله عن “الحب والسياسة”؟

عندما حاول الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي إعادة سرد قصة “يونس”، ابن أخت أبي زيد الهلالي، الذي وقعت في حبه ابنة “السلطان المأسور”، جعله يرفض قبول هذا الحب، لأنه لا يملك من أمره شيئا، بالمقارنة مع بنت السلطان. أدى تلك القصيدة محمد منير، في أغنية تحمل اسم “يونس”. وطوال الأغنية، نجد البطل معذّباً بين حبه للأميرة المذهلة، وبين كونه أسيرا بعيدا عن أهله، لدرجة أنه ينكر وجود الحب من الأساس، سواء من جانبه أو جانبها، فلا يوجد حب بدون حرية، “ينفع احبك من غير قلبي؟”.

كيف يعيش الإنسان كل السعادة والهيام المصاحبين للحب إذا لم يكن حرا مالكا أمر نفسه؟ كيف يختبر الحب والراحة، إن كان يعيش في مجتمع، تقلبه الظروف السياسية يوميا رأسا على عقب، وتضع الإنسان دوما أمام اختيارات أكبر من قدرته؟

تلك واحدة من النظرات الرومانسية عن علاقة الحب بـ”الاجتماعي” و”السياسي”، وقد تكرّرت طيلة عصور، حتى باتت قالبا لا يمكن تجاوزه، فنيا وأدبيا. بعض الأعمال حاولت إثبات أن “الحب يتجاوز كل العوائق” التي تفرضها الظروف الصعبة، بل إنتاج بدائل وملاجئ من أبشع الوقائع؛ وبعضها الآخر فضّل “الواقعية”، وتحدّث عن عذاب العشّاق بين الحدود والحواجز، أو تخليهم مضطرين عن فكرة الحب نفسها، كما فعل الأبنودي. وطبعا السينما لا تقلّ عن الشعر والأغنية في التعبير عن كل هذا، بل ربما تستطيع تقديمه بصورة أشمل، عبر ما تحويه من إمكانيات تعبيرية واسعة.

مهرجان “الجونة” المصري، في نسخته الاستثنائية السادسة، أواخر العام الماضي 2023، عرض مجموعة أفلام، يمكن تصنيفها في خانة “الحب والسياسة”، ففي كل تلك الأفلام يظهر تأثير الأوضاع السياسية، سواء كانت حروبا أو اضطرابات أو حتى أزمات معيشية طاحنة، على العلاقات العاطفية بين البشر.

وبما أن الأفلام المعروضة في “الجونة” هي من أحدث الإنتاجات السينمائية العربية والعالمية، والتي يُفترض أن تمتلك قيمة فنية خاصة، ما يؤهلها للعرض في المهرجانات، فمن المثير للاهتمام معرفة كيف تقدّم السينما المعاصرة ثنائية “الحب والسياسية” الخالدة. هل هنالك جديد في الطرح واللغة السينمائية؟ أم أن ما ستقوله “سينما المهرجانات” عن الموضوع يمكن توقّعه سلفا؟

سعادة عابرة: مداخلة في الاكتئاب والمعجزة

في قرية نائية من إقليم كردستان العراق، فقيرة محدودة الموارد، تعيش حالة دائمة من عدم الاستقرار، وتشهد نزاعات سياسية وحروبا مستمرة، يكون “الحب” بين الأزواج أمرا ثانويا، ويصعب أن تكون الاحتياجات العاطفية لامرأة عاقر عجوز عابرة لأية حواجز. فالحواجز في ذلك العالم قاسية جدا، وقد تكون قاتلة، إلا أن المخرج العراقي سينا محمد، في فيلمه “سعادة عابرة”، فعلها!

يستخدم المخرج كادرات طويلة، لكي يضعنا في قلب حالة المعاناة، وأيضا الملل، التي يعيشها أهل القرى الكردية، بعد أن تعوّدوا على القصف المدفعي والجوي، الذي يمكن أن يطال بيوتهم في أي وقت. بطلة الفيلم، السيدة المسنّة، تقوم بكل أعمال المنزل وحدها، في حين يجوب زوجها القرية طوال اليوم، كي يحصّل أية أموال، تساعدهما في معيشتهما البسيطة والصعبة.

نحن أمام سيدة حزينة، خائفة، وحيدة، وتتألم من الاكتئاب الذي ينهش روحها يوما بعد يوما، ولا تقدر على الحديث عنه. تترك نفسها للروتين اليومي، وتقوم بفعل ما يفعله الآخرون، الذين يجهلون تماما ماذا تعني السعادة. ليس الاكتئاب حكرا على سكّان المدن المزدهرة. فقد تجده في قرية بسيطة، يصارع أهلها للاستمرار على قيد الحياة.

يتحوّل اكتئاب البطلة من شكله النفسي، ليظهر على هيئة عوارض جسدية، فتشعر بفقدان الطاقة، ومن ثم فقدان القدرة على الحركة، إضافة إلى صعوبة في إيجاد الكلمات المناسبة، لوصف مرضها. ما يدفع زوجها لأخذها، على دراجته الهوائية، قاطعا بها مسافة طويلة لرؤية الطبيب. وفي كادر طويل، تسند الزوجة رأسها المرهق على كتف زوجها، وتنسدل دمعة هادئة من عينها، دمعة من افتقد الحنان لمدة طويلة، وأخيرا منحته الأيام لمسة تعاطف ومحبة. تفهم السيدة نفسها ومرضها جيدا، فبعد أن حصلت أخيرا على اهتمام، ضئيل جدا، تقرر أن روحها شفيت، وأنها مستعدة للعودة إلى حظيرتها وحيواناتها وحياتها العادية.

يختتم سينا فيلمه الطويل بكادر واسع لحقول عبّاد الشمس، وفي الخلفية صوت الطائرات الحربية، التي تحلّق فوق رؤوس القرويين الكرد باستمرار، في إشارة إلى أن نهاية هذا الثنائي، الذي نجح أن يكون “عاشقا” على طريقته. ستكون ربما رقما في ختام نشرة أخبار ما: “قُتل وجرح عدة أشخاص، في قصف على إقليم كردستان”.

الحب هنا لا يعبر أي حد تفرضه السياسة، بل يخلق لنفسه مساحة مدهشة، كالمعجزة، في قلب اليومي والاعتيادي والممل، وبدون مواجهة مع أي شيء.

لو أمكنني الغرق بسُبات: هل يقينا الحب من الموت برداً؟

فيلم “فقط لو أمكنني الغرق بسُبات” If Only I Could Hibernate كان أول مشاركة منغولية في مهرجان كان، ونافس على جائزة “الكاميرا الذهبية” لأفضل تصوير. ولا غرابة في أن ينافس الفيلم على تلك الجائزة، فمنذ اللقطات الأولى تنجح الكاميرا في توضيح معاناة أسرة منغولية مع الفقر والبرد. إنها أسرة الشاب “أوزلي”، التي تعيش في خيمة على الطريق، في برد قارس، بلا مصدر دخل يكفي حاجتها الأساسية، بعد أن نقلها رب الأسرة من بلدتها الأصلية، طمعا في حياة أفضل. يتوفى الوالد فجأة، ويترك الأطفال في عناية الأم مدمنة الكحوليات، منعدمة المسؤولية، التي تفرّ هاربةً في منتصف الرحلة، لتترك ثلاثة أطفال صغار تحت رعاية ابنها الأكبر، المراهق الشاب.

ما يريد زولجارجال بورفداش، مخرج الفيلم ومؤلفه، سرده، بأرق لغة بصرية ممكنة، وسط كل تلك القسوة، هو قصة حب خاصة بين الأخوة. يبدأ الأخ الكبير، أوزلي، في تحمّل المسؤولية، ليجد نفسه أمام عديد من الاختيارات: هل يختار دراسته التي يتفوّق بها، أم العمل بشكل غير قانوني؟ هل يختار رعاية أخواته الصغار، بالأخص بعد مرض الأخ الأوسط بالربو، نتيجة استنشاقه لأدخنة حرق البلاستيك، أم يختار المسابقة، التي يحارب للوصول إليها، والتي ستؤمّن له ولاخوته مبلغا من المال، إضافة إلى منحة دراسية كاملة؟ كلها اختيارات ومواقف أكبر من المراهق الصغير، وعليه أن يتصرّف بسرعة. فهل ينقذه الحب؟

الضغط على المراهق يصل إلى ذروته، عندما يعود إلى خيمته، ليجد كلبه مات من الصقيع، هنا ينهار، ولكنه مع ذلك يرفض البكاء، ويردد: “لا أريد أن أبكي، إن بكيت فهذا يعني أني هُزمت”.

ينتهي الفيلم بالشكل السلس نفسه الذي بدأ به، ويعرض لنا نهاية مفتوحة. هل ربح الطفل الجائزة، التي تُعتبر أمله هو وأخواته أم لا؟ لا ندري. يتركك المخرج فقط مع نصف ابتسامة على وجوه أبطاله، فتأمل أن تكون دليلا على راحة ما، وصل إليها أولئك الأطفال.

 فيلم “لو امكنني الغرق بسُبات” نافذة سياسية على الأوضاع في دولة نائية، يعاني أهلها من الصقيع، الذي يجعلهم يتمنون لو لديهم خاصية البيات الشتوي، الموجودة لدى الدببة. مع ذلك لا يمكن تصنيفه على أنه فيلم سياسي واضح، بل هو تتبّع قصة اجتماعية لأسرة، هي بالتأكيد ضحية أنظمة سياسية فاسدة، ونظام اجتماعي واقتصادي قاس، لا يبالي بأطفال يأكل الربو رئاتهم.

ولكن الأهم في رؤية المخرج بكل بساطة هو الحب، فهو في هذا الفيلم محاولة، سعيٌ لا بد منه، ولا ندري إلى أين سيوصلنا. إنه لا يمنح حتى الدفء، إذا يمكن أن تموت متجمدا، حتى لو كان لديك أخ حنون، يبذل كل جهده كي يرعاك. ولكنّ الحب، على الأقل، يمنح بعض الطاقة للاستمرار.  

الشجاعية: ماذا بعد أن يفقد الحب أطرافه؟

يقدّم المخرج الفلسطيني محمد المغني فيلما قصيرا وثائقيا، عن عائلة تشبه عائلات كثيرة في قطاع غزة، دمرتها الحرب بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ: هدمت منزلها، قتلت بعضا من أفرادها، أطفالا وشيوخا. لكن دمارها لم يقتصر على ذلك، بل هدمت علاقة حب بين البطلة “دعاء” وزوجها، بعد أن أفقدهما القصف الإسرائيلي لقرية الشجاعية أطرافهما. دعاء خسرت رجليها الاثنتين، وزوجها رجله اليمنى. كما فقد بعض أطفالهما أطرافه، ومن لم يفقدها أصيب بفوبيا فقدان الأطراف.

محمد المغني

تجد دعاء نفسها أمام حقيقة، قد تكون أسوأ من الاحتلال، الذي عانت منه منذ ولادتها، وهي أن زوجها تخلّى عنها بعد أن أصبحت عاجزة. أرسلها لبيت والدها، حتى بدون أن يودعها. وعندما سأل المخرج زوجها عنها، امتلأت عيناه بالدموع، ورفض الحديث عنها تماما.

هل كان زوج دعاء حرا في اختياراه ذلك، أم يمكن تبريره بخضوعه لواقع الاحتلال والمعاناة اليومية؟ لا يقدّم الفيلم وجهة نظره. إلا أنه يحاول، من خلال دموع الزوج والزوجة، طرح السؤال، وهو قد يكون سؤالا عن الحب نفسه، أكثر من التساؤل حول الحياة تحت ظل الاحتلال والحرب: هل يمكن أن نطلب من الحب تجاوز الظرف الصعب، والعادات الاجتماعية القاسية، والألم النفسي والجسدي الذي لا يحتمل؟

تقدّم الأفلام السابقة رؤى عن الحب والسياسة، لا يمكن وصفها بالنمطية، فمن الحب بوصفه “معجزة”، في فيلم “سعادة عابرة”؛ إلى تصويره بوصفه “كفاحا” في “لو أمكنني الغرق بسُبات”؛ وصولا إلى طرحه “علامة استفهام” في فيلم “الشجاعية”، لا نرى عشاقا فريدين، يتجاوزون الحواجز والحدود والصعوبات، وإنما بشرا يشبهوننا للغاية، بمشاعر نختبرها يوميا، وبردود أفعال لا يمكن وصفها بالبطولية.

هل سينتصر الحب إذن، أم سيتعالى السؤال الاستنكاري “ينفع أحبك من غير قلبي؟”. ربما ما يجعل تلك الأفلام مميزة حقا أنها لا تسعى لإجابات، بقدر ما تجعلنا نعيش في قلب الأسئلة، التي تتخلل عمق حياتنا.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات