بات مطربو المهرجانات في مصر، والمطربون الشعبيون في سوريا ولبنان، الشغل الشاغل لبعض وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي  خلال السنوات الأخيرة. يعود ذلك إلى المواضيع التي تدور حولها بعض أغنياتهم، أو الشتائم والكلمات غير اللائقة التي يتلفّظون بها، أو لرداءة أصواتهم في بعض الحالات. يتم أيضا النيل منهم، والتقليل من قيمتهم في المقابلات الإعلامية، أو حتى جرّهم إلى فضائح ومهاترات، تتسبب في مشاكل كبيرة لهم.

نقابات الفنانين في مصر وسوريا أصدرت قرارات بمنع بعضهم من العمل وإقامة الحفلات، وغالبا ما تتم تسوية هذه القضايا لاحقا، عن طريق إجبارهم على توقيع تعهدات بعدم التلفّظ بأية ألفاظ، تخرج عن حدود “الآداب العامة”، وهو ما يخضع له أولئك الفنانون، لأسباب تتعلّق بحالتهم المعيشية، أو تضرر أصحاب المحلات التي يغنون فيها،

لا يقتصر الأمر على نقد الفنانين أنفسهم، لاتهامهم بخدش الحياء العام، وإنما يمتد للنوع الموسيقي الذي يقدمونه، باعتباره “هابطا”، على الرغم من أنهم قد يقدّمون موسيقى شعبية، تعبّر عن تراث وطبيعة المنطقة التي نشأوا فيها، كما هو الحال مع فنانين مثل آل الديك في سوريا، أو مطربي المهرجانات في مصر.

بعض فناني البوب أو الاستعراض يتعرّضون للسخرية أيضا، ويتم اعتبارهم حتى الآن ظاهرة مارقة، كما يتم الاعتداء عليهم لفظيا، أو مواجهتهم قانونيا، كما يحدث مع الفنان المصري محمد رمضان، الذي مازال يواجه انتقادات كبيرة، ودعاوى قضائية من وقت لآخر، رغم الحضور الشعبي الكبير الذي حققه؛ بينما تُعتبر فنانات مثل هيفاء وهبي نموذجا لما يوصف عربيا بـ”الفحش”.

إذا قمنا بتحليل الموسيقى التي يقدمها آل الديك على سبيل المثال، وفحصنا كلمات بعض أغانيهم، نجد أنها لا تختلف عن مستوى أغاني فنانين آخرين، يصنّفون من فناني الصف الأول، ويحظون بالاحترام الإعلامي، والتقدير من جهات رسمية، الأمر الذي يعود ربما إلى المهارات التسويقية، أو بسبب التميّز على أساس الأصل أو الطبقة الاجتماعية. وعندما نحاول المقارنة بين ثقافة  فنان من الصف الأول، وفنان يُصنّف عمله فنا هابط، كثيرا ما نجد أنه لا يوجد فارق كبير بين الطرفين، حتى من ناحية ترديد القيم المحافظة، وإعلان الالتزام بها؛ أو تأييد الأنظمة القمعية وجرائمها.

كل هذه الوقائع تدفع لطرح عدد من الأسئلة: ما المعايير المتّبعة لتصنيف الموسيقى الهابطة عموما؟ وهل تتوفّر في عصرنا الحالي موسيقى “جادة”، تستحق هذه التسمية؟ هل تقدير كرامة الفنانين، في وسائل الإعلام، يخضع لشروط غير الشرطين الأخلاقي والإنساني؟ وهل يمكن إنتاج موسيقى ذات جودة عالية، في مجتمعات تفتقر إلى التقدم الاقتصادي والتنوّع الثقافي؟

المطيع والعاطفي: هل يمكننا أن نحتقر الموسيقى الشعبية مثل أدورنو؟

كانت مدرسة فرانكفورت، أو معهد البحوث الاجتماعية، الذي تأسس في العام 1923، من أوائل الأكاديميات، التي اهتمت بدراسة الموسيقى والأفلام والترفيه الجماهيري، وكان هناك قناعة راسخة، بين أعضاء تلك المدرسة، بأن “الظواهر الاجتماعية، مثل الثقافة والترفيه الجماهيري والتعليم والأسرة، لعبت دورا مباشرا في استمرار القمع“، في الوقت الذي كان فيه الماركسيون التقليديون ما يزالون يعتبرون هذه الظواهر مجرد انعكاسات للأساس الاقتصادي لنمط الإنتاج الرأسمالي. على أية حال، فإن إنشاء مدرسة فرانكفورت، كان ممولا من ابن تاجر حبوب ثري، يريد إنشاء مدرسة أوربية غربية، تكون مكافئة لـ”معهد ماركس- إنجلز” في موسكو. بهدف المساهمة، على طريقته، في الإطاحة بالرأسمالية وتأسيس نظام اشتراكي.

اهتمت المدرسة بإنتاج دراسات نظرية، عُرفت باسم “النظرية النقدية”، وقامت بمعاينة البؤس والقمع والشمولية والمعاناة الانسانية في القرن العشرين، ومحاولة معرفة أسبابها، التي رأى منظرو المدرسة أنها تعود إلى ظروف مادية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وأيضا ثقافية، ينتجها البشر، ويتعرّضون لها في الوقت عينه. وبعد ذلك يحافظون على هذه المعاناة والقمع على مستوى اللاوعي، وتأتي المؤسسات والظواهر الاجتماعية لتكرّس لاوعيهم هذا. قاد ذلك أعلام “فرانكفورت” إلى البدء بمشروع فكري جرئ، لنقد التنوير والحداثة بحد ذاتهما.  

الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو، كان من بين أبرز أعضاء المدرسة، وقام بتحليل إنتاج واستهلاك الموسيقى، التي بدأت تسود في أيامه، وتحديدا موسيقى البوب والموسيقى الشعبية، معتبرا ذلك وسيلة لفهم سمات وتأثيرات صناعة وتسليع الثقافة، لأن إنتاج واستهلاك الموسيقى نموذج لصناعة الثقافة بشكل عام. بدأ نقده بالتركيز على بنية ذلك النوع من الموسيقى، وزعم أنها متشابهة وتكرارية، إذ يتم استخدام قوالب ونماذج مألوفة، تفتقر الى التجديد، واعتبرها بسيطة وموحّدة من حيث الموضوعات.

جادل أدورنو أيضا أن بساطة الموسيقى الشعبية وتعقيد الموسيقى الجادة ( الكلاسيكية) لا يمثلان الفرق الوحيدة بينهما، بل هناك فروقات بنيوية. إذ يصعب برأيه حذف أو تبديل أي جزء من أي مقطوعة لبيتهوفن، نظرا لعدم امكانية فصل أي مقطع عن سياق المقطوعة ككل، بينما الموسيقى أو الأغاني الشعبية تظل غير متأثرة بالتغييرات والحذف، لأن مهمتها جذب انتباه المستمع، لا خلق الأحاسيس واستفزاز التفكير، وهي تتَأثر بالسوق والضغوط التجارية. إذ تنتشر مقطوعة أو أغنية، وتحقق شهرة واسعة، فيقوم الموسيقيون الآخرون بتأليف مقطوعات مشابهة لتلك المقطوعة، ولا يحتاج المؤلف إلى إظهار فرادته وأدواته فيها، وبالتالي تثير استجابات متشابهة عند المستمعين، الذين لا يحتاجون أيضا إلى بذل أي جهد خلال الاستماع، للتفكير بالموسيقى وفهمها. وإذا كانت هناك فروقات بين أغنية وأخرى، فهي برأيه “فردانية زائفة”، لأنها متشابهة بكل عناصرها، إلا بعنصر واحد يجعلها تبدو وكأنها فريدة.

رفض أدورنو أي فكرة فلسفية، تفترض وجود أساس غير تاريخي وثابت للواقع الاجتماعي، فهو يُبنى ويُنتج عبر تشابك ظروف تاريخية وثقافية متغيرة، وبالتالي يتطلّب فهم ذلك الواقع فحص التغيرات التي تحدث عبر الزمن. وزعم أن العقل يتشابك مع الهيمنة، ليصبح أداة للسيطرة واستمرار المعاناة. فربط التكرار والتبسيط بأسلوب الإنتاج والاقتصاد والعمل في المصانع الرأسمالية، واعتبر أن الحاجة الى الموسيقى المتكررة، ترتبط بالحاجة الى التكيّف مع ملل العمل المتكرر والمجهد، فهي تقدّم مادة للاسترخاء، لتغني عن التحليل المجهد، والفهم العميق؛ كما أنها مادة للترفيه، تزداد الحاجة إليها، كلما زادت المخاوف من البطالة وانخفاض الدخل، خاصة في أوقات الحروب والأزمات.

حتى قدرة المستمعين على اختيار موسيقاهم المفضّلة، كانت بالنسبة له “وهم الاختيار”، بسبب “مأسسة وتوحيد عادات الاستماع”، إذ تتكرر الكلمات والألحان نفسها، ويعتاد عليها المستمعون، ويتفاعلون معها تلقائيا، ما  يعزز حالة عامة من عدم النضج، لأنها تسلب المستمعين حرية الاختيار والمسؤولية والفهم لما يستمعون له، معتبرا ذلك شكلا من أشكال التحكّم بالعقل، مصممة لإبقاء الناس مشتتين متناقضين“.

يقسّم أدورنو مستمعي الموسيقى الشعبية إلى نوعين: المطيع إيقاعيا والعاطفي. المطيعون إيقاعيا هم من “يتماثلون مع القمع والطاعة”، ويرتاحون مع الموسيقى ذات الإيقاع المتكرر والمألوف بدون أي انحراف، ما يمنحهم شعورا بالانتماء الى ملايين من المطيعين الاخرين، الذين يتفاعلون على نحو مماثل؛ أما العاطفيون فهم من يتمتعون برؤية “هوليوودية” الى الموسيقى. إنها موسيقى “تحقيق الرغبات”، “كالفتاة الفقيرة، التي تتزوج الرجل الغني في نهاية الفيلم، ولكنهم متأكدون بعدم جدوى هذه الرغبات“. وبالتالي تزداد الفجوة بين السلطة والفردانية الفعلية، “على الرغم من أن قرار الإعجاب بأغنية ما هو قرار فردي، إلا أن رفض أغنية ناجحة يُعدّ مسألة تمرد ضد حكمة الجمهور“، يقول أدورنو.

موسيقى الجاز لم تكن موسيقى جادة أيضا بالنسبة إلى أدورنو، الذي لم يستطع التخلّص من فكرة أن الموسيقى الكلاسيكية هي النوع الوحيد الذي يستحق التقدير. وإذا كان موسيقيو الجاز يعزفون ارتجالات لا تعتبر متشابهة وموحّدة، ويحاولون الابتكار والعزف بطرق متجددة، إلا أن هذه التقنيات أو الابتكارات أصبحت جزءا من الروتين أو الأسلوب المعتاد برأيه. “لقد شعر أن فناني الجاز لا يعزفون ارتجالات، بل يقومون بتقيؤ نفس الألحان والإيقاعات بطرق مختلفة“. باختصار رأى أن الموسيقى الشعبية ليست إلا وسيلة لاستمرار الهيمنة والتشويه الثقافي، يساهم فيها الاقتصاد والسياسة بدعم من المستمعين، ويلعب الصحفيون الموسيقيون دورا مهما بانتشارها، من خلال “اختراع المصطلحات والسياق” لتلك الموسيقى، التي يصفونها خطأً بـ”الجديدة”، وهي ليست إلا نماذج متكررة تعيد الشركات إنتاجها حتى تستمر في الربح. وبالنهاية ليست إلا وسيلة للتنفيس، لا تتحدى الوضع الراهن، بل تحافظ عليه. على عكس الموسيقى الكلاسيكية الخالية من تأثير السوق، والتي توفّر “فرصة للتعامل مع المشاعر المختلفة”.

على أية حال، اعتُبرت آراء أدورنو محافظة ومتعصبة إلى حد كبير. الكاتب سام مورفي لخّص عددا من الانتقادات، التي تم توجيهها إلى أدورنو، وأكد أن ادعاءاته لا يمكن فصلها عن السياق الثقافي والتاريخي الذي ظهرت فيه. ونقل عن نقّاد آخرين أن هذا التحيز لمصلحة الموسيقى الكلاسيكية، والتزمّت ضد الموسيقى الشعبية، ورفض التعامل معها بحجة أنها غير قابلة للتطوير، يحمل في حقيقة الأمر تحيّزا وعنصرية، خاصة أن “الأميركيين من أصل أفريقي اخترعوا وسيطروا على أنواع، مثل موسيقى الجاز و السوينغ”. حتى أن ظن أدورنو بأن الموسيقى الشعبية تمثّل تهديدا للموسيقى الكلاسيكية ليس صحيحا إلى حد كبير، لأنه يسلب قدرة الناس “على تقدير أنواع الموسيقى المختلفة”، وقد يكون أدورنو نفسه، برأي بعض النقاد، لم يتعلّم كيفية الاستماع إلى موسيقى البوب والجاز، لأن المستمع إلى الجاز “يُقدّر عناصر مختلفة” عما يقدره في الموسيقى الكلاسيكية. ويقول مورفي إنه فوق ذلك كله “لا يوجد أي سبب للمقارنة بين الموسيقى الشعبية والموسيقى الجادة”.

مخاوف أدورنو كانت تنبع من التهديد، الذي قد يلحق بالموسيقى الكلاسيكية والثقافة “الرفيعة” عموما، نتيجة انتشار أنماط موسيقية جديدة “جماهيرية” في عصره، قد تستغلها السلطات والأنظمة الشمولية، لخلق أنماط متجددة دائما من الفاشية، وهو ما سعى أدورنو، ومعظم مفكري جيله، لتلافيه، وربطوه بتناقضات الحداثة ذاتها، لكن قياس ذلك على السياق العربي قد يكون صعبا. وبالتالي فإن رفضنا للموسيقى الشعبية، لا ينبع من مخاوف فلسفية ووجودية مثل مخاوف أدورنو، ربما الأمر أبسط من ذلك بكثير.

ما بعد أدورنو: ما الذي ينتجه أنصار “الثقافة الرفيعة” العرب؟

لا تهدد الموسيقى  الشعبية وموسيقى البوب في العالم العربي أي نمط موسيقي آخر، فهي قد تكون النوع الوحيد الرائج حاليا، كما لا يمكن تحميلها مسؤولية أية “فاشية” عربية، فعوامل القمع والشمولية في بلداننا لا تحتاج إلى نشر “الفن الهابط” بين الناس. ورغم أهمية نظريات مدرسة فرانكفورت، فهنالك عوامل أخرى، يجب أخذها بعين الاعتبار، لدى البحث في أسباب احتقار ذلك النوع من الموسيقى.

لم تظهر حالة جديّة في الموسيقى العربية، تحقق شهرة جماهيرية كبيرة، بعيدا عن المدرستين الرحبانية والمصرية، اللتين انتهيتا منذ ما يقارب الاربعين عاما، ويمكن أن يعزى ذلك إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتغيرات التكنولوجية. وفي السياق الاجتماعي والمزاجي والاقتصادي الحالي، قد يكون من الصعب، على الذين يحتقرون موسيقى البوب الجديدة، أو الموسيقى العربية المعاصرة بشكل عام، الاستماع إلى مقطوعة معقدة تستمر أكثر من خمس دقائق. وحتى إذا كان النقد يرتبط بجودة البناء الموسيقي والتوزيع، فإن الحالات القليلة التي تحاول تقديم موسيقى عربية “ثقيلة” لا تلقى رواجا، أو عددا من المستمعين، يساعدها على الاستمرار. حتى الموسيقى “البديلة”، وموسيقى “الأندرغراوند”، تعود دائما إلى قوالب البوب والشعبي، ولا تقدم تجديدا، أكثر من مخاطبة فئات معيّنة، تصنّف نفسها مثقفة، أو “خارج السيستم”.   

الموسيقى والغناء ليسا بعيدين عن التحديات والتغيرات، التي يعرفها المشهد الثقافي العربي بشكل عام، ولا يمكن لها إلا أن تتبنّى التحولات التي يشهدها المجتمع، وتعكس ظروفه، وقد تتخلف عنه أحيانا. والملفت أن الثورات الاجتماعية، التي شهدها العالم العربي، لم تستطع إنتاج أغنية واحدة تحقق شهرة كبيرة، وتعبّر عن التغيرات التي كان من المأمول أن تحدث. هل السبب هو ضعف الثورات أم ضعف الموسيقى، أو ربما ضعف المجتمع نفسه؟ يصعب الإجابة على هذا السؤال، ولكن بإمكاننا أن نحصر أنفسنا بالجانب الموسيقي البحت، ونلاحظ ضعف تمويل وحضور المدارس والأكاديميات الموسيقية (شأنها شأن المؤسسات الأخرى)، الامر الذي لا يسهم في تطوير قدرات فردية، لا من ناحية الأداء، ولا حتى التأليف والتوزيع. وبالتالي يصعب أن يحقق أصحاب “الثقافة الرفيعة” إنجازا مهما على مستوى الموسيقى، وغالبا تظل منتجاتهم في حدود تقليد قوالب محددة، سواء كلاسيكية أو من “الزمن الجميل”. لماذا نلوم إذن “الشعبيين”؟

المجتمع الموهوب: هل المعاناة فعلا تنتج المبدعين؟

بعيدا عن النقد الجذري، العائد لأدورنو وأشباهه من الفلاسفة، فإن وجود حالة موسيقية “صحيّة”، يرتبط بدون شك بوجود مجتمع حي، منفتح أمام جميع الإنتاجات الفنية، مما يتيح للجمهور الاختيار من بين تشكيلة متنوعة من الأعمال والتعبيرات الفنية، التي تلبي تفضيلاتهم، مع استقلالية الفرد، حتى لو كانت نظرية، ويمكن نقدها فلسفيا، في اختيار ما يروق له، دون تعرّض لضغوط خارجية قاهرة. أما قضية رفع المستوى الفني في المجتمع، فهي مسألة متشابكة، بأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية، تتطلّب توفير البنى التحتية والمؤسسات، التي تدعم الابتكار وتعزيز التنافسية في الحقل الفني، مما يُشجع الفنانين والمبدعين على التجريب، وتطوير أعمالهم، وتقديم مواهبهم وإبداعاتهم. فيكون لكل فنان الحرية في إنتاج أعماله، وفقا لرؤيته، دون توجيهات قمعية. يؤدي كل هذا إلى التعامل مع الفنانين باحترام، واحتواء منتجاتهم اجتماعيا، حتى في حال عدم استحسان أعمالهم من قبل فرد أو جماعة؛ كما يجعل المساس بكرامتهم واحترامهم أمرا غير أخلاقي، ومرفوضا بحكم القانون.

يحبّ عديد من المثقفين العرب ترديد عبارة “الإبداع يُخلق من رحم المعاناة”، ولكن عند النظر في سيرة حياة كثير من المبدعين، في العالمين العربي والغربي، يظهر أن إبداعهم لم يخلق من ظرف سيء فعليا، بل تطوروا بفضل وجودهم في جو ثري ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، ساهم في تنمية قدراتهم. لم تُخلق موهبة بيتهوفن وموتسارت من العدم، بل تعلّموا تحت إشراف أساتذة مهرة، وتأثروا بوجودهم في بيئة، تعلموا منها وطوروها، حتى لو عانوا كثيرا على الصعيد الشخصي. أدورنو نفسه كانت والدته مغنية أوبرا محترفة في فيينا، وخالته مغنية وعازفة بيانو بارعة، وقد نشأ بينهما، واستفاد من تجاربهما، حتى أصبح قادرا على عزف مقطوعات بيتهوفن في سن الثالثة عشرة. دعك من المراحل التي وصلت إليها الفلسفة الألمانية في عصره، ما مكّنه من أن يصبح أحد أهم فلاسفة العصر الحديث.

في الحالة العربية يمكننا أخذ مثال زياد الرحباني، الذي قدّم موسيقى متميزة، من حيث البناء والتوزيع الموسيقي، لدرجة أن البعض يعتبرها وجبة دسمة مقارنة بموسيقى والده، التي، على الرغم من جمالها، كانت أبسط من الناحية الهرمونية. إلا أن زيادا لم يكن مجرد “ابن أمه وأبيه”، بل  نشأ أيضا في بيئة موسيقية غنية بالتجارب، أمنّت له جوا ملائما للإبداع. ومثل هذه الظروف لا تتوافر لدى غالبية طلّاب الموسيقى في العالم العربي اليوم، ولا حتى الهواة.

البيئة العربية تبدو حاليا أفقر مما كانت في عصور وأجيال سابقة، وقد تكون الموسيقى الشعبية وموسيقى البوب فقيرة فنيا إلى حد كبير، ومليئة بالتكرار، بل حتى تساهم في تكريس أنواع معينة من الهيمنة السياسية والأيديولوجية، ولكنها بكل بساطة ليست المشكلة، بل ربما المشكلة فيمن يظنون أنها كذلك، ويسعون لمزيد من الحجب والتقييد والإفقار الثقافي، في مجتمعات لا ينقصها الإفقار أبدا.

بعض الفنون، التي غيّرت التاريخ الثقافي، ظهرت في فترات ازدهار؛ فيما برزت أخرى في فترات الحروب والاضطرابات الاجتماعية، في الحالتين كانت هنالك بيئة ثرية، تنتج وتستقبل الأفكار الجديدة، وربما الخطوة الأولى لتجاوز “الفن الهابط”، هي توسيع بيئتنا وأفقنا، والكف عن الاستعلاء الثقافي/الطبقي، وعادات الاستماع والتفكير بالغة الفقر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.6 9 أصوات
تقييم المقالة
1 تعليق
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
مراد بوقاىص
1 شهر

هناك تجارب موسيقية عربية راهنة جيدة جدا على جميع الأصعدة، على سبيل المثال أعمال ثامر ابو غزالة وفرج سليمان و زياد الزواري وغيرهم من الموسيقيين العرب. على ما أظن أن بقية حلقات الربط بين الفنان والجمهور ما تزال ضعيفة خاصة زسائل الاعلام و وزارات الثقافة المسؤولة على المهرجانات ما عدا البعض بالطبع. وحسب رأيي وبالرغم من أهميتها فوسائل التواصل الاجتماعي و انتشار المنصات المختصة بإذاعة الاعمال الفنية غير كافية لخلق تيار فني عربي ينتج تعبيرات فنية ذات قيمة