“أين الله”، سؤال خطر وشائك، ولكن بالتأكيد سوف يخطر بذهنك وأنت تشاهد فيلم “رحلة 404″، والذي كان اسمه “القاهرة مكة”، قبل أن تضع الرقابة بصمتها عليه، وتغيّر عنوانه، وكثيرا من تفاصيله، لكي تعطي صنّاعه موافقة أصحاب السيادة، وتقرر عرضه أخيرا، بعد سنوات من التأجيل، وقبلها سنوات من البحث عن منتج للسيناريو.

تدور الأحداث على هيئة رحلة خطرة، تخوضها البطلة في القاهرة، حتى تصل إلى الغاية التي تتمناها، وهي الذهاب لأداء مناسك الحج في مكة. وبين الوجهتين، الرحلة داخل القاهرة والرحلة صوب مكة، تقع البطلة في مأزق الاختيار. وكأنها رحلة الإنسان عامة، الذي يجد نفسه في سلسلة اختبارات متتالية طوال حياته. وقد اختار السيناريست محمد رجاء موضوع صراع الإنسان، بين الشعور بالذنب والرغبة في التوبة، إطارا عام للشخصيات الرئيسية في نصه.

لكن للأسف، النوايا الطيبة والأفكار الكبيرة وحدها لا تصنع فيلما جيدا، يبدو فيلم “رحلة 404″، من بطولة منى زكي ومحمد فراج ومحمد ممدوح ومجموعة من ضيوف الشرف، وإخراج هاني خليفة، أضعف من أن يلبي الوعود، التي قطعها لمشاهديه مع لقطاته الافتتاحية. ما السبب؟ تدخلات الرقابة أم ضعف صياغة الفكرة وتجسيدها؟

البغي التائبة: هل تُغني “الفكرة المثيرة” عن البناء المتين؟

يبدأ الفيلم من شخصية “غادة” (منى زكي)، بعد تلقيها أخبارا عن اقتراب تحقيق حلمها بزيارة مكة، لأداء مناسك الحج. ونتعرّف أثناء ذلك على طبيعة عملها، وعلاقتها المتوترة مع والدتها، وسعادتها بخبر الحج في العشر دقائق الأولى من بدء يومها في العمل؛ كما يتضح من اهتمامها بالصلاة في مواعيدها، وحملها “أسدال الصلاة” في حقيبتها، إنها شخص يحاول الاقتراب من الله، رغم كل تفاصيل حياته الإشكالية. ثم تنقلب الأحداث سريعا، وتبدأ رحلة البطلة، مع اللحظة التي تصدم إحدى السيارات والدتها أثناء شجار بينهما. وهنا يبرز المأزق: “من أين تأتي بالمال؟” بعد نقل الأم إلى مستشفى مرتفع التكلفة، فتضطر غادة إلى اللجوء إلى ماضيها، للبحث عن منقذ، يمنحها المال مقابل لا شيء، أو ربما كل شيء.

وانطلاقا من هذا المأزق تبدأ البطلة رحلتين: رحلة أولى (مادية)، للبحث عن المال، لسداد قيمة العمليات التي أجريت لوالدتها؛ والثانية (روحية) للنجاة من شَرك الرحلة الأولى. إذ تجد نفسها بين خيارين، إما ترك أمها تموت، بل والتعرض إلى خطر السجن، بسبب عدم سدادها مستحقات المستشفى؛ أو التضحية بالنقود المخصصة لرحلة الحج لسداد النفقات. هنالك خيار ثالث أكثر صعوبة، وهو العودة إلى العمل، الذي تركته وقررت التوبة عنه عبر الحج، وهو بكل بساطة عمل جنسي، لدى إحدى السيدات التي تدير شبكة لتجارة الجنس.

إلى هنا، تبدو صورة الأحداث منطقية ومثيرة، وتأسس بشكل جيد لأهم مكونات الفيلم وصراعاته، ومأزق الشخصية الرئيسية، وتخلق وترا مشدودا للفيلم، يمتد بين لحظة ابلاغ غادة بموعد استلام التأشيرات وحتى موعد الحج. ولكن المشكلة الرئيسية في العمل تبدو على مستويين: الأول يرتبط بشبكة العلاقات بين غادة وبقية الشخصيات، التي تظهر في الأحداث؛ والثاني يتعلّق بمفهوم غادة نفسه عن الله أو التوبة.

نبدأ من علاقة غادة بوالدتها، والتي تضمّ عددا لا بأس به من علامات الاستفهام. نتعرّف على وجود أزمة بين الأم والبنت، من مكالمة بين الطرفين في بداية الفيلم، تم أداؤها بالصوت المرتفع والأداء المنفعل. وندرك وجود مشكلة بسبب عمل غادة الجنسي، ولكن أسئلة كثيرة أخرى تبقى معلّقة:  لماذا تكره غادة والدتها أكثر من والدها، رغم أن الاثنين استفادا من عملها لتحصيل الأموال منها؟ ما  سبب سعي الأم دائماً نحو المال؟ ما الطبيعة الطبقية للعائلة، التي ساهمت في دفع غادة للعمل الجنسي، وقبول والديها لذلك؟ وكأن “الانحراف” نحو العمل الجنسي، وما يترتب عنه من توترات، يفسّر نفسه بنفسه.

وهذا ينقلنا إلى أسئلة أخرى، عن علاقة غادة بطارق (محمد ممدوح). أشار الفيلم إلى أن أول علاقة جنسية لغادة كانت رضائية مع طارق، خلال فترة دراستها في الجامعة، لكنها تشعر بالذنب تجاهها وتحتقرها. وطارق أيضا يحمل المشاعر نفسها، لأنه “رجل شرقي”، لا يثق في امرأة أعطت عذريتها لرجل قبل الزواج، لذلك لم يستمر معها، وتزوّج من أخرى. هذا كل ما نعرفه عن غادة في تلك المرحلة، فهل يمكن أن يكون مبررا عاطفيا لممارستها العمل الجنسي؟ كيف وصلت غادة إلى هذه النقطة؟ وكيف غادرتها إلى رحلة التوبة؟ أسئلة أخرى لم يجب عنها العمل. فإما أن الرقابة اقتطعت كل هذه التفاصيل، أو أن صنّاع الفيلم وجدوا أن “الفكرة المثيرة” بحد ذاتها، تغنيهم عن أي تبرير أو بناء درامي متين.

“الله في قلبي”: لماذا تفشل توبتنا في القاهرة؟

اكتفى السيناريو ينقل الماضي على لسان الشخصيات، في حوارات طويلة بين غادة ومن تلتقي بهم، فلم يتضمّن حالة سرد استرجاعي واحدة، عن طريق أسلوب “الفلاش باك”؛ واختار أن نسمع طول الوقت ما جرى، دون أن نراه، وكأننا في برنامج إذاعي. ولعل الشيء الوحيد، الذي غطى على مساوئ ذلك، هو الأداء التمثيلي المتميّز للشخصيات، بتعبيرات وجوههم ونظرات عيونهم، وتقلّبات مشاعرهم، التي تظهر في لمعة عين أو إيماءة أو دموع متحجّرة. وجميع المؤدين في هذا العمل، مهما بلغت مساحة الدور أو عدد المشاهد التي ظهروا فيها، كانوا في موضعهم تماما. وهو ما يمكن اعتباره نجاحا للمخرج هاني خليفة.

إلا أن مشاكل السيناريو لا تقتصر على نقل الماضي، وإنما التعامل مع “حاضر” الأحداث أيضا، إذ يعتمد الفيلم على الصدف بشكل كبير، في رحلة الشخصية أثناء بحثها عن المال. وقد تركزت الصدف في نطاق مساعدات مختلفة تقدّمها غادة للآخرين: تنقذ شخصا من الانتحار؛ ترفض عقد تمليك، يكتبه لها رجل في لحظة انفعال، كان من الممكن استغلالها، لكن غادة ذات “معدن طيب”، لذلك ترفض وتعيد له العقد؛ تساعد سيدة متعبة، وغيرها من الأمور.

هذه الصدف قد تُحيل، في نهاية الفيلم، إلى أن غادة تكتشف في داخلها الله، وترى أنه يمكن العثور عليه في كل مكان، من خلال الأفعال الطيبة، وليس فقط في الكعبة. ولكن هذا المعنى لن يتحقق، لأن غادة لا ترى الله في النهاية إلا في مكة. فعندما تلتقي بطارق، في مشهد المواجهة الأخير، تنصحه بـ”الذهاب إلى الله”، بمعنى الحج الإسلامي. وكأن الفيلم على مستوى الرسالة، لا يريد أن يزعج أحدا، حتى عبر مفهوم مطروق بشدة، مثل “الله في قلبي”.

في هذا السياق، قدّم السيناريو “الرحلة” بوصفها سيرورة مادية بحتة، وكأن الله يحبّ أن ندفع المال الكثير، ونشقى ونتعذب، لنعثر عليه، بينما هو قريب أينما كنا، وأينما ولّينا وجوهنا. ربما أفسد هذا دلالة الرحلة بأكملها، وجعل غاية الفيلم غير واضحة.

سعي غادة تجاه التوبة لا يعتمد على الأعمال القلبية، بل الأعمال الظاهرية، مثل الصلاة والحجاب والحج. وإذا كانت هذه غاية الفيلم، فلماذا إذن كل تلك الدراما حول البحث عن الله، في أبشع تفاصيل عالمنا، وأكثرها عرضة للاستغلال والاضطهاد؟ أما إذا كانت الغاية الجمع بين المستويين، الظاهري والباطني، في تجربة التوبة، فربما يمكننا القول عندها إن تكرار هذه الفكرة، المألوفة جدا في كل الثقافة الجماهيرية المصرية والعربية، لم يكن ملفتا جدا في  الفيلم.  

وصولاً إلى اليقين: هل المبدعون أكثر تحرراً من الرقابة؟

يمكن اعتبار ما يرتبط بلغة الشخصيات الجزء الأفضل في السيناريو: الكلمات والألفاظ والطريقة التي تتحدث بها كل شخصية، كانت في غاية التعبير، وبعيدة عن الافتعال أو المبالغة. الأزياء أيضا كانت من مميزات الفيلم، على مستوى الصورة، خاصة فيما يتعلّق بشخصية غادة، وأسلوبها في انتقاء الملابس، ومحاولتها التقرّب من الطبقة العليا، من خلال اللجوء إلى الماركات المُقلدة في سيارتها وحقائبها، إنها دائما تسعى إلى الأشياء الظاهرية.

كانت البراعة في عرض هذه التفاصيل فرصة مهمة لنقل عمق التجربة الحياتية والفكرية، التي تمرّ بها البطلة، للمشاهدين، ولكن الفيلم اختار تقديم خطاب آمن، خالٍ من الأسئلة الكبيرة، وكانه يقود المشاهد من يده، ليعيده إلى واحة القيم المعروفة والمستقرة. وهذا أيضا مألوف في السينما المصرية: نعرض لك الشك لنوصلك إلى اليقين.

ربما كانت العودة للتساؤل عن الجهة التي وجّهت الفيلم في هذا الاتجاه ضروريا هنا: الرقابة أم صنّاعه أنفسهم؟ إذا كان الرقابة فعلا، فيبدو أن أي محاولة إبداعية ستظل رهينة قالب محدود من القيم والتعبيرات، مهما تقدّم الزمن وتغيّرت الحقب التاريخية؛ أما إذا كان هذا خيار صنّاع الفيلم، فربما عوّلنا أكثر من اللازم على مظهر فني، لا يفعل شيئا إلا تقديم المحتوى القديم نفسه، بصورة تبدو معاصرة.

ربما كانت الصورة النهائية للفيلم نتيجة تلاقي الرقابة مع منظورات صنّاع العمل. من الممكن دائما التحايل على الرقابة بصيغ مبتكرة، وربما قدّمت أكثر الأفلام جرأة في التاريخ أعظم ابتكاراتها على هذا الأساس؛ إلا أن “رحلة 404” لم يشعرنا ببذل أي جهد من هذا النوع.

لا نعرف بالطبع كل التعقيدات التي رافقت إنتاج وعرض الفيلم، ولكن يبدو أن مزيح الرقابة والمنظور المحافظ لمنتجي الثقافة الجماهيرية سيظل يرسم فضاء محدودا للغاية لكل التجارب الفنية والفكرية المقدّمة لنا، خاصة التي تقدم نفسها تحت يافطة “الجريء” و”غير المألوف”.   

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 3 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات