“التراحمية” العنيفة: لماذا يعود شبح المسيري في كل اضطرابات “الأمة”؟

“التراحمية” العنيفة: لماذا يعود شبح المسيري في كل اضطرابات “الأمة”؟

انتشرت، في الآونة الأخيرة، صفحات ومنصات على مواقع التواصل الاجتماعي، معنية بنشر محاضرات واقتباسات المفكر المصري عبد الوهاب المسيري، لتجد تلك الاقتباسات صدى لدى الجيل، المسمى “جيل Z”، أي الأفراد الذين ولدوا بين منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبدايات القرن الحالي، والذين يبحثون هذه الأيام عن إجابات ثقافية، محاولين تبنّي هوية ما، وسط حالة الفوضى الداخلية والخارجية. وما زاد حيرتهم، اندلاع حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتوحّش دولة الاحتلال في استهداف المدنيين تحديدا. ليعود المسيري مرة أخرى إلى الحضور الافتراضي، من خلال مُحاضراته المسجّلة عن الصهيونية، وحتمية فناء “الكيان الاستيطاني”، وخصوصا مقابلاته مع قناة الجزيرة، أو المرات التي ذُكر فيها في وسائل إعلام أخرى.

يحضر المسيري هذه المرة وسط حالة الصخب، التي يثيرها “اليسار” المسمى بـ”ما بعد الكولنيالي”، وأيضا “اليسار الممانع”؛ وكذلك اليمين الإسلامي والقومي، ويتجه “النقد” هذه المرة صوب “الغرب”، أي كل ما تمثّله الحضارة الأوروبية ثقافيا: التنوير والحداثة والديموقراطية والعلمانية والليبرالية. فهذه القيم تكيل بمكيالين، وتُظهر، خلاف ما تدعيه من قيم، وجه “الرجل الأبيض” العنصري الاستعماري. هذا “النقد الثقافي” الشائع يعود في جزء منه إلى كتب المسيري عن الحضارة الغربية والصهيونية و”العلمانية الجزئية والشاملة”، على اعتبار أنه جزء من سلسلة ممتدة من المفكرين، حاولوا الإجابة عن سؤال النهضة الشائع: “لماذا تقدّم الغرب وتخلّفنا نحن؟”.

لكن من أين يتجه نقد المسيري الثقافي، وإلى أين يصل؟ ولماذا تقع كل اجاباته في إطار أخلاقي، لا سياسي؟ ولماذا تبدو كل الإجابات الأخلاقية المبهمة تكرار فاشلا لكل ما هو متداول؟ ولماذا، رغم كل هذا، يبقى المسيري حاضرا في كل مناسبة مهمّة؟ ألا يمكن أن نفكّر في بديل؟

حضارة المستوطنين: الحرب ضد الإلحاد والنسوية والصهيونية

ينطلق المسيري في نقده لـ”الحضارة الغربية” من فرضية أولى، وهي أن الحضارة الحالية، التي يتبنّى كثير من البشر قيمها، هي حضارة أميركية استهلاكية رأسمالية، يمكن للمرء أن يعثر على تحيزاتها الكامنة في أي مكان على سطح الأرض، بداية من الاستهلاك والحوسلة (مصطلح سكه المسيري، لوصف إمكانية تحويل أي شيء لوسيلة استعمالية) وصولا إلى البرغماتية والدارونية الاجتماعية وبناء المجتمعات علي صيغة تعاقدية (العلمانية الشاملة)، وانتهاءً بالصهيونية والنسوية و”الشذوذ” والعدمية.

عبّر المسيري عن تلك الفرضية، في رسالته للدكتوراه، المخصصة  لشعر كل من وردزورث ووالت ويتمان، بالنسبة إليه يُعبّر والت ويتمان عن المفارقة الفلسفية الأصيلة في الحضارة الغربية الحديثة، وهي “الحلول” في الطبيعية، أي أن الانسان يندمج مع الطبيعة، ويقوم برد كل شيء فلسفيا الي عنصر مادي واحد، ويلغي كل جانب أخر، سواء  الجانب الإنساني أو التاريخي أو الروحي، ما يعد الإنسان بـ”فردوس أرضي” تتحرّك فيها الحضارة، اعتمادا على حركتها الميكانيكية، وإمكانية “التقدم” صوب نهاية التاريخ، لتحقيق الوعد الأخير (الإنسان الأعلى)، والذي يراه شبيها بالصهيونية.

يفهم المسيري الصهيونية، على أنها أيديولوجيا متطابقة مع أيديولوجية المُستعمرين الأوائل، وخصوصا البيوريتان الأميركيين، ورؤيتهم المثالية للعالم الجديد. يمارس المستوطنون الصهاينة ضد الفلسطينيين الممارسات نفسها، التي مارسها المستعمرون الأوربيون ضد الهنود الحمر، انها أيدولوجية مثالية معادية للتاريخ، بطلها  “الكاوبوي” الأمريكي، والمستوطن المسلّح، المغتصب للأرض، والعائد للطبيعة (صهيون) من أجل صياغة عالم جديد، شجاع، غير أخلاقي، وهو ما يسميه “الفردوس الأرضي”، هذا الفردوس هو ما نعرفه اليوم بالديموقراطية الغربية والمجتمع المدني، فبالنسبة له، لا يمكن دراسة تاريخ الديموقراطية بدون دراسة تاريخ المشروع الإمبريالي، ومراكمته لرؤوس الأموال المنهوبة، سواء في إنجلترا، أو في أميركا، وما حققه من استغلال اليد العاملة للعبيد السود.

ينتقل المسيري، في نقده لمنتجات الحضارة الغربية، من البرجماتية والحلولية والصهيونية إلى النسوية، أو ما يسميه “التمركز حول الأنثى”، فمفهومه العام للنسوية هي أنها أيدولوجية راديكالية متطرّفة، تصل حد تدمير مؤسسة الزواج، وتعويضها بعقد شامل، يُنظّم جميع مناحي الحياة الجنسية، فهو يرى أن الموجات النسوية، بداية من الموجة الأولى، التي أكسبت النساء حقوق التصويت السياسي؛ مرورا بالموجة الثانية، التي انتقدت تموضعات النساء في المجتمع، حركات هدامة وعدمية، وغير معنية بتحرير المرأة ومساواتها مع الرجل، إنما هي معنيّة بوضع المرأة في المقدمة من المجتمع، وفردنتها، وجعلها في “صراع دارويني” ضد الرجال، بما يهدد بتفكيك المجتمع في النهاية.

يعتقد عبد الوهاب المسيري بأن العبثية والإلحاد والنسوية والصهيونية ليست عيوبا في الحضارة الغربية، من الممكن نقدها وتعديل بعض توجهاتها، إنما بالأحرى نتيجة حتمية لموقف مبدأي من الوجود والإنسان والتاريخ والدين. باختصار، المعضلة بالأساس موقف أخلاقي، وليس مجرد موقف ثقافي أو سياسي، يمكن أن يكون له مسارات متعددة ونتائج مختلفة، وعليه يقترح قطيعة مع البرادايم (النموذج) الغربي، ودراسة تحيزاته، للالتفاف عليها، من ثم تأسيس موقف فلسفي ثُنائي من الانسان والوجود، بما هما (مادة/ روح)، ورفض الموقف العلماني، المؤمن بتقدّم التاريخ الي الأمام، واستبداله بموقف لا يؤمن بنهاية للتاريخ، تصبح فيه غاية الإنسان عمارة الأرض، كما تنصّ الأديان، وليس السيطرة والتحكّم في الطبيعة.

الحداثة الإسلامية: كيف تنقذنا أخلاق “الأصليين” من سياسة “المغتربين”

يعاني النقد الثقافي، الذي يتبعه المسيري، خلال أعماله الموجهة تحديدا ضد تحيزات الحضارة الغربية، من معضلة أساسية، اشتركت فيها غالبية النخب الثقافية العربية، وهي الانتقال من نقد الثقافة السائدة، الي التموضع عند “المشكل الأخلاقي” في المقام الأول، دون الولوج إلى السياسة، فالتحيزات الثقافية الغربية التي لدينا اليوم، بوصفنا عربا أو مسلمين، إنما هي نتيجة ابتعادنا عن قيم تراثنا، وأخلاقه “التراحمية”، ولن يمكننا تجاوز هذه التحيزات الفاسدة، إلا بتأسيس أخلاقي جديد. يشترك في هذا التيار كل من محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن ووائل حلاق وفهمي جدعان وعزيز العظمة، وعلى اختلاف مواقفهم، فهم جميعا ينطلقون من المُعضلة الأولى نفسها، أي الأخلاق.

يمكن الحديث عن “أخلاق التراث” في الفكر العربي المعاصر، التي يمثّلها كل من عبد الوهاب المسيري وطه عبد الرحمن ووائل حلاق، فالمجتمعات الإسلامية عندهم كانت تعيش في حالة من الانسجام والتراحم والانضباط الأخلاقي واللغوي الفصيح، قبل أن تأتي الحضارة الغربية، بفلسفاتها المادية البراغماتية، لتمسخنا الي جزر معزولة، كل بلهجاته وتحيزاته الفردية، ما يُسهٍّل من مهمة الاحتلال والاستيطان، كما يقول المسيري. وبالنسبة لتلك الجماعة فالحل يبدأ من الأخلاق، وليس من السياسة، من ثم ربط الأخلاق بالتراث، وسجنها داخلها، دون التفكير في أي إمكانية للتغيير السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، قبل حل مُشكلة الأخلاق، والانسلاخ من كل ما تمثله الحضارة الحالية، حتى تمكّننا تلك الأخلاق من تأسيس ما سماه المسيري “الحداثة الإسلامية”.

تقوم أخلاق التراث، التي يتبناها عبد الوهاب المسيري على اسطورتين: الأولى هي “الأخلاق الثابتة”، فبالنسبة له تميل أخلاق المجتمعات ما قبل الحداثية للثبات والقِدَم والعراقة، لذلك يرفض كل محاولات التغريب والتحديث، المتحيّزة للحضارة الغربية، في مقابل ضرورة العودة للأخلاق القديمة، بما هي الوصفة الكاملة، في مخالفة لكل الإضافات الفلسفية والأكاديمية، التي تقول إن الفضائل والقيم الأخلاقية تابعة للمجتمع والتاريخ، ومتغيّرة من زمن إلى أخر، أي أنه لا معنى للحديث عن أخلاق مطلقة ثابتة عابرة للزمن، كما يؤكد ألسدير ماكنتاير في كتابه “بعد الفضيلة”، أو تشارلز لارمور، الذي يذهب للتأكيد على أن الحداثة ساهمت في تشكيل تفكيرنا الأخلاقي، بما فيه التفكير في أخلاق العصور القديمة نفسها؛ وهو ما يؤكد عليه أيضا تشارلز تايلور، في كتابه “منابع الذات”، الذي يعترض فيه على “أخلاق التراث”، بوصفها أخلاقا مُتخيّلة، ترفض النسبية والتعددية، النابعة من اختلاف البشر، واختلاف ظروفهم، وما يحتاجونه في كل عصر، في مقابل صورة مطلقة، تحاول فرض نفسها على المجتمع، وتكييفه حتى يتطابق معها.

 الأسطورة الثانية هي مسؤولية الانسان الفرد وتحيزاته عن الأزمة الثقافية والحضارية المعاصرة، إذ يقول “المسيري” في كتابه “العلمانية الجزئية والشاملة”، الجزء الثاني: “ولكن كل هذا لن يتحقق إلا إذا قبل الانسان العلم هاديا ومرشدا ودليلا، وسلّم له أمره، وتبنّى منهجه، وطبّقه على واقعه بشكل منهجي متكامل، وتخلّى عن أية غاية إنسانية، أو تساؤلات ومحاولات للتجاوز، ومن هنا توارى العقل البشري، باعتباره بلا أهمية. وبدلا من أن يحاول الانسان تجاوز ذاته الطبيعية والطبيعة المادية، أصبحت مهمته أن يتّبعها”. إذن، فبالنسبة للمسيري، فإن اختفاء الغاية الربانية للإنسان، أو النظرة الإنسانية المركبة، لم يتحقق إلا بتبنّي الإنسان للرؤية العلموية والتحيزات الغربيّة بشكل فردي، ما يجعله مسؤولا أولا عن هذه الأزمة الأخلاقية والحضارية، وليس السُلطة السياسية، أو التطورات الاجتماعية والاقتصادية المركّبة.

وكأن المسيري جزء من نخبة تعنون نقدها بـ”كما تكونوا يولّى عليكم”، وهو خطاب ثقافي يتقاطع مع كل المواقف المعادية للسياسة، وأية إمكانية للتفكير في العدالة والمساواة في المجتمع، فهو يعتبر أن الصراع، في هذا النوع من المجتمعات، يؤدي إلى غياب التماسك المجتمعي، على عكس المجتمعات الدينية، التي تسود فيها قيم الرضا والقناعة.

ضد العلمانية: ماذا فعلت الحداثة بأخلاقنا؟

يرى المسيري أن الحداثة الغربية تقف على طرف النقيض من الأخلاق التراثية قبل حداثية، بل يرى أن “الحداثة” أصبحت نوعا من المرجعية الأخلاقية في المجتمع، أي أنها أصبحت أخلاقا ضد الأخلاق، فهي تحوّل البشر الي أرقام، يسهل القضاء عليها من قبل أداة الدولة؛ ويجعل تدجينهم ممكنا، باعتبارهم كائنات بيولوجية مجرّدة.

ويرى المسيري أن العلمانية، وهي المفهوم الأبرز للحداثة، تنقسم إلى قسمين: العلمانية الجزئية (فصل الدين عن الدولة) والعلمانية الشاملة (عقلنة الوجود الإنساني)، التي تعادي المجتمع التراحمي الإيماني، وتنزع عنه القداسة في المقام الأول، قبل أن تسلب منه أخلاقه، وتحوّله الي جماعات وظيفية تعاقدية، تؤدي مهمات محددة.

موقف المسيري، وغيره من تيار “أخلاق التراث”، يبدو بالنسبة للدراسات الحديثة نوعا من أنواع المبالغة، فالحداثة ليست معنية بالصراع مع الدين، واجتثاث الإيمان، وانشاء أخلاق بديلة، فهذا مجرد افتراض غير دقيق، كما يؤكد يورغن هابرماس وتشارلز تايلور وكارل شميت وغيرهم، وبالنسبة لهم، جاءت الحداثة من رحم عصر الإصلاح الديني، لتعتمد طريقة مختلفة فقط في مقاربة الأخلاق، فبدلا من فهم القيم الأخلاقية بالطريقة التي تُمليها علينا الكنيسة ورجالاتها (المؤسسة الفقهية في حالتنا الإسلامية)، أصبحنا نؤول تلك القيم من خلال “الضمير”، ومن هنا اتجهت إملاءات الحداثة صوب التحرر السياسي، وتأسيس الدولة، وإقامة نظام قانوني. فمثلا يعتبر جون لوك أن الضمير مصدر الأخلاق، وغريزة وضعها الله فينا، وهو أساس إملاءات العقل “كلمة الله، الذي يملك الحق بإمرة كل الأشياء”.

بينما يذهب تايلور إلى أن الدولة العلمانية ليست معنية بإنهاء الدين من الوجود، وإنما إعطاء الحق للعلمانيين والمتدينين بالتساوي في التديّن وعدم التديّن، أما الدين نفسه فهو في منطقة أخرى، لأنه هو الذي يمنح الناس “شعورا بالامتلاء”، يضفي معنى وجوديا على حياتهم، ويعزز أخلاقهم؛ أما بالنسبة لبول ريكور فأن الهرمينوطيقا الحديثة (التأويلية)، منذ شلايماخر حتى غادميرا، كانت معنية بمحاولة عقلنة المسيحية، عبر التركيز على دور الذات في تأويل النصوص الدينية، والالتفات إلى الرسالة المسيحية الأخلاقية، في معزل كامل عن الحرفية والمعنى المؤسساتي للكنسيّة، من أجل توليد صورة جديدة للمعنى.

لذلك فإن ذلك الفهم الأيديولوجي للحداثة والعلمانية يركّز على مقولات نقدية بعينها، ويُهمل مقولات أخرى، سواء مع المسيري أو طه عبد الرحمن أو غيرهما؛ إضافة إلى أن تلك المقولات لا تنبع من المجتمع، وانما تهمله، وتذهب إلى نماذج وأمثلة مثالية، مُنتقاة من التاريخ، تقع على التضاد مع الحس المشترك، والثقافة الاجتماعية القائمة بالفعل. هذه المقولات تفشل أيضا في الإجابة عن سؤال كيفة الخروج من الأزمات السياسية والاجتماعية المعاصرة، وانما تتجاهله، لأنها تعتبر أن المشكلة أبعد من الواقع بالأساس.

خيار القطيعة: هل نبقى عند اقتباسات الظواهري من المسيري؟

تتسم رواية القطيعة المعرفية مع “الغرب”، التي يتبناها المسيري وتياره، بنوع من الطهرانية والرفض العدمي لكل ما نعرف أننا نعرفه تحديدا، هذه الطهرانية تضعنا في تناقض الشرق والغرب، أو ما يُعرف بنظرية “صراع الحضارات”، للمفكر الأمريكي صاموئيل هنتغتون. ومن الملفت اقتباس أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة بعد وفاة بن لادن، لأفكار ومقولات عبد الوهاب المسيري، في تصريحات أدلى بها لقناة “السحاب”، التابعة لتنظيمه.

بينما، على الجانب الأخر، فالواقع الاجتماعي المعاصر يخبرنا بأن نظرية “صراع الحضارات”، التي يتبناها هذا التيار، أبعد ما تكون عن الواقعية، ففي كتاب “الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الشرق الأوسط السياسة”، يخبرنا المفكر الإيراني آصف بيات عن وجود ميل “شبه طبيعي” بين شعوب هذه المنطقة، لتفهّم وتقبّل اختلافاتهم، بغض النظر عن الثقافات والاعراق والأديان، وهو ما يؤهلهم لإمكانية الانفتاح على الأخر، والتعايش وفق قيم كونية في النهاية، إلا أن لهذا الميل عوائق وحدود، وهي سياسية بالكامل، وتتمثل في “حالة الاستعداد للحرب” التي تعيشها الدول، ما يجعل المجتمعات العربية تعيش على حافة الصراع، وفي حالة استثناء دائمة، تستغلّها الأيدولوجيات القومية والدينية، ورجالاتها السياسيون، من أجل تثبيت الإحساس بوجود خطر دائم محيط بالناس، والتطبيع مع حالة الطوارئ، وضرورة الخضوع لنظم عسكرية وطائفية ودينية، تمسك بالمجتمعات، من أجل حمايتها من الانزلاق نحو الفوضى والخراب والقبول بالمتاح.

تعود نظريات وأفكار المسيري للحضور دائما في حالات الاضطراب السياسي، والتشكك في وجود حلول سياسية للأزمات المعاصرة، وتستغلّها حتى الأنظمة المعادية للديموقراطية، سواء الخليجية أو العسكرية او حتى الإسلامية، فهذه الأنظمة التسلّطية العربية تشعر دائما بالخطر من تسرّب الاقتناع بالحلول والتفسيرات السياسية الحداثية، لذلك تلجأ لتعميم ونشر الأفكار الجوهرانية، من خلال مراكز دراساتها ودورياتها ودور نشرها.

في تقرير لـ”مركز الدراسات الاستراتيجي” في الجامعة الأردنية، نجد أن نحو 85 بالمئة من عرب اليوم يعتقدون أن النظام الديموقراطي له مشكلاته، لكنه يبقى أفضل من غيره، على الرغم من أن 86 بالمئة ممن استطلعت آراؤهم أقرّوا بأنهم متديّنون؛ أما مؤشر “المركز العربي للأبحاث والدراسات”، الذي يُصدر دوريا منذ 2011، فيخبرنا أن 66 بالمئة من العرب لا يرون تعارضا بين الإسلام والديموقراطية؛ وفيما يتعلّق بموقف العرب اليوم من العلمانية، يذهب 47 بالمئة لدعم مقولة “من الأفضل للبلد أن يتم فصل الدين عن السياسة”، بينما عارضها 48 بالمئة. هذا التردد والتقارب حاصل بسبب هيمنة النظم السياسية والدينية القائمة، لكنه يحتاج إلي نظريات أذكى، وأكثر حنكة وتركيبا من نظريات المسيري وأشباهه، لتفسيره، والتفكير بنتائجه.

المراجع

  1. عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج 1 (القاهرة: دار الشروق).
  2. ألسدير ماكنتاير، بعد الفضيلة: بحث في النظرية الأخلاقية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل (بيروت: المنظمة العربية للترجمة).
  3. تشارلز تايلر، منابع الذات: تكوين الهوية الحديثة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل (بيروت: المنظمة العربية للترجمة).
  4. ايكل ألين جيلسبي، الجذور اللاهوتية للحداثة، ترجمة فيصل بن أحمد الفرهود (بيروت: دار جداول).
  5. بول ريكور، من النص إلى الفعل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية (القاهرة: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والًاجتماعية).
  6. صامويل هنتجتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب، تقديم صلاح قانصوه.
  7. آصف بيات، الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط، ترجمة أحمد زايد (القاهرة: المركز القومي للترجمة).
  8. جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل (القاهرة: مدارات لأبحاث والنشر).
  9. برنامج قياس الرأي العام العربي، المؤشر العربي 2022، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2022
  10. نتائج استطلاع مقياس الديمقراطية العربي حالة الاردن – مركز الدراسات الإستراتيجية (jcss.org)
  11. إصدار جديد لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري يتجاهل الواقع ويهاجم فيه أوباما – أخبار الآن (akhbaralaan.net)
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.5 8 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات