“الشرطة المجتمعية” في العراق.. أو “التوعية” و”التمكين” في خدمة العنف البنيوي ضد النساء

“الشرطة المجتمعية” في العراق.. أو “التوعية” و”التمكين” في خدمة العنف البنيوي ضد النساء

“الشرطة في خدمة الشعب”. إنها الجملة المُفرغة من معانيها، التي باتت مثارا للسخرية في معظم بلدان العالم العربي، حيث تؤدي انتهاكات الشرطة إلى كثير من المآسي، إلى درجة قيام “الشعب” بانتفاضات كبرى ضد الشرطة، فما بالك إذا تعلّق الأمر بالنساء، وأعمال العنف والقتل التي يتعرضن لها، دون أن تخدمهن الشرطة بشيء، اللهم إلا تأمين ظهير رسمي وقانوني لمرتكبي الانتهاكات بحقهن.

العنف ضد النساء مُتضَمَّن في مؤسسات الدول في العالم العربي، تدعمه القوانين والتشريعات والممارسات اليومية للقائمين على الأجهزة الرسمية، إلا أن العراق يتسم بميزة خاصة بعض الشيء عن بقية دول المنطقة، وهو ارتباطه بعدد من المنظمات الدولية، التي تقدّم الدعم المادي، مقابل التزام الدولة بعدد من الاتفاقات العالمية حول حقوق الإنسان عامة، وحقوق النساء بوجه خاص. هكذا نشأت أجهزة في الدولة العراقية، مهمتها نظريا حماية النساء من العنف ضدهن، وعلى رأسها “الشرطة المجتمعية”، التي “لا تتوقف مهامها عند حدود القضية ذاتها، بل تتعمّق فيها لمستوى التواصل مع الأسر، بغية تفكيك الأسباب، وضمان عدم تكرارها”، بحسب ما تؤكد وكالة الأنباء العراقية.

في حقيقة الأمر، كل تلك الشعارات والعبارات المنمّقة لا يوجد لها أي صدى في واقع النساء العراقيات، وهو ما تدلّل عليه ردات الفعل الحكومية تجاه كل قضايا قتل النساء، حتى تلك التي أخذت حيزا من الرأي العام، فلم تتخذ ضد مرتكبيها أي إجراءات متناسبة مع فداحة الفعل. كما حدث في حالات طيبة العلي، ونورزان الشمري، وملاك الزبيدي، وهن فتيات عراقيات قتلن بأبشع الطرق.

ربما كان الأمر أكثر ترسّخا مما يظن كثيرون، فهو “ثقافة”، تنتجها وترسخها قوانين ومؤسسات الدولة العراقية المعاصرة، ولا يمكن لـ”الشرطة المجتمعية” إلا أن تكون جانبا من تلك القوانين والمؤسسات، فهي توجد وتنشط ضمن بنية واضحة المعالم، يمكن اعتبارها المنتج الأول للعنف الممنهج ضد النساء، حتى لو قدّمت نفسها بصيغة “تمكينيّة” أو “توعوية”، يمكن أن تلقى صدى لدى المنظمات الدولية.

فكيف تعمل “الشرطة المجتمعية” على ترسيخ معادلات وهرميات القمع والتمييز في المجتمع العراقي؟ ولماذا أصبح نقدها، بل والتخلّص منها، مهمة سياسية وثقافية لا يمكن تأجيلها؟

“طبابة الخير”: ثقافة تسليم النساء لقتلتهن

حينما تفكر امرأة بتقديم شكوى ضد معنفيها في العراق ، فإنها ستتجه نحو “الشرطة المجتمعية”، أو تتم إحالتها إليها، وهذه المؤسسة تشكّلت في وزارة الداخلية العراقية عام 2008،  وكانت في البدء شعبة من شعبها، ثم تحوّلت إلى قسم يرتبط بوكالة الوزارة لشؤون الشرطة في 2016، إلى أن تم ربطها بمكتب وزير الداخلية-دائـرة العلاقـات والإعلام عام 2019. وقد حصلت على دعم كبير، سواء من الوزارة، أو من المنظمات الدولية، خصوصا “منظّمة الهجرة الدولية”.

هدف المؤسسة كان تخفيف الضغط على المحاكم ومراكز الشرطة، وهي مؤسسة “مساندة”، أي أنها لا تمتلك صلاحيات تؤهلها لفعل شيء، وتكتفي بحملات “التوعية”، والمشاركة في الندوات، وتلقّي الشكاوى، والقيام ببعض المشاريع، مثل “طبابة الخير”، وهو مصطلح يطلق في العرف العراقي على الطرف، الذي يتدخّل لحل نزاع بين جهتين، وكأن تلك “الشرطة” منظمة غير حكومية، من تلك التي بات يمتلئ بها العالم العربي، دون فعالية تذكر، إلا رفع التقارير للممولين.

تعمل “الشرطة المجتمعية” على “إصلاح” العلاقة بين الفتاة ومعنّفها، دون اللجوء إلى أي تحرك قانوني، سوى توقيع تعهّد بعدم المساس بالمُعنّفة، وطبعا هذا التعهّد لا قيمة له في حماية النساء. ولا تكتفي “الشرطة المجتمعية” بـ”طبابة الخير”، بل إنها أيضا تعيد الهاربات إلى عوائلهن، وبعضهن فقدن حياتهن، بعد عودتهن.

وبهذا يمكن اعتبار تلك “الشرطة” مؤسسة “مساندة” بالفعل، ولكن مساندة للعنف المجتمعي، تحت حجة مراعاة الثقافة الاجتماعية، والعادات العراقية.

يؤمن كثير من العاملين/العاملات في هذه المؤسسة بأن النساء اختلف سلوكهن بسبب الإنترنت، وقد تغيّرن وتجرّأن على عوائلهن، ويرون أن مهمتهم العمل من أجل حفظ الاستقرار داخل المجتمع، وحمايته من الأفكار الخارجية، وبالتالي فيمكن اعتبارها مؤسسة شديدة المحافظة.

في العام الماضي عملت كاتبة هذه السطور مع “الشرطة المجتمعية” على برامج مشتركة، لصالح مؤسسة عراقية، وكانت شاهدة على بعض القضايا. ففي اللقاء الأول مع ضبّاط ذلك الجهاز، تحدّثت إحدى الضبّاط، وهي المرأة المسؤولة عن استقبال حالات العنف المنزلي، عن خبرتها في هذا المجال، وأشارت، دون تردد، إلى أن “بعض النساء يستحققن الضرب”، ثم أردفت أن “النساء الآن لا يتحملن، فبمجرد ضربة خفيفة، سيشتكين ضد أزوجهن”.

ما يثير الدهشة أكثر هو طريقة وصول تلك الضابط، بأفكارها العنيفة ضد النساء، لمنصبها، إلا أن العجب زال، بعد أن علمنا، من العقيد المسؤول عنها، طرق اختيار النساء، اللواتي يجب أن يعملن في هذا القسم، ومنها “أن يكن قليلات الأنوثة، وجههن خالٍ من المكياج أو الفلر، شكلهن متحفّظ، لا يتزيّنن، ويجب ألاّ يلفت وجههن النظر، وأن يكن على خلق عالٍ، ومتديّنات”. وهذا بالطبع يحلينا إلى المشكلة الأكبر، وهي سيطرة المعايير الذكورية المحافظة في المؤسسات العامة، وعدم ترفيع أية امرأة لا تتناسب أفكارها مع تلك المعايير، ما يعيد إنتاج الهيمنة نفسها، لكن بوجوه نسائية.

ربما لهذا السبب، و رغم تجاوز النساء العراقيات “الكوتا” المخصصة لهن في الانتخابات النيابية الأخيرة، لم نجد نوابا إناثا يطالبن بحقوق النساء، لأنهن ببساطة تابعات لأجندات أحزابهن الذكورية، التي لم تكن سترشحهن إلى المقاعد النيابية، لولا “التزامهن” الكامل بمعايير تلك الأحزاب، وأغلبها من أحزاب الإسلام السياسي.  

بهذا الشكل، تصبح مؤسسة “الشرطة المجتمعية”، بهيكليتها الذكورية، عقبة في طريق النساء للحصول على أبسط حقوقهن، أي حق الحياة، خلقت وزارة الداخلية العراقية عبرها طريقا فرعيا، يؤدي بالنساء للعودة إلى معنفيهن، دون أن يصلن إلى مراكز الشرطة أو المحاكم، رغم أن وصولهن لا يعني بالضرورة حمايتهن أو الحصول على حقوقهن.

ولكن لماذا يتم خلق تلك العقبات بين النساء والقانون، أو بين النساء والقضاء؟ وما فوائدها للدولة؟

العنف البنيوي: لماذا يمكن اعتبار الدولة “مجرم الشرف” الأول؟

تعتبر سياسات الدولة العراقية ذكورية بامتياز، إذ تعمل مؤسساتها، القانونية والتعليمية والإعلامية، على ضمان معادلات معيّنة من القوة والهيمنة داخل المجتمع العراقي، وقمع فئات بعينها، لا يتناسب وجودها ونشاطها مع تصوّر الدولة المحافظ عن المجتمع، وهذا ما يتضح في تبنّي قضايا القتل تحت مسمى “الشرف”؛ أو العنف تحت مسمى “التأديب”؛ والبيدوفيليا في التهاون مع زواج القاصرات؛ كذلك في مرونة الدولة مع الأعراف العشائرية، المسيطرة على وضع النساء العام. في الواقع لا تهتم السلطات العراقية بسلامة النساء، مهما ازداد عدد الضحايا، ولا تشكّل أي قضية بالنسبة لها، مهما كانت فداحتها، دافعا للتحرّك باتجاه فعل حازم.

في القضية الأشهر، منذ بدء العام الحالي 2023، وهي قضية اليوتيوبر طيبة العلي، التي قُتلت على يد والدها، حَكَم القضاء على الأب بالسجن لمدة ستة أشهر فقط، لأنه “قتل دون سبق إصرار وترصد”، بحسب المحكمة، وسيخرج من سجنه ربما في بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، على اعتبار أن الحكم صدر في شهر نيسان/أبريل الماضي.

لقد تم التعامل مع قضية المغدورة طيبة العلي بتهاون، رغم أنها قضية رأي عام، إلا أن حياتها، وحياة النساء عموما، لا تغيّر شيئا في معادلات الدولة، ولا تحرّك فيها ساكنا، إلا في حال قيام النساء بالتصدّي لقرارات الحكومة، والتظاهر ضدها، وعندها ستعتمد الدولة، بأحهزتها الرسمية وغير الرسمية، آليات تحويل المعارك السياسيّة والأيديولوجيّة إلى معارك أخلاقية، تُتهم فيها النسويات بالعهر، حتى يتم ضمان صمتهن. ومن المعروف أن النساء لا يمكنهن أن يقاومن في ميدان “الشرف”، لأنه ميدان ذكوري، مهمته وصم النساء أساسا، وأي معركة فيه خاسرة سلفا.

ربما توقّع الدولة العراقية اتفاقيات دولية، تخصّ حماية المرأة، وأيضا تعقد اجتماعات، تدعو فيها إلى المساواة، إلا أن هذا لا يعدو كونه نوعا من “العلاقات العامة” على المستوى الدولي، في بلد يطالب دوما بـ”المساعدات”. حتى رجل الدين الشيعي عمار الحكيم، الذي يتحدث أحيانا عن حقوق النساء، بأسلوب محافظ طبعا، فقد وُصم بأنه “أبو الإيچات”، أي الرجل المهتم بالنساء فوق سن الثلاثين، فقط لأن هناك نساء يحضرن مؤتمراته.

إلا أن هذا لا يعني أن الدولة العراقية تهمل قضايا النساء تماما، بل تتحوّل تلك القضايا إلى مسائل كبرى، قد تهدد “الأمن القومي”، عندما تمسّ ما تراه الدولة “المقدسات” و”الاستقرار الاجتماعي”، مثل مسائل الطلاق، وتجريم العنف الأسري، والمثلية الجنسية، وحرية النساء في اختيار شركائهن.

بهذا المعنى فإن الشرطة المجتمعية ليست مؤسسة لنصرة حقوق النساء، ولا حتى لحمايتهن من العنف والقتل، وإنما جهازا رديفا، يقوم بنوع من الوساطة، لإبقاء النساء ضمن الأطر الاجتماعية التي تدعمها الدولة، قبل أن تتفاقم الحالة، ويصبح تدخّل أجهزة الشرطة والقضاء ضروريا. وبذلك يمكن اعتبارها جهازا أيديولوجيا، يكمل عمل الأجهزة العنفيّة للدولة، ليس فقط بالقمع الفيزيائي المباشر للنساء، وإنما أيضا بترسيخ أدوارهن الجندرية الدونية، التي تؤمّن استقرار النظام المتهالك.

تسييس الألم: حرية العراق تمرّ بتحرّر نسائه

الأوجاع التي تعيشها النساء العراقيات لم تعد عادية، ورغم ذلك فهي غير مرئية، لا للدولة المتديّنة، ولا لليبرالييها المتواجدين على كراسي مجلس النواب. ورغم أن النساء استطعن شغل مساحات واسعة من الأعمال الاحتجاجية ضد السلطة، في انتفاضة تشرين العراقية عام 2019 وغيرها، وانتخبن نوابا “مستقلين” أو مرتبطين بالانتفاضة، إلا أن هؤلاء النواب لم يهتموا بالحديث عن القضايا النسائية، لذا باتت الحاجة الآن، أكثر من أي وقت آخر، لوضع قضايا النساء في الصدارة السياسية، وتفكيك الخطابات السياسية العراقية، في السلطة والمعارضة، من منظور نسوي.

هكذا فإن مواجهة أجهزة، مثل “الشرطة المجتمعية”، أمر شديد الأهمية، أولا لكسر الحاجز، الذي نصبته الدولة العراقية بين النساء وأجهزة القانون؛ وثانيا لفضح “الثقافة” المعادية للنساء، في الأجهزة الرسمية؛ وثالثا لحماية النساء من إعادتهن إلى قتلتهن، تحت دعاوى “طبابة الخير” وغيرها.

عندما تصبح المواجهة مباشرة، بين النساء ومؤسسات إنفاذ القانون، يمكن إعادة طرح الانتهاكات، بوصفها قضايا رأي عام، وخرقا مباشرا لحقوق المواطنين، بما يخالف الدستور العراقي، والمعاهدات الدولية، التي وقّعت عليها السلطات العراقية، ولن تعود بعدها قضايا خفية، تحلّها “الشرطة المجتمعية” بصمت، أو عبر “التوعية”.

ولهذا فإن أهمية نقد ممارسات تلك “الشرطة” لا تقتصر على إنصاف النساء اللواتي يلجأن إليها، من دون جدوى، وإنما إعادة تسييس القضايا النسائية، لتصبح على رأس أولويات الحيّز العام في البلد، ولعل هذا من أهم أساليب مواجهة النظام الطائفي القمعي، الحاكم في العراق منذ سنوات طويلة، ففي بلد يمكن أن تقتل نساؤه بكل بساطة، وبدون عواقب، ستترسخ بالتأكيد كل هرميات القمع والإقصاء والتخلّف، وسيصبح العنف المنفلت ممارسة اعتيادية، ومترسّخة في البنية الأساسية للنظام القائم. وبالتالي فإن تحرر النساء هو تحرير للعراق بأكمله، من كل تلك “الثقافة”، التي تجعله من أكثر دول المنطقة دموية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.6 11 أصوات
تقييم المقالة
2 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
Zina Askar
7 شهور

مقال ممتاز، شكرا للناشطة والكاتبة الجادة في طرحها وتطويق القضية وتشخيص والتركيز على عقد محددة في طريق فهمنا للعنف في العراق، والحواجز المفتعلة في طريق بناء السلام فيه.

فارس محمود
7 شهور

مقال أكثر من رائع… من المرات القليلة، ان لم تكن النادرة، التي ارى كتابة بهذا الحد من العمق والدقة والاكاديمية والنفس الاحتجاجي والنضالي يخص حرية المراة وحقوقها…. يجب ازاحة كل هذه السلطة بمؤسساتها ودستورها وقيمها واخلاقياتها و…. وشن نضال حازم لفضح هذه الوضعية وجر المجتمع نحو افق انساني وتحرري ومساواتي تكون حرية المراة ومساواتها في مقدمة أولوياته…. عاشت جهودك… يجب ان تصل لكل انسان ينشد عالما اخر حر ومساواتي…. دمت ودامت مقالاتك. وصوتك….