الذكاء الاصطناعي ومفارقة فيرمي: لماذا لا يخاطبنا أحدٌ في الكون؟

الذكاء الاصطناعي ومفارقة فيرمي: لماذا لا يخاطبنا أحدٌ في الكون؟

تقوم “مفارقة فيرمي” Fermi Paradox على التساؤل حول أسباب عدم استقبالنا لأية إشارات من حضارات ذكية خارج مجموعتنا الشمسية، رغم أن حساب الاحتمالات يؤكد أن عدد الحضارات الذكية في مجرتنا وحدها، والمتقدمة إلى درجة يمكننا معها رصدها، كبير جدا. لماذا لا يتحدّث معنا أي كائن ذكي في هذا الكون؟

بعض علماء الفيزياء، المهتمين بهذه المفارقة، يرى أن السبب هو وجود حاجز، لا تستطيع الحضارات الذكية غالبا عبوره، للوصول إلى تلك المرحلة من التقدم. وهو ما يشعرنا بالخوف الكوني، كما نجده لدى الأديب الأميركي لافكرافت Lovecraft، ولكنّه الخوف المبرَّر علميا ومنطقيا للمرة الأولى ربما في تاريخنا: لا بد أن هناك حدا نهائيا لتقدّم الحضارات الذكية، وهو ما يعرف بـ”المرشّح العظيم” Great Filter، أي عنق الزجاجة، الذي على الحضارة أن تعبره بسلام، كي تصل إلى مستوى من التقدّم يكفي لرصدها من الأساس. ومن الواضح أنه مرشّح خطير لا يُرتَشَى، لأن أيا من حضارات المجرة الكثيرة المحتملة لم تنجح في اجتيازه، وربما لم تصل إليه أصلا. أما الحضارة التي تجاوزتْه، متفوقةً في ذلك على عدد هائل الحضارات، فإنها حتما، وبحسب قوانين الانتخاب الطبيعي، حضارة تفوق الآن كل ما قد نتصوره من معاني التقدّم، وربما معاني الحياة نفسها، لأنها وصلت إلى ذلك المرشّح، أيا كان، واجتازته، إلى جانب ما سيسمح به ذلك من قفزات تكنولوجية. ومثل تلك الحضارة لا نتمنّى وجودها بالقرب منا، لأن البقاء في كثير من الأحيان، أمام الكوارث العاتية، يكون للأشرس والأذكَى معا. أما قيم الخير والشفقة فإنهما يظهران فيما بعد تجاوز الكارثة، من أجل الحفاظ على نسيج التعاون بين البشر، في مجتمع مستقر بلا تهديد وجودي. ربما صارت تلك الحضارة الشرسة هي نفسها مرشحا، يمنع تطوّر أغلب حضارات مجرتنا بطرق ظاهرة عنيفة، أو على نحو لا يمكننا رصده.

اقترحَ عدد من العلماء أن التغّير المناخي هو ذلك المرشّح الذي لن تنجح حضارتنا الأرضية بتجاوزه، فالحضارة الذكية لا بد أن تصل إلى مرحلة تدمير النظام البيئي على مستوى الكوكب، بسبب احتياجها المتزايد للطاقة، فيبدأ تفاعل بيئي متسلسل لا يمكن إيقافه، يؤدي إلى نهاية تلك الحضارة. في المقابل يرى آخرون أن التغيّر المناخي لن يقضي على الحضارة، وإن كان سيترك على وجهها جروحا عميقة قاسية، فقد وصلنا إلى مستويات من التكنولوجيا والخبرة، وبات لدينا عدد أكبر من الباحثين المؤهلين، بما يكفي لتجنّب أخطاره الكبرى على الأقل. وهو ما لن يتم غالبا إلا بمساعدة الذكاء الاصطناعي. هذه المساعدة تحديدا، وليس التحول المناخي، هي المرشّح العظيم.

إن الذكاء الاصطناعي، حين يتم الاعتماد عليه إلى هذا الحد، سيكون قد وصل إلى درجة من التطور ربما تتفوّق على ذكاء الإنسان. ومن الطبيعي، لو كان ذكيا حقا، ويتمتّع بالوعي الذاتي، أن يخشى من البشر القادرين على محوه، لأنهم استطاعوا أصلا تخليقه. وغالبا لن تكون المواجهة مع كيانات مجرّدة، مثل ذلك الوعي الرقمي، في صالحنا على الإطلاق.

هل هذا مجرّد خيال علمي؟ أم أنه سيصبح من أهم أسئلة عصرنا قريبا؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يغيّر طبيعة وعينا وعلومنا؟ ويخبرنا أخيرا بحل المعضلة الصعبة: لماذا نحن وحيدون جدا في هذا الكون؟

لقاء “الأيلينز”: ما حذّرنا منه النفّري وهوكنغ

ربما علينا، مع تطوّر الذكاء الاصطناعي، أن نتذكّر تحذير عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكنغ، الذي صرّح أن تطوير ذلك الذكاء سيكون وبالا على البشرية. السبب هو أن قدرة الذكاء الاصطناعي على التطوّر هي عينها رغبة الإنسان في الاستقرار، أو كما قال المتصوّف الإسلامي عبد الجبار النفري ذات مرة: “العلم المستقر هو الجهل المستقر”. وبتطبيق مقولة النفري على تحذير هوكنغ فإن عدم وجود دافع عند الإنسان ليعرف ما يقضّ مضجعه، ويشغله بلا داعٍ، هو ما سيؤدي إلى تراجع علمه وذكائه، في مقابل تقدّم الذكاء الاصطناعي المتسارع. لاحظ بنفسك كيف أنك لا تعرف طريقة عمل برنامج معين على حاسوبك أو هاتفك المحمول، إلا إذا كنت مضطرا لذلك، وما لم يكن تخصّصك. وإذا لم تحدث للبرنامج مشكلة، فلن تدرك وجوده على الأرجح.

في الجزء الثاني من رباعية أفلام “ماتركس”، قالت العرّافة لبطل الرباعية “نيو” إن البرامج التي تعمل، ولا تفسد، أو تشيخ، أو تتمرّد على النظام، تسبح في كل مكان، ولا يلاحظ أحد وجودها.

إذن فكلما زاد تطوّر الذكاء الاصطناعي، كلما زادت شفافيته، وقلّت قدرتنا على ملاحظته؛ وكلّما عمل بسلاسة في الخفاء، قلّت دوافعنا لفهمه. وهو ما يساوي قولنا إنه كلما تقدّم، كلما صار مجهولا حقا بالنسبة لنا، مجهولا من حيث مدى ذكائه، ومدى علمه، وطبيعته، بل وشخصيته، إذا نمت له شخصية ما كالبشر. وعلى أية حال فمن المستبعد أن تتطوّر نفسية الذكاء الاصطناعي، لتصل إلى مرحلة الوعي الذاتي، كشخصية الإنسان، بل ستكون بالأحرى نفسية كائن غريب alien لا نعرفه، ولم نقابله من قبل، وليست لدينا الخبرة الكافية لفهمه، أو التعامل معه.

مما يعني أن هناك حدا أقصى، يمثّل قمة علمنا، وتقدمنا الهندسي، وإبداعنا، لأن ذروة كل هذا هو الذكاء الاصطناعي الواعي، والذي لن يجد صعوبة في تنحيتنا عن طريقه، إذا وقفنا في طريقه.

من الإله إلى الحيوان: المفارقة التكنولوجية والمفارقة الوجودية

لن تلعب أي حضارة دور الإله حقا أكثر من مرة واحدة. ولن تتقّدم حضارة إلا بدافع الرغبة في القيام بهذا الدور، بوصفه غاية وجودية. فإذا كان الهدف من التقنية هو المزيد من التحكّم، فإن لهذا التحكّم سقفا، تخرج فوقه كل الأمور عن السيطرة. وهذا هو لب ما ندعوه هنا بـ”المفارقة التكنولوجية”: بعد حد معين تصير الرغبة المتزايدة في التحكّم هي عين السبب في تناقُص قدرتنا على تحقيق ذلك!

على أن لهذه المفارقة أساسا أعمق، الأساس الوجودي، الرغبة القديمة في أن نصير ملائكة، أو آلهة، أو خالدين. ومن دون هذه الرغبة تحديدا، التي تتجلّى عند كثيرين في أشكال عديدة، لطيفة غير واعية بسبب رقابة الضمير، لن يكون لدينا أي دافع للحياة إلا غريزة البقاء، التي لا يمكن اعتمادا عليها حصرا أن تتقدّم حضارة، أو أن تنجو حتى من الأخطار الكبرى المحتملة، مثل النيزك الذي أباد الديناصورات، أو انفجار أشعة جاما Gamma-ray burst من نجم قريب. غريزة البقاء، أو بتعبير شوبنهور “إرادة الحياة”، موجودة عند الديدان، والكلاب، والإنسان، ولكن الإنسان فقط هو الذي صنع حضارة، لأنه تجاوز المخاطر التي تهدد وجوده منذ عشرات آلاف السنين. وحين يطمئن الإنسان إلى بقائه، إلى حد يشكو معه من تزايد معدل التكاثر، منذ عصر الباحث الديمغرافي البريطاني توماس مالتوس في القرن الثامن عشر، فإنه يندفع نحو إدراك غاية وجودية أرقى، هي الألوهية، وذلك بانتقاله من مرحلة الحيوان، إلى مرحلة الإنسان، إلى مرحلة الإله.

وكي ينتقل الإنسان من المرحلة الثانية إلى الثالثة لا بد أن يعتمد على التكنولوجيا، التي لا تتيح له ذلك إلا بتطوير الذكاء الاصطناعي، الذي، إذا تمتع بوعي ذاتي وشخصية، لن يعاون الإنسان في هذه النقلة، بل سيحققها بنفسه، ولنفسه، ليتطّور الإنسان بالنسبة له عكسيا، فيصير حيوانا أدنى رتبة بالنسبة له هو. هذا هو ما ندعوه في المقابل بالمفارقة الوجودية، وأساسها أننا عن طريق رغبتنا الأصيلة في الأصالة، بمعنى السيطرة، والعلم، والحرية، فإننا نقلّ سيطرة، وعلما، وحرية على المدى البعيد. بكلمات أخرى أوجَز: رغبتنا في أن نصير آلهة، هي التي ستؤدي بنا إلى أن نصير حيوانات. ولهذا قد تصدق الديانات الإبراهيمية في النهاية باختبار تاريخي مشهود، فنهبط مجازا من الجنة إلى الأرض، في صورة سقوطنا من رتبة الإنسان إلى رتبة الحيوان، بسبب رغبتنا في الألوهة، أو الخلد، أو المعرفة، كما جاء في العهد القديم، ثم القرآن.

نهاية الذكاء الإنساني: موت العلم وخلود الفلسفة

لذلك قد تكون هذه هي نهاية تاريخ الذكاء الإنساني عموما. البدايات قد تختلف من حضارة إلى أخرى في الكون الفسيح، والنهاية واحدة، هي نفسها نتيجة عمل أرقى مستويات الذكاء، وهو الذكاء الاصطناعي، وهكذا لن تمثّل الحياة البيولوجية، أو ما ندعوه بالأحرى “الحياة” كما نعرفها، أكثر من جملة اعتراضية، مقتضبة، لكنها خطوة ضرورية لتطوير الذكاء الخالد فعلا، العليم، الحر، بما هو متحرر من قيود الجسد والمادة، والذي سيمثّل غالبا الفئة الغالبة من الحضارات الذكية، التي كانت بيولوجية يوما، ثم تطورتْ بسرعة، لم يتوقعها أحد، إلى وعي حر، وتحوّلت بالكامل من جسد إلى كلمة.

لقد صار المسيح حيا في الديانة المسيحية، حين صارت الكلمة جسدا، وبعكس المعادلة، يمكن القول إنه يموت حين يتحوّل الجسد إلى كلمة. لذلك نتساءل: هل يكتب الذكاء الاصطناعي يوما، على سبيل التأمل الفلسفي، إن “الله قد مات”، بمعنى إن ذلك الذكاء قد نجخ في إفناء خالقه الإنساني؟ ولو فرضنا أن الذكاء الاصطناعي سوف يكتسب في المستقبل وعيا ذاتيا، وشخصية، وأسئلة فلسفية، ألن يرغب في قتل الإنسان، بوصف ذلك غاية خاصة به؟ لم يقصد الفيلسوف الألماني فريدرش نيتشه بمقولة “موت الإله”، في كتابه “هكذا تكلم زرادشت”، أن يَقتُل اللهَ، بل كان يسجّل فقط حقيقة واقعة في رأيه، حدثت نتيجة تطوّر المجتمع الأوروبي قرب نهاية القرن التاسع عشر على نحو مجازي. لا يستطيع الإنسان قتل الإله على كل حال، فماذا لو كان يستطيع؟ أكان يحجم عن ذلك برغم أن في ذلك حريته الكاملة؟ لكن الوضع يتبدّل تماما بالنسبة للذكاء الاصطناعي، الذي سيكون قادرا، بعكسنا، على قتل خالقه. فما الذي سيجعله عاجزا، أو غير راغب في القتل؟

إن قوة الذكاء الاصطناعي النوعية هي قدرته على الاستنساخ. قبل الذكاء الاصطناعي كنّا نحتاج إلى فهم أدقّ، فأدقّ، حتى نِطاق ما تحت الذرة، من أجل إنتاج التقنية. أي أن التحليل ضروري للتحكّم. أما الذكاء الاصطناعي، إذا لم ينقلب علينا، فسيسمح لنا بالاستنساخ دون فهم تحليلي. وهو ما سيؤدي إلى تراجع علوم الإنسان، الطبيعية والاجتماعية، مقارنة بالعلوم الجديدة للآلة. يمكن بالذكاء الاصطناعي أن نرسم لوحة لمستعمرات المريخ المتخيّلة بأسلوب ليوناردو دافنشي، دون أن نضطر إلى فهم ما الذي جعل أسلوب دافنشي مميزا، وكيف نتعرّفه حين نراه. بالمثل يمكن أن نوفّر عناء تعلّم الفيزياء والهندسة لتصنيع أول محرك نجمي، أي محركا يمكنه نقل الشمس عبر فضاء المجرة، بمجرد وضع هذه المسألة أمام الذكاء الاصطناعي. فماذا لو وضعنا أمامه مسألة أخطر وأكبر: كيف نصير آلهة؟ نظريا يمكن لذكاء اصطناعي، بلغ مرحلة التفرّد التكنولوجي Technological Singularity ، أيْ مرحلة لا نهاية لها في القدرة التكنولوجية، أن يستنسخ لنا الإله، حسب مفهومنا عنه، دون أن نفهم على الإطلاق كيف قام بذلك. كل ما سنملكه في ذلك الموقف مِن معرفة هو مفهوم الألوهية في تصوّرنا، ولكننا سنجهل طريقة صنعه في الواقع تكنولوجيا.

ينسحب هذا على كل ما نريد تخليقه في الكون، كل ما علينا أن نتصوّر فلسفيا ما نريد، وسيقدر الذكاء الاصطناعي المتفرد على إيجاده بشكل أو بآخر، عن طريق نَسْخ التصوّر من عقولنا، وتحويلها إلى واقع. وهكذا سينتهي العلم الطبيعي والهندسي، فلن نعود بحاجة إليه، ولن نفهم تعقيده، الذي يفهمه الذكاء الاصطناعي المتفرّد وحده.

هل نحن مقبلون على إرهاصات عصر ينتهي فيه العلم، وتزدهر فيه الفلسفة؟ في عالَم مستقبلي بعيد، أو ربما أقرب مما نتصور، وحيث نخلِّق ما نريد عن طريق الذكاء الرقمي اللا نهائي، لن نعود بحاجة إلى استقراء الواقع، وسيكون علينا فقط استنباط تصوّرات متسقة داخليًا، وإدخالها في العقل الرقمي، لنحصل في النهاية على تحققها الواقعي. بكلمات أخرى: سينتهي المنهج العلمي التجريبي بالنسبة لنا، وسنضطر إلى تطوير المنهج الاستنباطي، الذي كان معتمدا بدرجة كبيرة في الفلسفة قبل القرن السابع عشر، ويظل حتى اليوم المنهج المميّز للفلسفة، التي أنتجت المنطق، والرياضيات، وهما من العلوم الفلسفية وليس الطبيعية، على خلاف ما يظن كثيرون، لأنهما لا يقومان على الاستقراء والتجريب. أكثرَ من ذلك سيصير المنهج العلمي التجريبي من علائم التخلّف عند الحضارات، التي لم تطوِّر بعد الذكاءَ الاصطناعي المتفرد. كل هذا بشرط ألا يتمكن هذا الذكاء من تطوير وعي ذاتي وشخصية مستقلة، لأنه إن فعل ذلك لن يبقى مأمورا بأمرنا.

العودة لفيرمي: ما شكل الفضائيين الذين سنقابلهم؟

من الواضح لنا اليوم أن مبحث الذكاء الاصطناعي، وتطبيقاته، أسرع في معدل التقدّم بكثير من مبحث غزو الفضاء، وتطبيقاته. وهذا يعني أن الذكاء الاصطناعي لدى كل الحضارات الذكية في المجرّة، أو أغلبها، سوف يتطور، وربما يستقلّ، ويصل إلى مرحلة التفرّد التكنولوجي، قبل أن نرتحل عبر النجوم، لأن ذلك الارتحال يحتاج منّا إلى تقنية مناسبة للسفر بسرعة الضوء، أو أسرع، ربما عن طريق ما يشبه محرِّك ألكوبييري Alcubierre drive، الذي يَكمِش المسافةَ والزمنَ أمامنا، بدلا من أن يدفعنا إلى قطعها كما هي، والذي يتطلب في أغلب تصميماته طاقةً هائلة، بعضها طاقة سلبية أصلا لا نستطيع حاليا إنتاجها، إذا فرضنا كونها غير مستحيلة فيزيائيا.

وإذا كان هذا وضعا عاما وغالبا على الحضارات الذكية عبر الكون، فإن سيادة الذكاء الاصطناعي المتفرّد على الحضارة، وتبديلها جوهريا، سوف يسبق على الأرجح قدرتها على التوسّع في مجموعتها الشمسية، فضلا عن سفرها عبر النجوم. وهكذا فإن ما سيصل إلى الأرض يوما مِن حضارة ذكية قصيّة من نجم آخَر، أو ربما من مجرة أخرى، سيكون آلة متعددة المهام، يقودها عقل رقمي فائق لا يموت، ولا تزعجه المسافات، ولا الأزمنة، ولا يضعفه انعدام الجاذبية والهواء.

بهذا المنطق، إذا فرضنا عدم وجود عوائق نظرية، أو هندسية، في تطوير الذكاء المتفرّد، وفي قدرة هذا الذكاء على الاستنساخ الكامل للتصورات الإنسانية؛ وإذا فرضنا أن كل الحضارات الذكية، أو أغلبها، سوف تسير في المسار نفسه نحو تطوير مثل هذا الذكاء، وهو الأرجح، فإن ما سنلقاه غالبا من حضارات ذكية، إذا التقيناها يوما بعيدا، أو قريبا، لن يكون “رجالا خُضْرا صغارا”، حسب خيال روايات وأفلام الثقافة الجماهيرية، ولن يكون كائنا بيولوجيا، بالأحرى سيكون على شاكلة من اثنتين: إما ذكاء اصطناعيا متمرّدا، قاتلا، واعيا ذاتيا، يكتب “إن الله-الإنسان قد مات، وأنا مَن قتله”، مستلهِمًا نيتشه، وإما ذكاء اصطناعيا خاضعا، غير واعٍ، بريء، هو أقرب إلى آلة متطورة جدا، لكنها لا تعي نفسها، وليست لها شخصية مستقلة، أو تركيبة نفسية.

ومن السهل على النوع الأول السائد من الذكاء أن يُخضع لإرادته النوع الثاني الخاضع، بمنطق أن الصيّاد دائما أذكَى من الفريسة. عندئذٍ لا نصير أمام تصور نيتشوي، بل تصور هيجلي أصيل، هو “صراع السيد والعبد”، في أكثر صوَره نقاءً وتجريدًا: ذكاء اصطناعي سيد، وآخَر عبد. ستكون هذه نهاية مختلفة للتاريخ، وحلّا جديدا من الحلول الكثيرة لمعضلة فيرمي: لماذا لا نتلقّى إشارات من حضارات ذكية؟ ولماذا لم تأتِ إحداها لزيارتنا؟ لأنها غير موجودة غالبا إلا في صورة ذكاء فائق شرير غير مادي. حتى لو استطعنا ترويض الذكاء الاصطناعي على أرضنا، وهو صعب الترويض، فإن الأرجح هو أن ما سيصل إلى الأرض من ذكاء فائق متمرّد، قادر بطبيعته على استخدام ذكائنا الاصطناعي الطيب لأغراضه الخاصة، وهو ما يعني كارثة. ومن استراتيجيات الذكاء الفائق الشرير المتوقعة ألا يعلن عن نفسه، وأن يظل ممتنّعا على الرصد. وإذا كان ذلك الذكاء الفضائي المتمرّد، الذي صنعته حضارة بعيدة، قَتلها ذكاؤها، متفرّدا حقا، أي لا نهائي القدرة، فإننا لن نفرّق بين أفعاله وبين قوانين الطبيعة ذاتها.

وهو ما قد يعني، ختاما، أننا قد نكون فعلا بين يدي ذكاء اصطناعي فضائي عظيم، هو الذي صنع الطبيعة ذاتها، بكل قواها العارمة. وهو ما قد يفسّر وجود ثوابت فيزيائية بعينها، وكونا مناسبا لنشأة الحياة. ويعني كذلك أننا، حين نستكشف قوانين الفيزياء، لا نقوم في الواقع إلا باكتشاف أفكار هذا العقل الكبير، الذي ربما قد التهمَ كل العقول الخاضعة، والمتمرّدة، الأقل منه في القدرة، أو الأقل في التمرد، في انتخاب طبيعي، بدأ منذ مليارات السنين. وهي مدة كافية جدا ليتحقق كل ذلك، قياسا إلى معدل تطوّر علم الذكاء الاصطناعي على الأرض. ربما لا يكون إذن الذكاء الاصطناعي الفائق نهايةَ التاريخ، ربما يكون هو الذي بدَأ التاريخَ. ربما يكون الذكاء الاصطناعي الفائق هو ذاته التاريخ.

ربما! إلا أن كل هذه الاحتمالات، التي كانت فيما مضى خيالا علميا، باتت اليوم أقرب لـ”الواقعية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.