تتبوّأ القضية الفلسطينية مكانة مركزية في الدول العربية المختلفة، وكان لها على الدوام تأثير كبير، ولسنا نبالغ إن قلنا إنها من العناصر الأساسية في تحديد شكل أنظمة المنطقة، فقد صعدت حكومات باسمها، وتكوّنت منظمات، اعتبرتها حجر الأساس، والبوصلة الموجّهة لها. وبناء على مركزية “القضية” هذه يمكن اعتبارها محرّكا أيديولوجيا وسياسيا أساسيا شعوب المنطقة.
العراق ليس باستثناء، فتاريخ العراق متشابك مع القضية الفلسطينية، وقد مرّت علاقة العراقيين بالشعب الفلسطيني بتقلّبات كثيرة، خاصة بعد عام 2003، فمع زيادة نبرة العداء لعموم العرب، من طرف السياسيين المسيطرين وقتها، وزيادة الخطاب الطائفي، تعرّض الفلسطينيون المقيمون في العراق لموجة من التحريض، وأحيانا الاضطهاد المباشر، بتهمة انتمائهم لمنظمات ارهابية سنيّة، من قبيل القاعدة وغيرها. إلا أن الفصائل العراقية، والسياسيين أنفسهم، غيّروا فيما بعد خطابهم، تماشيا مع الخط الإيراني، الذي تبنّى “القضية”.
ما حدث في الأراضي الفلسطينية، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي 2023، وما تلاه من حرب مستمرة معنا إلى اليوم، لم يمر على المنطقة مرور الكرام، فحجم الدمار الذي أحدثته تلك الحرب، والنشاط الإعلامي، الذي ترافق مع عملية “طوفان الأقصى”، أدى الى صراعات ثقافية ورمزية، أعادت نحت معاني الخطابات، وترتيب الأعداء والأصدقاء في تصورات الناس.
العراق لم يكن بعيدا عن تلك الأحداث، بل أثّرت فيه على كل المستويات. وبالطبع فإن “الحرب الثقافية” في البلد لم تبدأ يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فقد دارات دائما حول الرموز والانتماءات والهويات، بما يتصل بذلك من توزّع القوة والموارد والهيمنة. والآن عادت القضية الفلسطينية، وتنظيمات “المقاومة”، مثل حماس، لتصبح عوامل جديدة في “الحرب الثقافية” العراقية، يمكن أن تستثمر بها أطراف سياسية عديدة.
فمتى بدأت “الحرب الثقافية” الحالية في العراق؟ وكيف أثّرت عملية “طوفان الأقصى” عليها؟ وما المآلات المتوقعة لذلك الصراع الرمزي والأيديولوجي الكبير على الساحة العراقية؟
نساء وشيعة: هل كانت انتفاضة تشرين بداية “الحرب الثقافية”؟
يمكننا القول إن عراق ما بعد 2003، لم يشهد عام استقرار واحد، وكل ما قيل عن فترة استقرار، امتدت ما بين تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، على يد “الإطار التنسيقي” الموالي لإيران، وحتى حرب غزة، غير دقيق. فهي قد تكون فترة هدوء نسبي، بالنسبة للأعوام السابقة، ولكن في المجمل كان هناك اضطرابات كثيرة، منها الاقتصادي والسياسي؛ وكذلك كانت فترة مليئة بمحاولات حسم صراع ثقافي، وصل أوجه مع مظاهرات “انتفاضة تشرين” عام 2019.
والأسباب التي تدفع لاعتبار “انتفاضة تشرين” بداية صراع ثقافي مُركّز في العراق، هي استثنائية ذلك الحدث، واختلافه عن بقية تحركات المعارضة، من اعتصامات أو إضرابات أو مظاهرات، إذ كان ما سبقه إما مظاهرات خدمية، تطالب بتحسين شروط الحياة اليومية، مثل التي حصلت في البصرة عام 2018، للمطالبة بتوفير مياه صالحة للاستخدام الادمي؛ أو عموم المظاهرات المطالبة بوظائف، التي لم يخل منها عام في العراق؛ أو المظاهرات الفئوية، التي تطالب بحقوق فئة من الشعب العراقي، مثل مظاهرات تيار مقتدى الصدر، أو اعتصامات المناطق الغربية السنيّة.
من الواضح أن انتفاضة تشرين كانت أشمل من كل هذا، وكان مما يميّز مظاهراتها، حضور النساء بشكل واضح؛ ومهاجمة استغلال الدين في السياسة؛ وتحديد أسماء ومؤسسات، بوصفها موضع اشتباه في الفساد، كان ينظر إليها فيما سبق بنوع من القداسة، مثل “الحشد الشعبي”؛ وظهور معاير تفرز “العميل” عمّن يقف مع “الشعب”؛ وبالتأكيد عمومية تلك المظاهرات، بمطالبها والمشاركين فيها، فكانت تضمّ كل فئات المجتمع العراقي، شيوخه وشبابه، رجاله ونسائه، وكل الطوائف والقوميات.
كل هذه الخصائص أدت إلى ظهور صراع ثقافي، ينسج خطابا جديدا في قيمه ومعانيه، ويتحدّى بصورة واضحة الخطاب المستقر للسلطة، وخطاب الميليشيات وجمهورها. فظهرت لافتات وشعارات، توضح رفض المتظاهرين للطائفية؛ وتؤكد على أهمية حضور النساء في الحيز العام، وهذا ليس تحديا فقط ليس لمعاير السلطة، وإنما لمعاير المجتمع برمته، والتي تحاول السلطة تأكيدها وإدامتها؛ كما أن تلك المظاهرات والاعتصامات حدثت وسط العاصمة بغداد، والمحافظات الوسطى والجنوبية، ذات الأغلبية الشيعية، ورفعت شعارات من قبيل “نريد وطنا” و”نازل اخذ حقي”، في تحدٍ واضح لادعاءات الأحزاب الأقوى في السلطة، أي الأحزاب الشيعية، التي كانت دائما تتغنّى بأنها ممثلة الشيعة، وتحارب من أجل حقوقهم، ولرد مظالمهم. وهكذا واجهت المظاهرات، بشكل مباشر أو غير مباشر، أساسيات الخطاب الأيديولوجي للسلطة: ذكوريته، وطائفيته، ومظالمه الهوياتية.
الواضح أن كل هذا أثار غضب رجالات الدولة، الغيورين جدا على الأخلاق والدين، فشهدنا عمليات تشويه سمعة النساء المشاركات في المظاهرات، وأحيانا كثيرة تصفيتهن جسديا؛ أما شباب الطائفة الشيعية فقد تم تشويه سمعتهم عن طريق تسميتهم بـ”الجوكرية”، أي فئة الممولين من الخارج، التي افتعلت الاضطرابات، وغرّرت بالشباب البسيط. رد المشاركون في الانتفاضة بتسمية أحزاب السلطة بـ”الذيول”، أي ذيول إيران.
هكذا وصل الصراع إلى أشده، مستعيرا شعارات ورموزا من التراث الشعبي والديني، مثل شخصيتي الحسين وزينب. مما صاغ معاير وترميزات جديدة للصراع السياسي في العراق، ومعاني الدين والوطن، وقيم المجتمع.
انتهت الانتفاضة بالتدريج، بعد أن أسقطت حكومات، وتعرّضت لكثير من العنف، إلا أن “الحرب الثقافية” العراقية لم تنته معها.
ترميم الميليشياوية: هل قوّت “طوفان الأقصى” السلطات العراقية؟
حدثت عملية “طوفان الأقصى”، ومن ثم الحرب على غزة، في سياق خفوت الصراع السياسي في العراق، واستتاب الوضع بيد الفصائل والأحزاب الموالية لإيران، ما مكّن السلطة من مطاردة بقايا المنتفضين، والتضييق عليهم. فلم تكتف بعمليات الخطف والاغتيال، وإنما وظّفت كل إمكانيات الدولة في سبيل إنهاء كل صوت معارض، فشهدنا عمليات ملاحقة قضائية لكثيرين، وهيمنة تامة على الإعلام، وممارسات إقصاء ممنهجة للنساء من الحيز العام، وتشديد القوانين الدينية المتزمّتة. من ناحية أخرى تم إطلاق أيدي الميليشيات للسيطرة على الشارع العراقي، وكان هذا من ضمن خارطة الطريق الجديدة، التي جعلت العراق تحت هيمنة إيرانية شبه تامة، وأهم نقطة في هذه الخريطة، إضافة الى الضغط على الأميركيين لإخراجهم من البلد، كان غلق ما سُمي “بؤر المظاهرات”.
تنفيذ عملية “طوفان الأقصى”، من طرف فصيل متحالف مع إيران، وله نزعة ميليشاوية مشابهة للفصائل الموجودة في العراق، كان له بالتأكيد آثار عميقة، في تقوية نفوذ السلطة من جهة، وزيادة حدة الاضطراب الاجتماعية في البلد من جهة أخرى.
كان الوضع مربكا بادئ الامر، ولكن سرعان ما تم تحديد الأدوار، فقُسمت الفصائل الى قسمين: الجماعة المنضوية في السلطة، التي تلعب دورا دبلوماسيا، وتحاول استيعاب الضغط الأميركي؛ والأخرى التي تبدو خارج السلطة رسميا، وتمارس الضغط العسكري على ما تبقى من قواعد أميركية، لدفعها للانسحاب.
لن نتطرق بمزيد من التفصيل في تبعات تقسيم الأدوار، وما خلقه من منافسة بين الفصائل نفسها، أو العمليات العسكرية المتبادلة بين الولايات المتحدة وتلك الفصائل، وإنما سوف نركز على انعكاسات ذلك التفاعل على المستوى الاجتماعي والثقافي .
بدا من الوضح أن ما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر قد أدى إلى مزيد من انحسار الخطاب المدني المعارض، المنبثق من انتفاضة تشرين، والمستلهم رؤاه وقيمه منها؛ و كذلك انحسار الجهات التي كانت تحاول أن تتقرّب من جمهور الانتفاضة وتغازله، مثل بعض الشخصيات السياسية السنيّة، فسُلّطت الأضواء كلها على الفصائل المسلّحة، ورأينا إعادة نشر تسجيلات عملية “طوفان الأقصى” على منصات الفصائل، وإصدار البيانات المشيدة بالعملية، بل وسفر بعض عناصر وقادة الميليشيات إلى لبنان، لإظهار التضامن مع حزب الله. وفي اجواء مثل هذه، تم طمس أي كلام سابق عن حصر السلاح بيد الدولة، أو مناقشة شرعية وجود الميليشيات المسلّحة، أو محاولة الابتعاد عن الفلك الإيراني. فبعد السابع من أكتوبر، وبدء المقاومة والتحرير، مَنْ يستطيع الوقوف أمام كل هذه الانتصارات، التي يبدو أن “المقاومة العراقية” جزء أساسي منها، بل وصاحبة الشرارة الأولى فيها، عندما قاومت المحتل الاميركي؟!
بات من السهل قمع أي حديث معارض، سواء كان سياسيا أو اجتماعيا، لمواجهة تلك الطبقة من المسلحين والسياسيين الفاسدين، فقد اتُهمت كل الأصوات المعارضة بالسعي لتقويض مشروع المقاومة العراقية، التي تساند المظلومين في غزة. في الواقع هيّئت الحرب ظرفا مناسبا حتى لإصدار القوانين “الأخلاقية”، التي تتفنّن بها حكومة الإطار، مثل قانون “البغاء والشذوذ الجنسي”.
عمليا، استغلّت الميليشيات العراقية “طوفان الأقصى” لإعادة ترميم شرعيتها، بعد كل الانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها ضد العراقيين؛ وتوفير خطاب متماسك لوجودها، وفرض قيمها، خاصة مع تزايد الدمار في غزة، واستمرار الولايات المتحدة في دعم الحرب الإسرائيلية ضد القطاع. ما ينذر بخطر كبير على العراق، خاصة مع تنامي تأثير الميليشيات، وشعور الولايات المتحدة بأنها تمثل تهديدا حقيقيا على وجودها في المنطقة، وهو ما صرّحت به تريسي جاكوبسون، المرشحة الجديدة لمنصب السفير الأميركي في العراق.
قد يجعل هذا العراق ساحةً لتصفية الحسابات من جديد، وينهي أي تقدم أو محاولات لإصلاح الوضع فيه. ولكن ما هو بالفعل موقف ما تبقّى من قوى مدنية في البلد؟
صراع الدلالة: هل حُسمت الحرب الثقافية بالعراق؟
لم ينطل خطاب “المقاومة” بسهولة على كثير من العراقيين، فبعد أن كانت القوى الحاكمة تروّج قبل سنوات قليلة أن الفلسطينيين إرهابيون، تركوا أرضهم للمحتل الصهيوني، ليقوموا بتفجيرات إرهابية في بغداد، باتت اليوم تنشر الخطابات عن عظمة المقاومة الفلسطينية.
معظم العراقيين لديهم خبرة طويلة مع الميليشيات، ويرددون في أحاديثهم اليومية أنها أكبر متاجر بـ”القضية”. ولكن رغم هذا الوعي، يبقى أن السلطة والنفوذ وأجهزة الدولة بيد تلك الميليشيات، وتستطيع، باستغلال مقدّرات الدولة، انفاذ خطاب “المقاومة”، وجعله السائد.
في الأيام الأولى من حرب غزة، كان هناك تحشيد إعلامي كبير، من منصات وقنوات الفصائل، وكأنها تقول للعراقيين: انظروا إلى أهمية المقاومة، هذا الذي كنا نقتلكم ونهجّركم وندمر مدنكم لأجل الالتزام به.
من جهة أخرى، لم تُسجّل مواقف واضحة، من قبل المعارضة، في نقد عملية “طوفان الأقصى”. ويبدو أن الإسلاميين السنة في العراق، قد أعادوا بناء نوع من التحالف مع الإسلاميين الشيعة، على أساس تأييد المقاومة الفلسطينية. أما القوى المدنية، فيبدو أنها لم تتخلّص بعد من هالة القضية الفلسطينية، أو لم تتجرّأ على ذلك.
من الواضح أن العراق والعراقيين مقبلون على أيام أصعب، تتقوّى فيها شوكة الميليشيات، وتزيد من هيمنتها على ثقافة الشارع والحيز العام؛ بل وعلى مزيد من ملشنة الدولة نفسها، فما نشاهده من قوانين جديدة، وملاحقات للصحفيين، ولكل صوت معارض، سوف يرشح عنه مزيد من الثقافة الدينية والعصبوية المدمّرة.
بالنهاية هناك فلسطين وفلسطينيون تتعاطف معهم أغلبية الشعب العراقي، وترى فيهم مآسيها الماضية، من احتلال وسيطرة الميليشيات؛ وعلى الجانب الآخر هناك فلسطين وفلسطينيون، هم بوصلة “الأمة الاسلامية”، ومقاومون “ركّعوا المحتل بنصرهم الإلهي”، وهم المثال الذي تريد الميليشيات فرضه على العراقيين. وربما سيكون الصراع على تأويل دلالة “فلسطين” و”الفلسطينيين” جانبا مهما في الفصول القادمة من “الحرب الثقافية” في العراق.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.