مع اندلاع أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تلاها من انتهاكات، تصل حد جرائم الإبادة الجماعية، قام بها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة، بدأت حرب ثقافية موازية على منصات التواصل الاجتماعي، وفي ساحات الجامعات، وحتى المواقع الصحفية والمحطات الإعلامية، بخصوص تأييد أو عدم تأييد مُجمل الأحداث. بدءا من العملية العسكرية التي قامت بها الفصائل الفلسطينية في منطقة غلاف غزة، وصولا للرد العسكري المتوحّش عليها. فبينما صاغ عدد من المثقفين، أمثال يورغن هابرماس وسلافوي جيجك ويوفال نوح هراري وغيرهم، نقدا للعمل العسكري، ردّ مثقفون آخرون، أمثال جوديث باتلر ونعوم تشومسكي ونورمان فينكلشتاين، بالتأكيد على “حتمية” اندلاع الحرب، وسرد تاريخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. أما على الفضاء الإعلامي العربي والعالمي، فالصراع كان على اشده، بين إتهام وإدانة حركة حماس، أو تأييدها وإدانة العدوان الإسرائيلي.
دفع التجاذب الثقافي والإعلامي هذا، عددا من الناشطين والسياسيين إلى رفع شعارات “نفاق الغرب”، أو تحيُّز العقل الغربي ضد العرب، وضد “السكان الأصليين” لفلسطين، واعتبارنا “آخر” أدنى من “الرجل الأبيض”، ليست لنا حقوق في مجرد الوجود. وأننا مستباحون أمام “الغرب” بكل ما يملكه من وسائل تفوّق تقنية عسكرية وإعلامية. ليكرر هؤلاء النشطاء مقولة “القطيعة مع الغرب”، وهي ليست بالفكرة بالجديدة إطلاقا، وإنما من سياق صراع ثقافي وسياسي مستمر منذ مالا يقل عن القرن، ناقشته الثقافة العربية عند بدايات التحديث. ولطالما دأبت جميع النخب والتيارات السياسية العربية (قوميين، شيوعيين، ليبراليين، إسلاميين) وحتى السياسيين المحسوبين على الأنظمة الحاكمة، في التساؤل: هل نقبل كل المنتج الغربي؟ أم ندمجه مع ما لدينا؟ أو نتخلى عنه وننقطع عن الغرب تماما؟
مرّت عقود منذ بدء هذا النقاش، وتعرّضت المنطقة لكوارث سياسية، وانهارت أغلب الدول العربية الحديثة، ولم تُحسم المسألة. ومع تجدّد كل زلزال سياسي، يتم استدعاء ذلك النقاش، وإعادة طرح فكرة “القطيعة” بصيغة جديدة، سواء مع ثورات الربيع العربي، التي اتهمت فيها نخب التيارات الإسلامية خصومها بالعلمانية، وكونهم “مطيّة للغرب”؛ وصولا إلى الأحداث الحالية في فلسطين، والتي يتم فيها إعادة تقديم تلك الفكرة مرة أخرى، وإنما من تيارات يسارية وإسلامية، ومن قادة ميليشيات عسكرية شيعية في العراق ولبنان، بل وتعيد ترويجها أنظمة قمعية ديكتاتورية، في إيران وروسيا وحتى الصين، لتفقد الفكرة سياق النقاش الثقافي الخاص بها، وتتحوّل إلى خطاب مظلمة سياسية، يظن أصحابه أنهم يمكنهم أن يحققوا مكاسب منه، كما يفعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وغيره الكثيرون من الساسة في المنطقة. وهو ما يتطلّب استعادة تلك الفكرة، ومناقشتها نقاشا تحليليا، لفهم كل عناصرها المكونة، التي تعطيها هذا المعنى، الذي يتم توظيفه أولا بأول.
تفترض فكرة “القطيعة مع الغرب” أن هناك عنصرين متقابلين: الأول هو “نحن”، المُخاطَبون بفعل القطيعة؛ والثاني هو الآخر، “الغرب”، الذي يتملك عقلا، ولديه منجز (الحداثة)، الذي فرضه علينا، بديلا عن منجزنا الهوياتي الخاص بنا. لكن تلك العناصر في الحقيقة تحتاج إلى مساءلة مكثّفة. فمن هم الـ”نحن”؟ ومامنجزنا الهوياتي الخاص بنا؟ وما “الغرب”؟ وما “العقل الغربي”؟ وكيف نشأ؟
ميلاد الذات المدنية: هل نجح مزيج التجارة والأخلاق؟
لا تولد الأفكار والفلسفات، وحتى البشر، بدون سياق مؤسِّس، يفرض على الفاعلين داخله إعادة طرح معارفهم وتحيّزاتهم للمُسائلة. كان هذا هو الدرس الديكارتي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. أي أن درس الحداثة بالكامل، قبل ميلاد الدولة القومية والمجتمع المدني وأخلاق المواطنة الفاضلة، يهدف بالأساس إلى استشكال الماضي والقطيعة معه، من أجل تأسيس جديد، تبعا للظروف والسياقات الجديدة الطارئة. ففي تلك الفترة، وجدت أوروبا نفسها في حاجة للقطيعة مع عصر طويل من الاضطهاد الديني، والنزوع العسكري، والصلف الذكوري، الذي أدى لحروب طويلة مستعرة، على يد الإقطاعيين والنبلاء. وبدلا من همجية النظام القديم، تم التفكير في مسألتين، يمكنهما أن يُؤسَّسا على تلك القطيعة:
المسألة الأولى هي الفكرة الاقتصادية، فمع توسّع التجارة، وصعود طبقات جديدة من التجار والحرفيين بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، دافع الفلاسفة والمنظرون الأخلاقيون عن تلك التحولات الاقتصادية، واعتبروا أن الاهتمام بالتجارة والأسواق يمكنها أن تبعد الإنسان عن ارتكاب العنف، أو الطموح العسكري بشكله القديم.
آدم سميث مثلا كان يهدف من كتابه “ثروة الأمم” إلى تقديم طرح نظري ذي أساس أخلاقي، لما اعتبره “المصلحة الذاتية” الاقتصادية. إذ يمكن لتلك المصلحة تشكيل نوع من الإزاحة أو التسامي عن شهوة ونهم السلطة العدواني. كذلك اعتبرها المفكر فرانسيس هتشسون “رغبة هادئة في الثروة، بعيدا عن الأهواء الأكثر اضطرابا“، وهي الملحوظة نفسها التي قدمها الفيلسوف الإنجليزي صامويل جونسون “الإنسان لا يشتغل أبدا ويُؤمَن أذاه، بقدر اشتغاله وهو يجني المال“. وهكذا اعتُبر تكوين الثروات، والانشغال بالتجارة وتوسعتها، وبالحِرف وتطويرها، قوة مُهذّبة، بعيدة كل البعد عن الطائفية الدموية، التي عاشتها أوروبا سابقا؛ وبديلا عمليا، اعتمدت عليه البرجوازية الصاعدة، لتحقيق سكون سياسي واستقرار اجتماعي، حتى على مستوى الدول التي تتبادل السلع والخدمات.
أما المسألة الثانية فهي الأخلاق المدنية، وهي صورة جديدة للأخلاق، بعيدا عن التأسيس العقلي والميتافيزيقي الأقدم، وانما صورة عاطفية وحسيّة جديدة، لما ينبغي أن تكون عليه النخبة المثقفة المتعلمة. لتأتي هذه الأخلاق وتقدّم مفاهيم للخير والجمال الإنساني، وفضيلة حب وتقبّل الأخر، و”معاملة الذات كما لو كان الإنسان يُعامل الآخر”. فقد آمن الفيلسوف الاسكتلندي آدم فيرغسون مثلا بأن “الحب والحنان كانا أقوى المبادئ الكامنة في الإنسان“؛ أما آدم سميث فيقول: “فضيلة الود الإنسانية تتطلّب إحساسا، يتخطى الإحساس البذيء السوقي الذي لدى البشرية“. قامت تلك النزعة الأخلاقية إذن اعتمادا على عالم من الأفكار الفطرية والحس الذاتي، الذي طرحه الفلاسفة الإنجليز، بعيدا عن العقلانية الجافة، والتأصيل الميتافيزيقي، الذي وسم عهودا سابقة.
كانت الأخلاق المدنية أشبه بزهرة تنمو في أرضية اجتماعية، لأمم حققت نجاحا تجاريا، وليست مجرد أفكار وحاسة تذوقية وُلدت في الفراغ، وإنما ساعدت الأخلاق المدنية في انتشار التجارة، وساعدت التجارة في تعزيز التعاطف المتبادل والحوار المتحضّر بين الأفراد والجماعات. يقول الروائي الأيرلندي هنري بروك: “يجلب التاجر أقصى البقاع إلينا، ويدخلنا في حوار مع أهلها، وهو بذلك يجمع في عائلة واحدة، ويغزل في شبكة واحدة، الألفة والأخوّة بين البشرية جمعاء“.
هذا التفاؤل التجاري الإنسانوي في الحقيقة تعرّض لكثير من الشك، رغم حاجة المجتمعات الأوروبية الحديثة إليه، لضمان استقرارها. فما الذي يضمن ألا يستغلّه المُستَغلون والطامعون في السلطة؟ وما الذي يضمن ألا تستغلّ البرجوازية أخلاقية المواطنين، وتعتبرها سذاجة يمكن التربّح منها؟ هذا الشك وحضوره في المجتمع، بصورته اليومية والعادية، دفع الطبقات الوسطى المدينية للمطالبة بحقوقها، وتأسيس ما نعرفه اليوم بـ”المجتمع المدني”، الذي يتوسّط بين المجتمع والدولة، ويحاول أن يوازن بينهما، ويحدّ من تأثير الدولة والبرجوازية المتنفّذة داخلها. ومن خلال تلك المؤسسات الاجتماعية (النقابة، الحزب، الجمعية) يتلاقى الأفراد في حيز عام، لتتحوّل مفاهيمهم الأخلاقية وأفكارهم إلى برامج سياسية حزبية. ومع الثورات الفرنسية والأميركية، تطوّرت مفاهيم المجتمع المدني، لتصبح أكثر استقلالا وفاعلية، لتطالب بحقوق للأقليات وللمرأة، وتنضج الديموقراطية التمثيلية التي نعرفها اليوم.
وهكذا نشأت الحداثة الغربية، قبل أن تولد الدول القومية الحديثة، وتتطوّر آلياتها المُنظّمة، البيروقراطية والعسكرية، وتحاول إخضاع الذوات المُستقلة، التي حررتها الحداثة في الأصل، إلى هويات قومية مُتخيّلة، ليظل مشروع الحداثة في حالة من الصراع وعدم الاكتمال، بين الهوية والذات. ما أن تطغى سلطة الهوية حتى تندلع الحروب العالمية، والصراعات القومية، ويتحوّل الفرد إلى رقم، تتم التضحية به في حروب الدولة المقدسة؛ وما أن يتسلّم المجتمع المدني وحيّزه العام زمام الأمور، حتى يُكبح جماح العنف والتسلّط العسكري، وتُصبح المجتمعات أكثر صحية واستقرارا.
بحثا عن “نحن”: كيف أصبحنا هوية بدون ذات؟
لم نعرف “نحن”، سكان المنطقة العربية من الحداثة إلا الدولة القومية القوية، التي تُحكِم سيطرتها على زمام الأمور، ولا تُقابل إلا بالطاعة والاستسلام البيولوجي. ومن خلال مرآتها بتنا نرى صورتنا “هويتنا”. يقول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني: “إن العرب المعاصرين لم يفعلوا إلى حدّ الآن غير التأسيس الهووي لأنفسهم، سلبا وإيجابا؛ منذ الآن صار ينبغي عليهم أن يغيّروا ما بأنفسهم تغييرا مدنيا. ما معنى ذلك؟ إن القصد هو أن علينا أن نكفّ عن أي تدبير هووي لأصالتنا، كأنها في خطر محدق، وأن نشرع في طرح مشاكلنا طرحا مدنيا صرفا، كأعضاء طبيعيين في نادي الإنسانية الحالية“.
يعتقد المفكر التونسي فتحي المسكيني أن العرب المعاصرين “هوية لا تزال بلا ذات“، والهوية في تعريفه هي انتماء فكري، والتزام لا يقبل أية إمكانية للمراجعة، هوية تؤرّخ لنفسها بطريقة متخيّلة، ولا تقبل الحوار بأي شكل من الأشكال. ويقول: “إن أعمق سوء فهم أقمناه دون أنفسنا، هو اعتقادنا في أصالة الموقف الهووي، كتعبير وحيد عن أنفسنا، والحال أن هويتنا العمومية هي أحد الشروط الحقوقية للانتماء، كما ضبطتها فكرة الدولة الحديثة، وليس مشكلا وجوديا. إن الحداثة وليست الأديان، هي التي اخترعت فكرة الهوية، مثلما خلقت أيضا مقولات السيادة والإقليم والعَلَم والوطن، ومن ثم فإن كل من يقاوم الحداثة على أساس هووي، هو يتصرف في أفقها، دون أي قدرة على الإفلات من منطقها“.
اذن فالقطيعة مع الغرب أو العقل الغربي، هي بالأساس موقف حداثي، سواء في طرح “القطيعة”، أو في البديل، وهو “الهوية”، سواء في صورتها القومية أو الإسلامية، والتي يتخيّل أصحابها شكلا من الأصالة والجذور التي وجدت في الماضي، فمثلا يرفع “الكيمتيون” في مصر شعار “حضارة السبعة آلاف عام”؛ ومثلهم بين اللبنانيين من يفضّلون تعريف أنفسهم بأنه فينيقيون وليسوا عربا؛ نجد الأمر نفسه عند حركات الإسلام السياسي، التي تستدعي تخيلات عن الخلافة الإسلامية والحكم الإسلامي من عصور سابقة، والمطالبة باستدعائه، في معزل عن أية سياقات أو ظروف اجتماعية، مثلما رفع الإخوان المسلمون شعار “الإسلام هو الحل” مثلا.
ومع انهيار الدول القومية في المنطقة، بعد ثورات الربيع العربي، انقسمت الهويات أكثر فأكثر، وبرز دور التنظيمات الميليشاتية، التي تعمل لصالح دول أخرى في المنطقة، أو على هامش النظام الرأسمالي، تستخدم تارة الهويات الطائفية، وتارة الهويات الوطنية البائدة، لكنها في كل الأحوال تحاول، بشتى السُبل، تنحية “الذات”، وما يرتبط بها من مصلح مدنية، يمكنها أن تقف وتُسائل تلك الهويات ولو مجرد السؤال. لكن كيف يمكن أن تتولّد تلك الهوية، قبل أن تُصبح انتماء تنظيميا وأيدولوجيا وعسكريا قاتلا؟
في سبعينات القرن الماضي، طرح المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان نظرية جديدة، يشرح فيها كيف تتشكّل الهوية البشرية. يعتبر لاكان أن الطفل يمرّ بمرحلة تُعرف بـ”طور المرآة”، وفيها يراقب الطفل صورته المنعكسة على المرآة، وكيف يمكنه أن يتحكّم بتلك الصورة المنعكسة لكينونة لم تتشكّل بعد، ويُسمي لاكان تلك الصورة بـ”العالم الخيالي”. والطفل يدرك صورته الخيالية تلك، بوصفها صورة مكتملة ومتحققة لكائن يمكن التأثير فيه، وفي الوقت نفسه يمكن لذلك الكائن أن يمنح الطفل سياقا، يتعرّف فيه على ذاته بشكل من اشكال التكافل. نجد هذا الترابط بين الطفل والصورة في تأثُّر الطفل بأقرانه من الأطفال، أو حتى البالغين، دون أن يحدث له ما يحدث لهم بشكل واقعي.
يعلّق الناقد الثقافي تيري إيغلتون بالقول: “النظام الخيالي هو عالم تُعيد فيه الأشياء نفوسنا إلينا، إن كانت لدينا ذات عازمة بدرجة كافيه على تقديره، فهو مجالٌ نقيٌ، تكون فيه المعرفة سريعة وقاطعة كالإحساس“. لكن الحقيقة أن تلك الصور المنعكسة هي صور مثالية غير واقعية، تعطي للطفل صورا كلية لجسمه، على عكس ما يراه بنفسه من أجزاء، وما يشعر به من اضطرابات في جسده.
يعتقد لاكان أن العالم الخيالي المثالي هو عنصر مميز، ينمو ويستمر في البالغين، ليس فقط لصورتهم عن أنفسهم، وإنما أيضا لصورة العالم الذي يعيشون فيه، وموقعهم داخله. لكن العالم الخيالي لا يلبث أن يتعرّض عند البالغين لكثير من الاضطرابات والصدام مع عالم آخر، هو “العالم الرمزي”، وهو عامل العلاقات الاجتماعية بين البشر، إنه نظام بين-ذاتي، يُدرك فيه الإنسان نفسه بوصفه فردا وذاتا مغايرين عنه، يتحركان وفق سياقات وظروف ضرورية، تفرض نفسها عليهما، بكل ما فيها من اضطرابات ونقائص ومصالح. باختصار إنها “الشروخ والنقاط العمياء في مرآة الوعي“، ولا تخضع تلك الشروخ لتصوراتنا الشخصية، وتأملاتنا الفردية عن العالم حولنا.
القطيعة والاستعصاء: كيف يمكننا الخروج من الخيال المقدس؟
إن كانت الهوية هي سحر وعالم مغلق غير واقعي، يأسرنا، فإن ذواتنا تكتسب معناها من وجودنا مع آخر مختلف، يمكن النقاش معه حول اختلافاتنا، والوصول لمشتركات إنسانية، تحقق رغبتنا اليومية المحسوسة، أو ما يسميه المسكيني “كوجيطو الحواس”.
رحلة تحررنا “نحن”، أبناء المنطقة العربية، بدأت من الصدام مع عالم الدولة الأبوي، الذي استمر في قمعنا بلا هوادة، منذ لحظة التحرر من الاستعمار، لكنها لم تلبث أن اصطدمت بعالم خيالي آخر، هو عالم الحنين الي وطن مفقود منذ سبعة ألاف عام، أو إلى خلافة لم يُظلم فيها أحد، وظننا أن تلك الهوية يمكنها أن تحررنا، إن استدعيناها بما يكفي، وقطعنا مع الغرب، أصل كل المشاكل. لكن كما يقول المسكيني “إن دروس الهوية لن تُهيئنا إلا إلى ثأر أخلاقي من كل أنواع الآخر، ربما هو الأساس العميق لأي رغبة عدمية في قتله“. فالهوية لن تأتي إلا بمزيد من الكوارث ضدنا وضد الآخرين، مجددا نحن ندافع عن الجانب السلبي من الحداثة، دون توجيه أي نقدٍ حقيقي.
تبدو اللحظة الحالية جد مُستعصية، لمجرد الإبقاء على عالمنا اليومي والعادي يعمل دون أية كوارث، ففي ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية، وصعود سياسات الهوية، والحروب الأهلية، وأزمة المناخ، لن تزيدنا فكرة “القطيعة مع الغرب”، التي نطرحها في سياقنا اليوم، إلا مزيدا من المعاناة. لكننا إن أردنا حقا الانتماء للإنسانية في معناها العمومي، وإعادة طرح مشكلة الحرية بشكل حقيقي، فلن يكون هذا ابتداءً إلا بنقد صورنا المتخيلة عن جذورنا وأصالتنا، والتواصل مع الغير في حيز عام، بما يحويه من أخلاق مدنية، ومؤسسات تعمل من أجل تحسين واقعنا اليومي، وليس الاستسلام لمن يعمل لصالح أنظمة الهوية، ومكاسبها السياسية، في خريطة الصراع العالمي.
أن نتحرر يعني أن نصبح ذواتا، تمتلك مصيرها بشكلٍ مشترك، لا أن نصير جنودا في معارك، لن نكون فيها إلا مجرد بيادق.
المراجع
- فتحي المسكيني، الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة، دار جداول، فبراير 2011
- عزمي بشارة، المجتمع المدني: دراسة نقدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يناير 2012
- تيري إيجلتون، مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق، مؤسسة هنداوي، 2019
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.