أدّت حرب غزة إلى “طوفانات” بكل تأكيد، ربما تختلف عن الطوفان الذي تخيّله مخططو ومنفذو عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، فبدلاً من طوفان من الجهاديين المتحمّسين، الذين سيفيضون من دول الجوار الفلسطيني، خاصة الأردن ومصر، والذين قد يُسقطون حكومات محلّية ويغيّرون معادلات إقليمية، غرقت المنطقة بأنماط متعددة المستويات من الصراعات، على رأسها الأعمال العسكرية بالطبع، ومنها حرب إبادة إسرائيلية على غزة، وصدامات على الحدود اللبنانية، وأعمال قرصنة انطلاقاً من السواحل اليمنيّة، واستهدافات متبادلة بين إسرائيل وإيران؛ سياسياً، تعمل أطراف متعددة، على تطويع الحرب القائمة بما يناسب مصالحها المحليّة والإقليمية؛ وهذا لن يكتمل بالتأكيد بدون كثير من الضخ الأيديولوجي، حول مقولات مثل “المقاومة”، و”القضية المركزية”، و”الصراع مع الغرب”، و”معاداة السامية”، “الإسلام” و”الإسلام السياسي”، وغيرها؛ على مستوى آخر، قد يكون أكثر “عمقاً” من الأيديولوجيات السياسية المباشرة، دفعت المواجهات لطرح أسئلة كثيرة في الفضاء الناطق بالعربية، تتعلّق أساساً بالمعاني والمفاهيم والتسميات والقيم والرموز، ما أدى إلى “حرب” من نوع آخر، تمتد آثارها من التفكير النظري المجرّد وحتى العلاقات الشخصية بين الأفراد. تلك الحرب يمكن وصفها مبدئياً بـ”الحرب الثقافية”.
والحديث عن “حرب ثقافية” ليس أمراً مُقحماً على حرب غزة، فهي في الأساس من خطة “طوفان الأقصى” نفسها، وما لحقها من أعمال عسكرية. انطلاقاً من صور العملية، التي انتشرت بشكل يصعب ضبطه في الأيام الأولى للحرب؛ مروراً بتصريحات قادة “حماس”، وما حملته من عبارات دينية، أو مستمدة من ميراث القضية الفلسطينية؛ وصولاً إلى تسجيلات العمليات العسكرية، التي ينشرها الإعلام العسكري للحركة، والمُمنتجة بطرق تحوي دلالات رمزية مهمّة للجمهور العام. فعلياً، لا تقل كل تلك الدلالات أهمية عن المجريات العملياتية على الأرض، إذ أنها ترسل رسائل على غرار: المقاومة مستمرة، العدو لم يحقق أهدافه، دور الإرادة والإيمان في التصدي لأكثر الأسلحة تطوراً، واختراق أعتى الدروع، الخ. وهي رسائل قد تكون من أهم غايات العمل المسلّح للتنظيم، بل ربما هي “المقاومة” بحد ذاتها.
إلا أن “الحرب الثقافية” لا تقتصر على بعض الرموز الحربية والدينية، وإنما إعادة إنتاج شاملة لقضايا المنطقة، بما يتسق مع قضية المقاومة الإسلامية، وهذا يعني، فيما يعنيه، إعادة إنتاج الذات الجماعية لسكان المنطقة، ومفاهيم “الأمة” و”الشعب”، وتحديد الصديق والعدو. أي أن منظوراً كاملاً للعالم قد يُعاد بناؤه مع حرب غزة. و”إعادة البناء” هذه لن تقتصر على فاعل سياسي واجتماعي واحد بالطبع، ففي مقابل المقاومة الإسلامية، وحلفائها الأيديولوجيين، الذين قد يصفون أنفسهم أحياناً بـ”التقدمية” أو “اليسارية”؛ توجد أصوات متعددة أخرى، “تقاوم” باتجاهات مغايرة.
من ناحية تاريخية، ليس مصطلح “حرب ثقافية” Culture war مجرد نتيجة لصعود موجة “ثقافوية” أو “هوياتية” في العالم، على حساب القضايا الاجتماعية أو الطبقية الكلاسيكية، كما قد يوحي لأول وهلة؛ كما أنه ليس من خصائص الصراع السياسي المتصاعد في الولايات المتحدة الأميركية، والتي يُخاض جانب مهم منه على وسائل الإعلام، وفي الجامعات ومؤسسات إنتاج الثقافة الجماهيرية، وإنما أحد أهم مصطلحات التحديث والعلمنة، وجذره، مثل بعض من أهم تلك المصطلحات، يعود إلى التحديث البروسي، وبالتحديد “الصراع الثقافي” Kulturkampf بين الكنيسة الكاثوليكية، برئاسة البابا بيوس التاسع، والدولة البروسية بقيادة المستشار أوتو فون بسمارك، والذي استمر سبع سنوات، بين عامي 1871 و1878.
كان سبب “الحرب” المباشر رغبة الكنيسة في استمرار السيطرة على مؤسسات الرعاية الاجتماعية والتعليم في بروسيا. إلا أن الدولة البروسية، التي باتت آنذاك إمبراطورية في أوج قوتها وانتصاراتها، تهيمن على معظم القارة، لم تعد ترى نفسها مجرد مملكة كاثوليكية رومانية تابعة، يمكن لبعض رجال الدين التحكّم في ثقافتها ومجتمعها. لقد برزت صورة ذاتية جديدة للسيادة المٌعلمَنة، والحيز العام المديني، حملها بسمارك، بالتعاون مع الليبراليين والتنويريين، في مواجهة رجال الدين الكاثوليك (ولقمع الأقلية البولندية الكاثوليكية شرقي بروسيا)، وأدّت لحملات قمع وصراعات عنيفة، طبقية وسياسية وقومية وطائفية، شملت معظم أوروبا، ونضالات للتحرر من الهيمنة الخارجية، ما ساهم فعلياً، على المدى المتوسط والطويل، برسم ملامح “الغرب” الحالية، وتحقيق “فصل الدين عن الدولة”، لكن “الدولة” على النمط البروسي، أي الدولة/ماكينة الحرب، ذات السيادة المتعالية، والسياسات الحيوية المسيطرة على أدق تفاصيل سكّانها الحياتية.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن إسقاط تفاصيل ومجريات تلك الصراعات الأوروبية على ما يحصل في منطقتنا حالياً، فإن استعارة مصطلح حرب أو صراع ثقافي، بدلالته الألمانية، يمكن أن يساهم في إظهار عمق الصراع الذي نعيشه، فهو ليس مجرّد خلاف أيديولوجي بين إسلاميين وغير إسلاميين، أو محافظين ومقاومين، بل نزاع عنيف على كل المستويات، في منطقة تشهد “طوفانات” كاسحة، لم تنقطع، منذ أكثر من عشرين عاماً. ما يجعله “ثقافياً” ليس غياب عوامله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فهي بالنهاية العوامل المؤسِّسة والحاسمة فيه، ولكن بالضبط لأنه، مثل الصراع البروسي والأوروبي، جعل مسائل “ثقافية”، وعلى رأسها الدين ومفهوم الأمة وحرية المعتقد والتعبير والضمير، محرّكاً للصراع الاجتماعي الكبير، الذي تتداخل فيه سياسات دول، ومصالح فئات وطبقات اجتماعية متعددة، ومطالب “أقليات”، وتشكّلاً لـ”أكثريات”.
لقد أدخلنا قادة “حماس” في تلك “الحرب الثقافية” بشكل مباشر، منذ اليوم الأول لانفجار الأوضاع في غزة، وبشكل متعمّد، وعولوا عليها في “النصر الإلهي” الذي ينتظرونه، بعد عملية عسكرية، لا يمكن قياس جدواها عبر المنظورات العقلانية الكلاسيكية للفعل العسكري الحديث، وقد يكون هذا مناسباً أكثر لمنظور الإسلام السياسي، ليس لأنه “قديم” أو “متخلّف”، مثل الكنيسة الكاثوليكية قبل قرنين من الزمن، بل ربما لأنه بالفعل ما يزال القوة السياسية والأيديولوجية الأكثر حيوية وراهنية في العالم العربي، القادرة على قراءة المسائل الأساسية، التي يمكن أن تؤثّر على كتل سكانية ضخمة في المنطقة، وتخلخل توازنات القوى الإقليمية والدولية. ربما أخطأت “حماس”، ومن ورائها إيران، في كثير من حساباتها، ولن تستطيع تحقيق ما تصوّرته، ولكن يبقى أنها نجحت في تحريك المنطقة. ولكن إلى أين؟
على ما يُفترض أنه الجانب الآخر، توجد ديكتاتوريات وممالك عربية، تعاني من اضمحلال مديد، ولا يمكن تشبيهها، بأي شكل من الأشكال، بالدولة البسماركية، حولها طُغَم ومجموعات متنوّعة المصالح من المؤيدين، ولا تعتبر نفسها طرفاً في “حرب ثقافية” ضد المقاومة الإسلامية، فهي حتى لم تُدن، في أغلبها، عملية “طوفان الأقصى” بشكل علني، إلا أنها تحاول اللعب على مختلف الملفات: تفاوض باسم “حماس”، وأحياناً تساهم بحصارها؛ تخوض صراعاً مريراً ضد إيران، ولكن تسعى للتفاهم معها ومع أدواتها في أكثر من مسألة؛ تضرب ميليشيا هنا، وتدعم أخرى هناك؛ “تتواطأ” مع “الغرب” أحياناً، ومع “الشرق” (روسيا، الصين) أحياناً أخرى.
ربما كان هذان الطرفان، الميليشيات المُقاوِمة وبقايا الدول العربية، قطباً واحداً في “الحرب الثقافية”، يشترك في ميله المناهض للحقوق والحريات الأساسية؛ ودعمه لمنظومة وهياكل الحرب الدائمة في المنطقة؛ ولعبة دور الوكيل، أو المهيمن الفرعي، في السلاسل شديدة التعقيد والتركيب للنظام العالمي المعاصر، ووسط أزماته المتعددة. ولعل مثال هيمنة “حماس” على غزة لسنوات طويلة، يوضح تعقيد ذلك النظام: ميليشيا إسلامية معادية لإسرائيل وموالية لإيران، تتلقى تمويلاً قطرياً عبر بنوك إسرائيلية، وتسيطر على تدفّقات المساعدات من المنظمات الدولية، ضمن شرط سياسي يبدو أن اليمين الإسرائيلي كان مرتاحاً له، شمل إدامة الانقسام السياسي الفلسطيني، وتحويل غزة إلى سجن كبير، وأهلها إلى “حالات إنسانية”، وليس “شعباً”، يمكن اعتباره طرفاً في عملية سياسية. عملية “حماس” لم تغيّر هذا الواقع، ظل الفلسطينيون حالات إنسانية، يفاوض باسمهم الإيرانيون والقطريون والمصريون، بوصفهم رعاة ووسطاء.
قد يكون القطب الثاني في هذه “الحرب الثقافية” إذن هم “الحالات الإنسانية”، وليس فقط أهل غزة، بل أغلبية سكان المنطقة، الذين ارتدّوا إلى الحالة البيولوجية عملياً، أي باتوا بشراً منزوعي الضمانات السياسية والحقوقية والأخلاقية، يمكن لأي طرف مسلّح أن يقامر بهم، أو يعتبرهم “بيئة حاضنة” تستحق الإبادة، فيعبرون من حرب إلى حرب، قواعدها شبكات مصالح رثة، واقتصاديات الديون والعصابات؛ أما قممها المعلنة فتصل إلى السماء، وليست أقلّ من انتصارات إلهية، وأمم تنبعث من رقادها التاريخي، وتغييراً “تقدمياً” للعالم بأسره.
ربما يبدو الحديث عن هكذا “قطبين” في الحرب الحالية أقرب لتجريد منحاز. فعلياً، كثير من أفراد “الحالات الإنسانية” أقرب لأن يكونوا “جمهوراً” لهذه الميلشيا أو تلك الدولة؛ فيما الأفراد والجماعات، التي ترفع شعارات الحقوق والحريات، بل حتى “التنوير”، متوزّعة الولاء بين الإسلام السياسي وبقايا الدول. رغم هذا فإن “الوضع البيولوجي”، والتوق للخروج منه، قد يكون الدافع الأساسي للاحتقان والتوتر في نقاشات المنطقة، إذ يرى كثيرون أنفسهم مهددين بأن يصبحوا ضحايا الحرب أو المجاعة أو موجة التهجير القادمة، ولذلك يصرخون كثيراً ضد من يعتبرونهم أعداءهم وخصومهم، وقد يكون هذا الصراخ يحوي كثيراً من المقولات والتصورات والخيالات المتناقضة، بل حتى الفصامية، إلا أنه يدلل على أن أنظمة الثقافة والمعتقد، التي عوّل عليها الإسلام السياسي في بداية الحرب، لم تعد فعّالة للدرجة التي يتصورها. مازلت بالتأكيد قادرة على الحشد وتحفيز الانفعالات، ولكنها لا توصل إلى فعل جدي. وبين سعي كثيرين لـ”الهرب” من عوالم الحرب والانهيار تلك، وتوق آخرين لـ”العودة” إلى مدن وبلدات وأنماط اجتماعية وثقافية لم تعد موجودة، قد يكون الاستماع إلى يقوله البشر، مؤدّياً إلى نتائج مختلفة عمّا يظنّه الإسلام السياسي وخصومه التقليديون.
ما هو واضح، أن النموذج الاجتماعي والثقافي، الذي أنتجته دول الاستقلال العربية، والذي انحدر إلى الحالة الميليشياوية، لم يعد قادراً على استيعاب “الحالات الإنسانية” التي خلّفها، وتبدّد هذا “النظام” يتركنا في بيئة تسودها كل أنواع الفوضى، ما يجعل “الحرب الثقافية”، التي أطلقها الإسلام السياسي، وتلقفتها منه أطرف متعددة، مفتوحةً على كل الاحتمالات، وسط الاحتلال والانهيارات الاقتصادية والاقتتال الأهلي والقمع السلطوي الضاري.
موقع “حيّز” يفتح ملف حرب غزة “الثقافية”، محاولاً طرح عدد من أسئلتها الأساسية: ما الآفاق السياسية والاجتماعية للمنطقة، في حال فشل الإسلام السياسي أو نجاحه في تحقيق تصوراته؟ هل يمكن وقف حالة الانحدار الحضاري العام، التي تعيشها المنطقة، مع دمار كثير من مؤسسات التحضّر القائمة في الدول العربية؟ ما الأشكال الاجتماعية والتضامنية، التي يبتكرها البشر المتعددون، في ظرف الانهيار والحرب، ليتمكّنوا من الاستمرار والنجاة؟ هل لـ”التنوير” فرصة، بما يشمل تغييراً في فهم الناس لظروفهم وقضاياهم، وخروجهم من هيمنة قوى “ظلامية”؟ وهل بالإمكان السعي لتحديث وعلمنة كما في “الحرب الثقافية” الأوروبية؟ أم أن كل هذه المفاهيم لا معنى لها على الإطلاق، ضمن الصراعات الفعلية للمنطقة؟ ما نوع الاصطفافات السياسية، التي ستنتجها الحرب، وما المشاريع التي يمكن أن تحملها؟ هل يمكن تحقيق أي “قطيعة” ثقافية، سواء مع الأيديولوجيات المؤسِّسة للدول القومية العربية، أو مع الفكر الحداثي “الغربي”؟ ما المؤدى السياسي والاجتماعي لفعل شبكات ومؤسسات الثقافة العربية الحالية، سواء كانت مع المقاومة أو ضدها؟ ماذا يمكن أن تنتج الحالة الفصامية، التي يمرّ بها كثير من الأفراد والمجموعات في المنطقة؟ أشكالاً جديدة من الإرهاب والعنف أم أنماطاً تحرريّة غير متوقّعة؟ وهل يوجد طرف قادر على الانتصار في “الحرب الثقافية”؟ أم علينا انتظار مخلّص عربي يشبه البابا ليو الثالث عشر، الذي أعلن انتهاء الحرب الثقافية الأوروبية، بعد أن “أضرّت الكنيسة، ولم تفد الدولة”؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.