فردوس الحرية المفقود: كيف بنى المثقفون العرب أسطورة بيروت؟

“قديما، كانت بيروت محاطة بسور له سبعةُ أبواب، وكانت أبواب المدينة تُقفل في الليل وتُفتح في النهار، زال السور وزالت الابواب، ولم تعد بيروت محاطة بالحجارة والاقفال، وزالت أبوابها السبعة. وبدل الأبواب القديمة بُنيت ابوابا جديدة، تحمي المدينة، وتدافع عنها وتفتحها على الآفاق. الأبواب الجديدة ليست من خشب وحديد، أنها أبواب هشةٌ، مصنوعة من الورق والعرق والحب”.
كانت تلك الكلمات الاستهلاليّة مقدمة نصٍ للروائي والقاص والمفكر اللبناني إلياس خوري، نشرها عام 1994 في مجلة “الآداب”. نص خوري الرثائيّ على حال مدينته، لم يكن شعورا فرديا، بل كان جزء من رواية تاريخيّة راسخة، شارك مثقفو العرب في تشييدها، حتّى بدّت غير قابلة للنقد والتفنيد. واليوم، تُستغلُّ تلك السرديّة، وتتردد في كثير من المحافل، كنوع من البكائيّات على حال بيروت، غير القادرة على لعب دورها التاريخي في احتواء المثقفين العرب، الهاربين من البطش في بلدانهم، الأمر الذي يبدو، في جوهره، اختزالا حتّى للتاريخ المتقلّب لبيروت نفسها. وكأنّ اللحظات الصعبة، الطاردة لكل أنماط الحرية، هي حالة استثنائية في تاريخ عاصمة الفينيقيين.
تلك البُكائيات اشتبك معها الكاتب والأديب اللبناني يوسف بزي منذ وقت طويل، في نص له نشر عام 1991 بمجلة “الناقد”، أكد فيه أنّ تاريخ لبنان “لم يعُد من الممكن أن يستقيم سرده إلا على نحو ما قبل الحرب، ما بعد الحرب. تلك الحالة المستمرة حتّى اليوم، والظاهرة في كُلّ الأحاديث الشعبية، حيث تُشكل بداية الحرب الأهليّة نهاية عصر الازدهار، وبداية عصر الشقاء”.
يُتابع بزي في نقد تلك الحالة، قائلا: “إنّ ما يحرك اللبنانيين ليس الحنين، أنما الفقدان والخسارة، وهم في أيّ حال لا يفلحون في النسيان، ولا في التذكّر، فغبار كثيف، ولّده الركام والدمار، يحجب رؤيتهم، وبهذا المعنى تشوب حلقة الثقافة أزمة ضمير، وشعور بالذنب تجاه ما فرّطت به أثناء الحرب، ولذلك فهي تسعى لتنصيب صورة نقيّة، بل خُرافية، عن عظمة ما كانته ثقافة بيروت”.
تلك الخرافة التي يتحدث عنها بزي، هي فترة الستينيّات في لبنان، التي غالبا يُنظر لها، بكثيرٍ من الحنين، على أنّها “العقد الذهبيّ”، بما هو ساحةٌ مزدهرةٌ من الرفاه والثقافة العصريّة في الشرق الأوسط. وهكذا أحيطت بيروت بهالة “مدينة الثقافة”، و”ملجأ الأحرار العرب”، كما وصفها خوري، حاذيا حذو من قبله. إلا أننا، اعتمادا على الأرشيف المكتوب، سنحاول طرح صورة أكثر شموليّة عن حياة المثقفين العرب في بيروت. هل بيروت هي الفردوس المفقود حقا؟ أم أنّ هذه مجرّد رواية، طغت على وقائع أخرى؟
لمع اسم العاصمة اللبنانية بيروت خلال مراحل وحقب تاريخية مختلفة، وصلت لذروتها في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين لعبت ادوارا بارزة، كانت أكبر حتّى من إمكانياتها. فبعد أن كان مدينة تتمتع بطبيعة خلابة وطقس معتدل، جعلها محطّ رحال المُصطافين العرب، والمصريين خصوصا، من الطبقة الأرستقراطية، تحوّلت، مع نهاية القرن التاسع عشر، إلى مركز منافس لعواصم عربية كبرى، مثل القاهرة ودمشق وبغداد. تلك المنافسة أتت عقب تحوّلها إلى مدينةٍ ساحليّة رئيسيّة على البحر المتوسّط، وترسّخت مع تشكيل “لبنان الكبير”، على يد الاستعمار الفرنسي. ظهرت بيروت في تلك الفترة بوصفها مدينة الثقافة والأدب، واللاجئين السياسيّين، وكذلك مدينة رؤوس الأموال والبنوك. ونُقل الخطابَ السياحيَّ القوميّ، وحيّزه البصريّ، من الجبال اللبنانية الخضراء، إلى العاصمة المتوسّطيّة الساحليّة.
تنبّه المؤرخ اللبناني فواز طرابلسي لثغرات هذا التصوّر، فانتقده بالقول: “الأحرى أنّها مدينة في غياب البديل، كما يقال في برامج الحواسيب، لجيرانها في الداخل، المتعطّشين لوَاحات. تبدو مدينة أوروبية تتكلّم العربية، للأوروبيّين تتمظهر بما هي مدينةٌ شرقيّة مُصابة بالحداثة. صُوَرها المختلفة، التي غالبا ما تدور حول وظيفتها، بما هي صلة وصل، ترزح ثقيلة على المدينة، والأدوار التي يُنعم بها الغير عليها، تبدو كما لو أنّها صادرةٌ عن رسالة دهريّة تارةً، وتارة أخرى على أنّها تعبيرٌ عن ضرورة جغرافيّة أو أحكامٍ طبيعيّة. الاختزال سيّد الأحكام هنا. فمنذ زمنٍ اختلطت صورة لبنان بصورة عاصمته، وبتمثّلات تلك العاصمة، وقد جرى اختزالها، في كثير من الحالات، إلى مينائها ووَسَطها التجاريّ، والليالي الحُمر في شارع الحمرا برأس بيروت”.
نعت “الاختزالي”، الذي يعطيه طرابلسي للرواية السائدة عن بيروت، يُظهر سُلطة النص الأدبي والشعري، المُستمد من الشعراء والأدباء، على التأريخ للمدينة، الأمر الذي قد يُفسر بقاء الصورة النمطيّة لبيروت تلك الفترة، بوصفها مدينة خياليّة، وواحة الثقافة والحريات والثراء للمثقفين العرب.
بعد استقلال لبنان في عام 1943، تمّ تركيز الاهتمام على الجانب الاقتصادي، واعتماد نموذج اقتصادي مشابه للنموذج السويسري، من حيث الحرية المصرفية، وفتح أبواب الاستثمار المالي. وبعد الحرب العالميّة الثانية «سيتعَولم الاقتصاد اللبنانيّ، المتمحور حول بيروت، حتّى قبل عصر العولمة” بحسب وصف طرابلسي. كما سيتعزز هذا الاقتصاد، من خلال إقرار مبدأ السرية المصرفيّة، ليبدأ في استقبال أموال النفط، المتدفّقة عليه من أقطار الخليج العربي، إضافة إلى رؤوس أموال لاجئة من مصر وسوريا، هربا من التأميمات. تلك الأموال الضخمة، تمّ ضخّها في استثمارات وإنشاءات ضخمة، غيّرت شكل المدينة، ودارت في فلك النمط الاستهلاكي والترفيهي، الذي كان المستعمر الفرنسي قد شكّله منذ تأسيس “لبنان الكبير”، واستمر بعد الاستقلال. تحوّلت بيروت وتغيرت، فبعد أن كان أهلها لا يذهبون إلا بجماعات لمنطقة الحمرا، خوفا من الواوية (أي الثعالب) التي كانت منتشرة هناك، تحوّل الحال، وأصبح مُلّاك الأراضي في تلك المنطقة يبيعون أرضهم لمن يريد، وبالسعر الذي يريد. ويصف الكاتب سليم زبّال هذا التغيير بالقول: “مبان ترتفع في كل ركن، وكأنها العشب البري.. مما يجعل مساحة بيروت تمتد، وتبتلع كل شيء في طريقها”.
كتب المؤرخ المصري حسين مؤنس، في نصه “أيّام بيروت” على صفحات مجلة “الآداب” عام 1956، عقب العدوان الثلاثي على مصر، عن التغيرات التي بدت ظاهرة على بيروت، وصعود نزعتها الاستهلاكيّة: “خرجنا نبحث عن فندق آخر، فأخذونا الى مكان جميل، جمع أصحابه فيه كل وسائل الراحة، والتعب أيضا، الراحة ساعة النوم، والتعب ساعة دفع الحساب، وخفّ مدير الفندق يقول: لدي كل ما تريدون: غرفه بالماء الساخن، والبارد والفاتر أيضا، إذا اردتم، وغرف بتكييف الهواء، وأخرى بتكيف المزاج، وغرفة بحمام، وأخرى بحمامين، ولدينا حمام بلا غرفة، وتكييف بلا هواء.. كل شيء ممكن هنا في لبنان”. كانت تلك الفترة بداية دخول منطقةُ الشرق الأوسط، في نمط الاستهلاك المحليّ للمنتجات والخدمات العالميّة، أضحتْ بيروت، في تلك الفترة، ممرا مهمّا في رحلات المطربين في المنطقة، ونقطة دخول للسلع والأسطوانات وأنماط الترفيه الجديدة، ممّا أثّر في الحياة الثقافيّة فيها.
تدريجيّاً جذبت بيروت، ليس رؤوس الأموال المادّيّة وحسْب، وإنّما أيضا رؤوس الأموال البشريّة، فعندما كانت البلدان المجاورة تقع فريسة أنظمةٍ استبداديّة. ابتداءً من ستّينيّات القرن الماضي، استقبلت بيروت زهرة الإنتليجنسيا العربيّة، التي لجأت إليها، لتنتج وتنشر أعمالها فيها. كانت بيروت مثل روما بعد سقوط القسطنطينية في سنة 1453، حين لم يبقَ في القسطنطينية، عاصمة العالم القديم، إلا قليل من العلماء والفنانين والأدباء والمفكرين، الذين تقاطروا على روما، وساهموا في نهضتها المتألّقة، وجعلوها عاصمة للعالم الجديد.
تلك التغيرات الحادثة في موازين الإنتاج الثقافي، دفعت مجلة “الحرية”، لسؤال رئيس تحرير مجلة “الآدب” سهيل إدريس عام 1960، السؤال التالي: “أيهما عاصمة الادب العربي: القاهرة ام بيروت؟”. كان ذلك السؤال منطقيا حينها، عندما كان مثقفو الوطن العربي يعيشون حياة النجوم في شوارع بيروت ومقاهيها وحياتها الصاخبة، وما وفّرته رؤوس الأموال، بضخها المستمر في مجال النشر والتوزيع، من إثراء المثقفين والعاملين في مجال الكتابة.
وفرة الإنتاج الثقافي في بيروت آنذاك، تبدو ظاهرة صحيّة، ولكن جانبا مهما منها كان فعليا مجرّد أعمال تجارية، وجزءا من الثقافة الاستهلاكيّة الصاعدة حينها. كان كثير من الإنتاجات غير هادفه وغير مدروسة، وتدخل في ديكور بعض البيوت والمكاتب والمكتبات ليس إلا، كما ظهر في اتجاه دور النشر لطباعة الأعمال الموسوعية الضخمة، والمجموعات الكاملة، وتأسيس دور نشر متخصصة بتجميع وطباعة السلاسل الكبيرة. يرصد الكاتب نجيب صالح، في نص على مجلة “الأقلام”، بعنوان “بيروت مطبعة الشرق!”، تغلغل وطُغيان النزعة الاستثماريّة على الوسط الثقافي، ساردا قصة عن دار نشر، طبعت كتاب “رسالة الغفران”، للشاعر الكفيف أبي العلا المعري، وكان على صورة الغلاف المعري وهو يقرأ في كتاب، وأمامه شمعة، ولما اعترضت الدكتورة بنت الشاطئ، محققة الكتاب، قال لها الناشر، وهو شاب مغامر ،عمل في احدى دول الخليج، إن أحدا لم يقل له إنّ المعري كان أعمى.
يذكر صالح حوادث أخرى كثيرة مشابهة، من بينها حادثة كان بطلها الشاعر محمود درويش شخصيا. في ذلك الوقت كانت هناك داران للنشر، تتنافسان على طبع أعماله الكاملة، وبحكم المنافسة وسرعة الطبع، “اضطرت إحدى هاتين الدارين لدمج بعض قصائد لسميح القاسم في ديوان درويش، وعندما قاضى درويش الدار، قال صاحبها أمام القاضي: مجموعتي مخصصة للشعراء الفلسطينيين، وعنوانها فقط: الموسوعة الكاملة لمحمود درويش”.
هناك حقيقة أخرى، تمّ تهميشها أثناء بناء رواية “بيروت فردوس المثقفين”، ألا وهي أنها كانت جحيمهم أيضا، ففي الوقت الذي كان بعض المثقفين والكتّاب يحصدون مكاسب التغيرات الحادثة في مجال الكتابة والنشر، كان هنالك آخرون يعانون ويلات البحث عن موطئ قدم لهم في بيروت. عبّر الشاعر، الآتي من جنوب لبنان، حسن العبد الله، عن تلك المأساة، في ديوانه الأول “كيف أدخل في الوطن؟”، الذي يتحدّث عن العلاقة التصادميّة بين المركز والأطراف، بين المدينة المزدهرة والأرياف المحرومة، ونرى فيه أن بيروت المضيافة، المفتوحة على الرياح الأربع؛ بيروت التي تفتح أذرعها للغرباء القادمين من خارج، تدير ظهرها للداخل، للشاعر الجنوبيّ وأترابه، الذين هجّرهم البؤس الريفيّ من قراهم، ووجدوا أن “عاصمة الوطن” توصد أبوابها السبعة في وجوههم.
تلك الحياة الشاقة والمأساوية في بيروت المُعولمة، كانت أيضا موضوع أولى روايات الكاتبة السورية غادة السمان، “بيروت 75″، والتي يجمع أبطالها حلم واحد، وهو الذهاب لبيروت، من أجل تحقيق حلم الشهرة والمال، ثم يكتشفون أنه حلم زائف، يقضي على إنسانية الإنسان، ويجعل منه سلعة تباع وتشترى برخص. انتبهت السمان في روايتها إلى أنّ تلك الحياة لا يمكن أن تستمر، وأنّ هؤلاء المهمشين المسحوقين سينقضّون على بيروت ويدمرونها، وهذا ما حدث في نهاية الأمر، ومنذ بدايات الحرب الأهلية، حين تدافع البشر إلى قلب بيروت، ونهبوها بدون رحمة.
السمان بحكم عملها الصحفي، قبل أن تصبح روائية، كانت ترى واقع التهميش التدريجيّ للمدن اللبنانيّة الأخرى، الذي بدأ منذ الانتداب الفرنسيّ. وفي روايتها عكست صورة عمليّات “ترييف المدينة”، التي كانت تحدث مع قدوم آلاف اللبنانيين والسوريين، الحالمين ببيروت. تلك العمليّة التي يصفها سليم زبال في مجلة “العربي” بالقول: “إنها المركزية.. كل أهل لبنان ملزمين بالتوجّه إلى بيروت.. الفلاح من سهل البقاع، والقروي من أعالي الجبال، يهبط لملاحقة أوراقه ومعاملاته في دوائرها”. حركة “ترييف المدينة”، صنعت طبقات جديدة، أكثر كثافة على أطراف بيروت، وأدنى في المقياس الاستهلاكي عن ساكني الوسط. كما أدت تلك الحركة إلى مشكلة اجتماعية، وكان السبيل الوحيد لتقبّل الوافدين الجدد هو “الإدماج الحضري القسري”.
يتحدث يوسف بزي في كتابه “ضاحية واحدة ومدن كثيرة”، عن هذا الإدماج القسري، الذي كان يعيشه كل يوم في بيروت: “عشت في فردان، كمن دخل الجنة قبل الأوان، ومن غير استحقاق، وكان يعزّيني قليلا أن أمي مسيحية، وليس مظهرها بمظهر المهاجرة النموذجية، بمواصفات جنوبية بائسة… إذ كانت تعرف، ولو لماما، بعض أصول اللياقات والتصرفات والكلام المنمق…»، ما كان يشعر به من “احتراق نفسي” (نسبةً إلى مصطلح عالم الاجتماع بيونغ تشول هان)، في التشبّه بمن حوله كي ينال القبول، دفعه للصراخ: «بين المدينة والضاحية، بين الطهارة والنجاسة… أنا شبيهكم ونقيضكم: النجدة!».
كما تناول الروائي محمد أبي سمرا أيضا، في روايتيه “لرجل السابق” و”سكّان صور”، حياة أولئك، الذين يصلون إلى تخوم العاصمة، ويحاولون عبثًا مداراة مراراتهم وحيرتهم وفظاظة عيشهم، وعنفهم المنزلي والأسري، وحسراتهم الطالعة من معاينة الآخرين، في هناءة العيش واللباقة والتمدّن والدعة، فيما تتنازعهم مشاعر الضغينة وقلة الحيلة، وأحوال الفقر والرثاثة الاجتماعية. فكأنما كانت العاصمة الكوزموبوليتانية المزدهرة (بيروت) تُربي الحقد عليها في نفوس “المهمشين” و”المستضعفين” والمتأخرين عنها. وهكذا فكان لا بد أن تزول التجربة.
لا يمكن إنكار ما قامت به بيروت، وقدّمته لإثراء الثقافة العربية، سواء كان بدافع التنوير والتحضّر، أو الربح وتراكم الثروات، في النهاية استفاد كل أهالي المنطقة من شعلّة بيروت الثقافيّة المُتقدة، وهو أمر مفروغ منه، بل أن شدّة تعلّق المثقفين العرب ببيروت لليوم هو دليل على ذلك. وليس القصد هنا إنكار هذا الفضل، بل فهم انحدار بيروت وموتها، المستمر حتى اليوم، ضمن سياق أكثر شمولا، لا يقف عند حدود رواية رومانسية معيارية.
لم تعد بيروت “ملجأ للأحرار العرب” منذ زمن طويل، بل لم تعد حتى ملجأ لأحرارها من حاملي الجنسية اللبنانية، وهذا ليس بسبب قطيعة في مدنيّتها، أو مؤامرة عليها، وإنما لعوامل شديدة التعقيد من قلب تجربتها، حاولنا ذكر بعضها.