لطالما حفلت الأشعار والروايات والأعمال الفنية المصرية بسيرة المقاهي القاهرية. كلٌ يصفها حسب حالته ورؤيته للحياة، لدرجة أنها باتت جزءا من التراث الثقافي، وجانبا أساسيا من المدنيّة المصرية.

عرفت مصر المقاهي في القرن التاسع عشر، أثناء فترة الحكم العثماني، وقد أحصى المؤرخ علي باشا مبارك في مخطاطته ما يقارب 1027 “قهوة” في القاهرة عام 1880، من بينها 232 قهوة في قسم الأزبكية، و160 في بولاق وعابدين.

والمقاهي أو “القهاوي”، كما يطلق عليها بالعامية المصرية، أماكن للقاء الناس أساسا، وفقا لمناطق سكنهم ومستوياتهم الاجتماعية واهتماماتهم الثقافية، يشربون فيها مشروبات متعددة، مثل القهوة والزنجبيل والقرفة واليانسون، فيما كان الشاي، بالقرن التاسع عشر، لا يقدّم إلا في منازل  أفراد الطبقة العليا في المجتمع، الذين كانوا يتفنّنون في اختيار أنواعه، المستوردة من إنجلترا.

خارج تلك المنازل، كانت المقاهي بطبيعتها مساحة للنقاش اجتماعي، ومنابر لحرية التعبير، وفق شروط ذلك العصر، وبالتالي قد شهد عديد منها حوارات ثقافية وسياسية مهمة، وضعت الأساس للحركات الاجتماعية حينها، فقد خرجت كثير من الفنون والدعوات الفكرية والتنظيمات السياسية من تلك المقاهي. وعلاوة على ذلك، فإن عديدا من الفنانين والموسيقيين والكتّاب والمبدعين عامة، اتخذوا من هذه المقاهي مقارا لهم، فكانت العلامة الأبرز في المشهد الثقافي المصري.

وبحلول النصف الثاني من القرن العشرين، تحوّلت كثير من المقاهي إلى ما يشبه الصالونات الثقافية، خاصة في منطقة وسط البلد، مثل “الندوة الثقافية” و”مقهى ريش” و”سوق الحميدية”، وتأثّرت بكل التقلّبات السياسية والاجتماعية التي عرفتها مصر.

إلا أن هذا التصوّر عن المقاهي المصرية بات كلاسيكيا إلى حد كبير، ولا يتفق مع الصورة الواقعية للحياة المدينيّة المعاصرة، إذ أن دور المقاهي، بوصفها فسحة للقاء الاجتماعي، تراجع بشدة، لأسباب معقدة، منها تغيّر أساليب التواصل، وازدياد دور العالم الافتراضي في العلاقات الاجتماعية؛ وكذلك التغيّرات التي شهدها الحيز العام المصري في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد أحداث 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، وتراجع الحياة الثقافية والسياسية في البلاد، والأزمات الاقتصادية المتتالية، التي جعلت ثمن أي مشروب في المقهى ترفا، لا يقدر عليه كثيرون، لدرجة نعى فيها عدد من المثقفين المقاهي القاهرية، ورأوا في اضمحلالها نهاية لحقبة تاريخية طويلة، وفقدانا لجانب مهم من “روح المدينة”. فهل خسرت القاهرة بالفعل جانبا من “روحها” باضمحلال مقاهيها الكلاسيكية؟ وكيف تبدو الحياة المدينية المعاصرة، بعد أن فقدت المقاهي جانبا مهما من دورها الاجتماعي؟

قهوة لـ”طوائف الشعب”: كيف حملت المقاهي مشروع الحداثة القاهرية

كانت المقاهي عالما كبيرا وواسعا، تعددت أنواعها بين مقاهٍ بلدية، وأخرى أفرنجية، أي التي  أُنشئت على نظام المقاهي الأوروبية، كما توجد المقاهي النوبية، وكانت تمثّل مكانا لتجمّع أبناء النوبة في القاهرة،  يتداولون فيها أخبارهم وأخبار عائلاتهم. ولم يكن مباحا في الماضي جلوس النساء في “القهاوي”، حتى بعد ظهور الحركة النسائية في مصر، إلا أن هذا الحال تغيّر بالتدريج، وبات الحضور النسائي بارزا في بعض مقاهي مصر، الأقل شعبية.

اعتبرت المقاهي، خلال سنوات، مأوى كثيرين، ومصدر الترفيه في حياتهم. وباتت أعدادها تتزايد، لأهميتها الاجتماعية، إلى أن اكتظت بها شوارع مصر، وباتت تزدحم بالبشر في أوقات الظهيرة والمساء، أما زبائنها الدائمون فهم غالبا من البسطاء، الذين يلازمون المصطبة الخارجية للقهوة طوال الوقت.

كانت للمشايخ وطلبة الأزهر مقاهيهم في حي الحسين، وأشهرها “قهوة شعبان”، وكان من زبائنها المطرب محمد الكحلاوي؛ بينما كان للمجاذيب والصعاليك وأرباب الطرق الصوفية مقاهيهم الخاصة، وكان من أشهرهم “على نيابة”، الذي تقمّص شخصية ضابط في جيش محمد على باشا، فكان يرتدى الملابس العسكرية، ويضع فوق رأسه طربوشا له زر طويل، ويزيّن صدره بأنواع شتى من النياشين “الفالصو”، وسدادات زجاجات المرطبات، ويكحّل عينيه، ويمسك سيفا من الصفيح، وهو يقدم عروضه العسكرية، ونداءاته الحماسية المبهمة.

وكان من هذه المقاهي مقاهٍ خاصة لرواد الفكر والإبداع، ومنها مقهى “البوستة”، الذي كان يرتاده جمال الدين الأفغاني؛ ومقهى “اللواء”، المكان المفضّل لشاعر النيل حافظ إبراهيم؛ ومقهى “ومتاتيا”، قبلة الفنانين المصري، وفي مقدمتهم نجيب الريحاني، والأديب العالمي نجيب محفوظ؛ فضلا عن المقاهي السياحية في خان الخليلي، وأشهرها  قهوة “الفيشاوي”.

يمكن اعتبار تلك المقاهي جزءا من مشروع التحديث المصري، ففي القاهرة، كما في المدن الغربية الكبرى، مثل باريس، وروما، ولندن، وفيينا، وبرلين، ونيويورك، اعتبرت المقاهي نموذج  الحياة المدينية، وموطنا للحياة الثقافية، لاسيما بعد بروز نموذج المقهى الباريسي، الذي لعب أدوارا سياسية وثقافية بارزة في التاريخ الفرنسي، من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، واعتبر حاملا للحداثة وما بعدها، وبعض أهم مدارسها، مثل السريالية والوجودية؛ ووظائفها التواصلية والحوارية.

وبالتالي فقد كان المقهى القاهري ظاهرة محلية إلى أقصى حد، إلا أنه يشكل في الوقت نفسه نقطة التماس أيضا مع المدينة الأوروبية، فكان يمكنك أن تناقش القضايا “الإفرنجية”، وأنت في أكثر المقاهي المصرية شعبيةً.

يذهب المفكر الإيراني داريوش شايغان، المختص في الفلسفة المقارنة، إلى أن الفضاء، والمدينة التي تجسّده، لا ينبثقان هكذا مصادفة، ثمّة خلف هذه التحولات عقلٌ يتصورها، وروحٌ تشترعها، ورؤيةٌ تضعها حيز التنفيذ. يقول شايغان: “لقد عرفت أمرا: توجد بين المساكن، أي الحيز المكاني المشيّد، ومن ثم بين المدنيّة، وبين الفضاء الذهني، توافقات كثيرة، ولا يمكننا أن نُدخل أي تعديل في طرف دون التأثير في الآخر. والفضاء الذهني في نهاية المطاف، ينمذج ويهيكل المسكن وروح المدينة”.

بهذا المعنى فإن انحلال وتغيّر طبيعة مقاهي القاهرة، بوصفها فضاءات مكانية مدنيّة أساسية، قد يشير إلى تغير في “الفضاء الذهني” لدى المصريين، فما أهم أبعاد هذا التغيّر؟

خطر الاجتماع المديني: لماذا لا تتركنا الدولة نتسلّى؟

لا توفّر النظم السياسية الشمولية والتسلطية فضاءات مكانية، يمكن فيها تداول القضايا العامة بحرية، إلا أن الفرق بين نظام تسلّطي وآخر، هو مدى رقابته لأماكن اللقاء الاجتماعي غير الرسمية، وإمكانية تغاضيه عما يدور فيها من وقائع وسجالات.

في مصر، التي عرفت غالبا أنظمة سياسية معادية للحريات العامة والشخصية، ظهر كثير من الأمكنة، مثل الميادين والشوارع والمقاهي، بوصفها فضاءات سياسية وثقافية، ولعبت أدوارا مهمة، بالنسبة للحركات السياسية، المحجوب عنها الشرعية، فباتت حيّزا عاما، بعيدا عن عيون البصّاصين والوشاة والمخبرين، وفي الواقع كان هنالك بعض التغاضي من قبل الدولة، حتى وقت قريب، عما كان يحصل في تلك المساحات، ما لم يتجاوز حدا معينا، يمكنه أن يهدد السلطة بشكل جدّي.

هكذا تحوّلت بعض الأماكن المدينية، مثل المشارب في الفنادق، وبعض الغرف الفقيرة في الأحياء الشعبية، وغيرها، إلى ساحات للجلسات التنظيمية لبعض الجماعات السياسية، ويمكن اعتبار بعض المقاهي الشعبية المجهولة، ساحة للتخفّي عن أعين المخبرين، في عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إلى درجة أن تاريخ الأحزاب السياسية، الوطنية واليسارية وحتى الإسلامية، حافل باللقاءات، التي كانت تتم في مقاهٍ معينة، فمثلا كان مقهي “ريش” الشهير المخبأ السري لحركة المقاومة في ثورة 1919، وبعدها مخبأ “الضباط الأحرار”، قبل ثورة يونيو عام 1952.

انتقلت هذه الظاهرة إلى أجيال التسعينيات، والعقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين، فظهرت كثير من المقاهي ذات البعد السياسي، مثل  “زهرة البستان”، و”الحرية”، و”تكعيبة”، وسط تساهل الأجهزة الأمنية، وربما كانت عبارة  “خليهم يتسلّوا”، المنسوبة للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، خير تعبير عن سياسة الدولة آنذاك.

إلا أن نتائج الاجتماعات في تلك المقاهي لم تقتصر على التسلية، فقد لعبت دورا فاعلا في ثورة 25 كانون الثاني/يناير، وأحيانا كانت تنطلق منها المظاهرات المنددة بحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكذلك صارت نقطة التقاء القوى السياسية وشباب الثورة، وظلت على هذه الحال إلى حين أحداث الثلاثين من يوليو/حزيران، التي أطاحت بالرئيس السابق محمد مرسي، وبجماعة الإخوان المسلمين.

 مع انتهاء فترة حكم “الجماعة”، أصبحت كل الأماكن، التي من الممكن أن يتجمع الناس فيها، مراقبة بشدة من الأجهزة الأمنية، ضمن حالة عامة من إغلاق الحيز العام، بما فيه ملاعب كرة القدم، إذ باتت مباريات الدوري المصري تتم بدون حضور الجماهير، وقد طُبّق هذا المنع الصارم على المقاهي أيضا، فحُظر على الناس التجمّع فيها، في ليالي المباريات الكبرى.

ما تغيّر في “الفضاء الذهني” للقاهرة هو انتهاء عقلية “التغاضي”. باتت المدينة نفسها، ببشرها وأماكن تواجدهم، تهديدا في عرف السلطة، وبالتالي لم يعد هنالك مجال للسماح بأي لقاء حر أو عفوي بين الناس، ولا بد من كثير من الضوابط، سواء الأمنية أو الأخلاقية أو الإدارية، وكذلك الضوابط الطبقية، فقد قُسّمت القاهرة إلى معازل، يمنع سكان المدينة من اجتياز أسوارها، وهي ليست أسوارا فيزيائية، وإنما حواجز تفرضها القدرة الشرائية والمظهر الاجتماعي والسمة الطبقية.

يمكن القول إن الاجتماع المديني بحد ذاته بات “المعارض” الأساسي للسلطة، وليس حزب أو جماعة أو أيديولوجيا معيّنة. ولذلك فكان الحل السحري هو إنهاء ذلك الاجتماع من أساسه. لا “مدينة” اليوم في القاهرة. ما الذي تبقّى إذن من المقاهي؟

قهر “التواصل الاجتماعي”: هل ستدافع المقاهي عن “الهوية المصرية”؟

يرى الدكتور  فوزي شرف الدين، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة بنها، أن الغرض من الجلوس في المقاهي لم يعد كما كان، وبات من النادر أن يهتم أحد بمناقشة الأوضاع السياسية والاجتماعية، فما بالك بالثقافة والفكر والأدب. صارت المقاهي مجرد مكان لـ”تضييع الوقت”، أو “قضاء مصلحة” بين شخص وآخر. مؤكدا أن مفردة “مقهى” تغيّرت دلالاتها عن السابق، فقد كانت تعني “مكانا محترما، يتواجد به عدد من صفوة الفكر والأدب والفن، لمناقشة أفكار ومواضيع تتعلق بالأوضاع السياسية أو الثقافية والأدبية والفنية، وكان عليها في الماضي رقيب من ضمير الشعب، وحاليا لم يعد الأمر كذلك، ولم تعد لها منظومة مثل السابق”.

ويبدو أن خسارة المقاهي لأهميتها ودورها السياسي والثقافي القديم، وخضوعها الكامل للرقابة الأمنية، سرّعا بشدة من الانتقال الكامل إلى العالم الافتراضي، الذي طغت “ترينداته” على الجدل العام في البلد، وباتت تؤثر على بعض مناحي الحياة، مثل الفن والثقافة الجماهيرية، ناشرةً مفاهيم ومصطلحات جديدة عن الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، والعمل واللهو، والصداقة، والقيم، والنقد السياسي والاجتماعي والثقافي، والحب، والألم، والعنف، والكراهية، والأذى، والجنس الفعلي واللفظي والمرئي.

كلها تجليات جديدة للرقمنة، التي ربما تكون قد أضافت كثيرا إلى الثقافة المعاصرة حول العالم، إلا أنها، في العالم العربي على وجه الخصوص، قد تكون أيضا مساحة للتنفيث، شبه العُصابي، عن خيبة الأفراد، التي لا يتيح المجال العام أي فرصة للتعبير عنها بشكل فعلي.

في الختام لا بد من القول إن المقاهي القاهرية لا يمكن أن تنتهي، مهما ازداد القمع السياسي، وتقدّمت وسائل التواصل الاجتماعي، فهي أحد حوامل الهوية المصرية بشكل من الأشكال، وبذلك تشبه الأمكنة التاريخية، ودور العبادة، والرموز الوطنية. وكما لا يمكن تخيّل مصر بدون أهرامات، يصعب جدا تخيّل القاهرة بدون مقاهٍ. ربما تغيّر كثير من الأشياء في “الفضاء الذهني” للمدينة، ولكن البشر قادرون دائما على إنتاج “فضاءات” جديدة، وغالبا سيكون لتجمّع الناس، فيما تبقى من مقاهي المدينة، دور أساسي في إنتاج تلك الفضاءات المحتملة.   

5 1 صوت
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات