مع بدء موجة التظاهرات المطالبة بالتغيير في بغداد عام 2011، وصولا لعام 2019، كان هناك أربعة ميادين، يقف فيها الشباب للهتاف ضد السلطة، وهي ساحات “الفردوس”، “الخلاني”، “الحرية”، “التحرير”.

“الفردوس” هي الساحة، التي  أسقط الجمهور فيها، مع القوات الأميركية، عام 2003، تمثال صدام حسين، البالغ طوله اثني عشر مترا. ليُعلن بذلك بدء عهد جديد في العراق، يختلف جذريا عما سبقه. وكان للساحة رمزية عالية في بداية التظاهرات، لكن مع مرور السنوات، خفّ الزخم فيها، لكونها تقع في مكان آمن وغير مؤثّر في العاصمة، فهي موجودة جهة الرصافة بالقرب من نهر دجلة، وبعيدة عن مراكز الثقل السياسي والأمني. فلا يتواجد فيها إلا المحتجون، الذين يرغبون في تسجيل مواقف أخلاقية، وبالمجمل لم تكن هذه الساحة ميدانا لصراعات كبيرة في العاصمة.

إسقاط تمثال صدام في ساحة الفردوس

أما ساحة “الخلاني” فهي المكان المفضّل لأنصار “تيار الحكمة”، بزعامة رجل الدين الشيعي عمّار الحكيم، الذي أعاد صياغة جغرافية منطقة “الجادرية”، التي تقع بالقرب من الساحة، من خلال شراء أغلب الأبنية والبيوت الموجودة فيها، ليسيطر بذلك على ساحة مركزية في العاصمة، قريبة من “جسر السنك” ومنطقة “الكراجات”، أي موضع وصول الحافلات القادمة من المحافظات الأخرى، ومن المعروف أن غالبية جمهور الحكيم يأتي من المحافظات البعيدة بباصات كبيرة. وعلى العموم لا يتظاهر أنصار الحكيم سوى مرتين أو ثلاث مرات في السنة، فيما بات يشبه المناسبة الروتينية.

 ساحة “الحرية” هي الساحة التي يسيطر عليها “الإطار التنسيقي”، أي القوى الشيعية الخمس الموالية لإيران (سائرون، النصر، دولة القانون، الحكمة، الفتح)، قبل ان تنسحب منه جماعة “سائرون”، التابعة للتيار الصدري، وتنقلب على بقية القوى في “الإطار”.

تسيطر جماعات “الإطار التنسيقي” على “الحرية” بفضل سيطرتها على المؤسسات الرسمية التي تقع بالقرب من الساحة، والتي تشكّل مركز جذب للفئات التي يضمها الإطار .

هكذا لم يبق للمتظاهرين المطالبين بالتغيير سوى ساحة “التحرير”، التي شكّلت نقطة صراع بينهم وبين التيار الصدري، الذي كان يسيطر عليها، بفعل قربها المكاني من مدينة الصدر، معقل الصدريين، التي يسكنها خمسة ملايين مواطن، ليسوا جميعا من أنصار الصدر طبعا.

وسط هذه الخريطة المعقدة للعاصمة العراقية تبدو “حرب الساحات” أحد أهم مظاهر الصراع السياسي والأيديولوجي في البلد، فالسيطرة على الفضاء المديني تعني القدرة على فرض معادلات سلطوية، وأنماط للثقافة والسلوك الاجتماعي والفردي. وعلى الرغم من اضمحلال التظاهرات العراقية، فإن تلك “الحرب”، التي بدأت من إسقاط تمثال صدام في “الفردوس” عام 2003، مرورا بصدامات “التحرير” بين الصدريين ومن يعرفون بـ”التشرينيين”، ما زالت مستمرة بأشكال مختلفة حتى اليوم. فما أهم دلالات هذا الصراع؟ وما علاقته بمفهوم “الديمقراطية”، الذي كان بداية التغيير الدراماتيكي في العراق، منذ وصول الدبابات الأميركية، وحتى خضوع جميع الأطراف لتهديد صواريخ “الميليشيات الولائية”؟

الورطة الأميركية: كيف تعاملت الأحزاب العراقية مع الحيز العام؟

توفّر فكرة الدولة الحديثة، على المستوى النظري، وبشكل عملي أيضا، من خلال نظامها الاقتصادي والقانوني، شرطا موضوعيا لبزوغ فكرة حيّز عام حر، يتم فيه النقاش العمومي، عن الحريات العامة والخاصة، وشكل السلطة، وصولا إلى الفنون والفلكلور وغيرها، دون أن تمارس أي ثقافة من الثقافات، المنصهرة في فضاء الدولة الاجتماعي، الهيمنة على ذلك الحيّز.

وإذا أردنا أن نصوغ توصيفا تاريخيا للثقافة السياسية في العراق، منذ تأسيس هياكل الدولة الحديثة عام 1921، وإلى الآن، فإنه لا يمكن أن يكون غير تاريخ محاولات الهيمنة على الحيّز العام سياسيا وثقافيا، على مختلف مشارب السلطات، التي تناوبت على حكم الدولة العراقية. والقاسم المشترك لكل الأدوات الأيديولوجية، للهيمنة على الحيز العام في العراق، هو الدين، وكذلك العشيرة، بوصفهما تحالفا تاريخيا، ضاغطا وطيّعا لأي سلطة، تستطيع من خلاله صناعة خطاب ثقافي مهيمن، يدّعي “الطبيعية” و”الحتمية”.

لم تكن لحظة الغزو الأميركي، وتغيير النظام الاستبدادي في العراق، بالنسبة للنخب السياسية، على اختلاف مشاربها، إلا ورطة سياسية حقيقة، إنها ورطة الأدوات الديمقراطية، التي أجبرهم الأميركيون على استعمالها، مثل الانتخابات والدستور والتنظيم السياسي الحديث. هذه الأدوات، على نواقصها وعلّاتها، وفّرت مجالا حيويا لبزوغ حيّز عام، من خلال منظومة من الإجراءات القانونية والسياسية. غير أن “النخب” السياسية العراقية حاولت، بقدر ما بوسعها، إعادة تلك الأدوات إلى مربّع الطائفة والعشيرة. لذلك كان على الشعب العراقي أن يتعايش مع الدم والدموع، بسبب إجراءات سلطة مكرهة على ما لا ترغب، تعتبر الحيّز العام أحد كوابيسها المرعبة.  

أكدت السلطات والقوى السياسية العراقية، المهيمنة بعد عام 2003، أن ثقافة العراق محددة حتميا بالدين والعصبية العشائرية، وعلى الشعب أن يخضع لسلطة تمثّل هذه “الحقائق”، فحتى إن قاطعها انتخابيا، فهي، بقدرة قادر، ستفوز بعرش السلطة، ولو حاول الشعب النزول إلى الساحات العامة، فسيُجابَه بكل صنوف التنكيل.

رد فئات كثيرة من العراقيين كان محاولة الاحتلال الفيزيائي للساحات، لمواجهة ذلك المصير “الحتمي”، عبر فرض مجال عام ديمقراطي. فالساحات كانت المتنفّس الأول، وربما الأخير، الذي استطاع الجمهور من خلاله التعبير عن هوية سياسية وثقافية، مخالفة للطائفة والعشيرة، متحديا كل الأدبيات التاريخية والثقافية، التي تفرضها السلطات على البلد، فباتت ميادين الاحتجاجات، وخاصة إبان انتفاضة تشرين عام 2019، “أوطانا بديلة”، بحسب وصف شعراء تلك الانتفاضة.

“الوطن البديل” في ساحة التحرير

الصراع  على الساحات في العراق، ليس صراعا محموما على السلطة فحسب، وإنما صراع حول “هوية البلد”، بالمفهوم الاوسع للهوية: هل هو بلد العشائر والطوائف، الفساد الإداري والمالي، التطرّف الديني، والتبعية لدول إقليمية؛ أم أنه دولة مواطنة، يحقّ فيها للمواطنين المشاركة في تقرير مصيرهم، وسط شرط من التسامح الفكري والعقائدي والسياسي، والحريات الاجتماعية والشخصية؟

ظلت الأحزاب الحاكمة وفيّة لسلوك الأقلية، التي تجاهد للدفاع عن “الكوتا” الخاصة بها، رغم أنها تملك القوة الفعلية على كل الصعد، ولديها جمهور واسع كما يُفترض، يعتبر “الطائفة الأكبر” في العراق. في الانتخابات التشريعية الأخيرة عام 2021، عبّرت تلك الأحزاب عن قلقها بخصوص تمثيل “المكوّن الشيعي”، وكأنه مجرّد جماعة إثنية صغيرة ومضطهدة في العراق، فعطّلت العملية السياسية في البلد. من جديد يمكن للمرء التساؤل: لماذا يبدي ممثلو ما يفترض أنه الأغلبية السكّانية كل هذا الخوف من الديمقراطية؟ والجواب قد يكون في أن الحيّز العام يخلق إمكانيات أوسع من المحاصصة الطائفية والعشائرية، التي أدمن عليها هؤلاء.

كل ما يجب أن يكون في الحيّز العام، من حوارات مستمرة، وإعلام حر، ومؤسسات مدنية فاعلة، ظل حبرا على ورق، منذ عام 2003، بسبب هذه العقلية، وكان الرد الحاسم على كل ذلك هو انتفاضة تشرين عام 2019.

الأوطان البديلة: كيف اندلعت حرب “الحتمية الثقافية”؟

 “نريد وطنا”، “نازل آخذ حقي”، “إيران برا برا.. بغداد تبقى حرة”، تلك الشعارات التي هتف بها ثوار تشرين عام 2019 في بغداد، عبّرت عن رغبة الشبّان العراقيين في استعادة السيطرة على الفضاءات العامة، بعد استحواذ قوى السلطة على غالبيتها، وإعادة صياغتها جغرافيا، من خلال عمليات شراء، أو احتلال الأبنية المجاورة للساحات.

وقد اضطر المتظاهرون في ساحة التحرير لمواجهة قوتين: الأولى قوات الأمن النظامية، التي وقفت على جسر “السنك”، لحماية “المنطقة الخضراء”، أي المربع الأمني/الحكومي، ما أدى لمقتل ما يقارب ثمانمئة متظاهرة ومتظاهر؛ والثانية أتباع التيار الصدري، الذين ادّعوا مساندتهم للتظاهرات في بدايتها، ولكنهم سرعان ما دخلوا في مواجهة مفتوحة معها، أودت بحياة عشرات المتظاهرين.

فيما يخصّ السلطة، لم يكن التحدي الذي يواجهها في الساحات المنتفضة يقتصر على التهديد السياسي المباشر فقط، بل أساسا فكرة وجود مساحات مدينية حرّة، خارج حدود سيطرتها. فقيم الحريات العامة والخاصة، والمساواة الجندرية، ونشاط الذكور والإناث جنبا إلى جنب، كان تهديدا لكل النظام السياسي/الأيديولوجي القائم. من جهتها شيطنت الأحزاب الإسلامية الإناث المشاركات في الاحتجاجات، وجعلتهن على رأس قائمة الاستهداف. ومن أشهرهن الدكتورة ريهام يعقوب، التي اغتالتها الميليشيات عام 2020.

ريهام يعقوب

هكذا تصاعدت اتهامات القوى الإسلامية/الطائفية للمحتجّات والمحتجين، ومنها ممارستهم الجنس داخل خيم الاعتصام، أو شربهم للكحول، أو وُجود خيم للمثليين بين ظهرانيهم. وحين عدم ثبوت مثل تلك الاتهامات، يتم استدعاء بديلها، أي التخوين، واتهام المتظاهرين بالعمالة لأميركا، والترويج لسياساتها، مع العلم أن تلك القوى نفسها لم تكن لتوجد وتمارس السياسة، دون كثير من التفاهمات مع الأميركيين. هكذا تم استدعاء كل أشكال البلاغة الإسلامية، القومية، والعشائرية، لقتل البشر، وإغلاق الساحات، التي تجمعوا فيها، إلى الأبد.

على الجانب الآخر، كانت هناك خطة معدّة من قبل قياديي التيار الصدري، المعارض كما يفترض، لـ”ركوب” موجة التظاهرات، وهذا ما حدث، عندما قرر التيار السيطرة على “المطعم التركي” في ساحة التحرير، ثم نجح بالسيطرة على مداخل ومخارج الساحة، إلى درجة أن أي متظاهر لم يكن يستطيع الدخول أو الخروج منها بدون موافقة من “الحنانة”، معقل مقتدى الصدر.

دروس تشرين: ماذا بعد السيطرة على الجغرافيا المدينية؟

حاول أنصار التيار الصدري الاستيلاء على منصات ساحة “التحرير”، لإعلان أسماء عدة مرشحين لرئاسة الوزراء العراقية، باسم انتفاضة تشرين، ما أثار غضب المنتفضين، الذين تواصلوا مع الجهات الإعلامية العالمية، ليؤكدوا وقوفهم ضد تلك الأسماء، عند هذه النقطة انفجر التيار الصدري، وأعلن عن “حملة تطهيرية”، بسبب ما سمّاه “كثرة الفساد في الساحات”، أي ابتعاد سلوك الحيز العام العراقي عن تصوراته الثقافية الحتمية، ما أدى لمواجهات عنيفة، ابتدأت من بغداد، وصولا إلى النجف والناصرية. 

“البيان رقم صفر” للمحتجين حول مرشحي التيار الصدري لرئاسة الوزراء

وبعد ازدياد عدد القتلى إلى حد كبير، انسحب التيار الصدري من ساحة التحرير، يوم السادس والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير 2020، ليعود إليها بعد فترة قصيرة، ثم ظهر وباء كورونا، لينهي هذا الصراع. 

استخدمت السلطة العراقية إذن، بمعناها الواسع، كل الآليات الممكنة للسيطرة على الحيز العام، الذي تصطدم ممارساته دائما مع خطابها الأيديولوجي، الديني والطائفي والعشائري. وبعد انحسار الاحتجاجات، عقب انتشار فيروس كورونا، عملت الدولة على استيعاب الشباب المتظاهرين في ماكينتها البيروقراطية أو الثقافية، من خلال منحهم وظائف، تضمن خضوعهم وصمتهم، خصوصا أن كثيرا منهم خسر مستقبله ومصادر رزقه في التظاهرات. من جهة أخرى سيطرت القوى الأمنية على الفضاء الافتراضي، ووسائل التواصل الاجتماعي، لمنع الناس من إبداء آرائهم، وأصدرت كثيرا من القوانين لحفظ “الآداب العامة العراقية”.

على كل حال، نجحت السلطات والأحزاب المتنفّذة باستعادة السيطرة، بالاستعانة بتبعيتها الخارجية لإيران، وطرائقها البوليسية في القتل والاعتقال والحجب. وباتت “تشرين” اليوم مجرّد ذكرى، ولكن الصراع على الساحات البغدادية لن ينتهي قريبا.

اليوم تدور نقاشات كثيرة بين من تبقّى من التشرينيين، ومنها أن الساحات لا يمكن السيطرة عليها دون وجود خطة وبرنامج سياسي واضح، ولا يجب الاكتفاء بتحويلها  إلى مجال للاحتفالات والأغاني والهتاف فقط. فهذا لن يحقق تغييرا فعليا، حتى لو وقف الشعب بأكمله في ساحة واحدة؛ كما أن عبارة ” نريد وطنا” ليست كافية، إذ لم يقرر المحتجون ماهية ذلك “الوطن”، ونظامه السياسي والاقتصادي، وحرياته الاجتماعية والثقافية، وكذلك كيفية الوصول لكل تلك الأهداف؛ فضلا عن أن الصراخ والمطالبة بمساندة المنظمات الدولية، وكتابه “الهاشتاغات”، لن يكفي لإنقاذ المتظاهرين من عنف السلطات والقوى المتنفّذة.

عانت انتفاضة تشرين من كل نواقص ما يُعرف بـ”الربيع العربي”، إلا أن الحرب على الساحات، قد علّمت المحتجين العراقيين الكثير، وربما تكون المعركة القادمة ليست مجرد السيطرة على مواقع مهمة في جغرافيا العاصمة، وإنما تعلّم كيفية إدارتها، وجعلها منطلقا لتغيير جذري واضح المعالم. خاصة بعد أن أدرك العالم أن “الثقافة العراقية” ليست مجرّد معممين طائفيين، أو مسلّحين عشائريين، بل مواطنين متمدّنين، يحاولون استعادة مدينتهم.

5 1 صوت
تقييم المقالة
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات