اعتبرت المدينة بمثابة النواة الأولى لنشأة الحضارة البشرية، فهي التمركز الجغرافي والاجتماعي لفائض الإنتاج، وموطن البنى الاجتماعية والثقافية الأكثر تعقيدا وتنظيما. ولذلك يحدد فضاء المدينة البُعد المكاني والزماني للمجتمع البشري، الذي يتطوّر ويتغيّر عبر مسيرة التاريخ، ففي كل مرحلة يُعاد تعريف المدينة، طبقا لوظيفتها وبناها، وقدرتها على تحقيق فاعلية تنظيم الاجتماع البشري.
تعاني المدن العربية في أيامنا من الانحدار على مستويات مختلفة، ما يجعلها تبدو في حالة احتضار، خاصة بعد ثورات “الربيع العربي”، وقد ذُكر الكثير عن انحلال العواصم والمدن العربية الكبرى، مثل بيروت والقاهرة وبغداد ودمشق وتونس، إلا أن ذلك الانحلال طال أيضا المدن الصغيرة، التي لطالما لعبت دورا كبيرا في الحياة المدينية العربية، على المستويات الإنتاجية والثقافية والاجتماعية. ونادرا ما يتم الحديث عنها أو تحليل أحوالها، لأنها ظلت دائما على هوامش سردية المدن العربية.
وفي محاولة رصد بعض المعالم المسكوت عنها للعياء والتحلّل، أو بالأحرى موت المدينة العربية، سنتناول الطابع الإنتاجي لمدينة صغيرة، من حيث المساحة والتعداد السكّاني، ولكنها كانت ذات أهمية اقتصادية كبيرة، وهي مدينة دمياط المصرية، التي يمكن اعتبارها مثالا دالّا على حال كثير من المدن العربية المشابهة. وإذا كانت مدن الأطراف الصناعية تعتمد على علاقاتها مع المدينة المركزية في أمور شتى، إدارية وسياسية وثقافية وتعليمية، إلا أن المدن المركزية تعتمد بدورها اجتماعيا على الوافدين من الأطراف، واقتصاديا على المنتجات والسلع المصنوعة فيها.
تعدّ مدينة دمياط من أهم المدن الاقتصادية المصرية والعربية، إذ تقوم بنيتها الاجتماعية برمتها على صناعات وحرف متعددة، ومنها صناعات الأثاث والسفن والغزل والنسيج والأحذية، كما تمتلك أكبر أسطول للصيد والملاحة في مصر، وتتعدد المنتجات المميزة لها، مثل الألبان والحلويات؛ والمنتجات الزراعية، ومنها الأرز والفواكه والموالح. وتتسم ثقافة المدينة بمقولات تعلي من قيمة العمل، إذ تُعرّف نفسها بـ”قلعة الأثاث”، ومدينة العمل واللابطالة، و”يابان مصر”.
إلا أن صناعات دمياط ومنتجاتها تراجعت بشدة في الفترة الأخيرة، نتيجة التغيرات الاقتصادية التي عرفتها مصر في السنوات الماضية، ما أدى إلى انحلال كثير من بناها الاجتماعية المترسّخة، ومظاهرها الحضرية الأهم. أي أن انحدار دمياط لم يرتبط بثورات أو حروب أو نزاعات اجتماعية عنيفة، بقدر ما ارتبط باضمحلال هياكلها الإنتاجية. ما يطرح أسئلة عديدة عن مستقبل المدن المنتجة في العالم العربي.
سيرة دمياط: من المدينة الثانية إلى عاصمة “الموبيليا”
يعود تاريخ مدينة دمياط إلى ثلاثين قرنا، ويرجح أن أصل اسمها هو “تامحيت”، أي مدينة الشمال أو المياه، وفي العصر اليوناني أطلق عليها اسم “تامياتس”، والذي جاءت منه التسمية العربية “دمياط”(1). وامتازت المدينة بموقعها الجغرافي، فشمالها البحر المتوسط، وغربها نهر النيل، وشرقها بحيرة المنزلة، وجنوبها أراضٍ زراعية، تابعة لمنطقة الدلتا.
تنقطع الأخبار عن دمياط في العالم القديم، فلا نعرف سوى أنها كانت أقدم الموانئ المصرية، كما نشطت في الزراعة وصناعة المنسوجات والتجارة، لكن تاريخها المحفوظ يبدأ مع التأريخ في العصر العربي الإسلامي، مع مؤرخين مثل الواقدي والبلاذري والكندي والمقدسي والمسعودي والطبري، مرورا بالمقريزي وإبن اياس، وصولا للجبرتي وعلي مبارك وآخرين. الذين بيّنوا أنه في القرون الأولى من حكم الولاة العرب ظلّت الشؤون الإنتاجية للمدن المصرية، القائمة على الحرف والزراعة والصيد، بيد أرباب صناعاتها من القبط، واكتفى الولاة بالضرائب والجزية.
كان نمط الإنتاج السائد في مصر وقتذاك، بحسب المفكر المصري “أحمد صادق سعد”(2) هو ملكية الدولة للأرض واحتكار الصناعات الحرفية، والذي لم ينقطع منذ مصر الفرعونية واليونانية والرومانية، فسيطرت الحكومة العربية بدورها على صناعة النسيج في دمياط وغيرها، وانقسمت ورش الحرفيين بين أهلية وتابعة للدولة.
وبينما كان اهتمام الولاة العرب الأمويين والعباسيين منصبا على تحصين المدينة، ضد الهجمات المستمرة في القرون الثلاثة الأولى من الحكم العربي، اتسمت الفترة الطولونية، وصولا إلى العصر الفاطمي (868- 1171) بالانتعاش التجاري، بفضل ميناء دمياط وموانئ المتوسط، حتى عُرفت تلك الفترة بـ “الثورة التجارية”، والتي أسهمت بشكل واسع في نهضة الصناعات الحرفية، وتطور قوى الإنتاج. فعُدت مدينة دمياط إحدى المراكز الحضرية الإنتاجية والتجارية، وكثرت بها الورش الأهلية، المستقلة نسبيا عن السيطرة المركزية.
أما في العصر الأيوبي والمملوكي (1174-1517) فقد انفصلت السلطة عن القوى الإنتاجية، وسيطرت التنظيمات الحرفية، أو “طوائف الحرف”، على الشؤون الإنتاجية، وحدّدت العلاقات الحقوقية والتنظيمية للمهن المختلفة. كما ارتبطت تلك الطوائف بالطرق الصوفية المنتشرة آنذاك. وأدى ازدهار التجارة الخارجية إلى توطيد علاقات دمياط بالمدن والبلدان الأجنبية، خاصة في بلاد الشام وأوروبا، ما ساهم بازدهار اقتصاد المدينة.
عانت دمياط تحت الحكم العثماني لمصر منذ القرن السادس عشر، فبرغم ازدهار التجارة مع الموانئ العثمانية، في أغلب الفترات، إلا أن الطابع السائد في الإمبراطورية كان السيطرة على موارد المدن الإنتاجية، والتحكّم بطوائف الحرفيين، عن طريق تعيين الولاة لشيوخها بشكل مباشر. ورغم التدهور العثماني، إلا أن مدينة دمياط حافظت على مركزيتها التجارية، لقربها من الساحل العثماني، وظلت الميناء الأول لمصر حتى أوائل القرن التاسع عشر، كما احتلت المركز الثاني من حيث التعداد السكاني، إلى درجة أن بعض الرحّالة والزائرين، مثل الفرنسي الأب فانسليب، اعتبروها “أعظم المدن المصرية وأجملها، وأغناها وأكثرها سكانا وأعظمها تجارة، بعد القاهرة” (3).
ومع التحولات الاجتماعية والإنتاجية، التي شهدتها مصر في عصر محمد علي، خُططت المدن الحديثة من خلال البنى المؤسسية الحداثية، مثل التلغراف والسكك الحديدة والمدارس ووحدات التجنيد والقضاء، لكن دمياط فقدت أهمية موقعها الاستراتيجي بدون رجعة، مع إعادة مكانة ميناء الإسكندرية؛ وتوسيع وحفر الترعة المحمودية، التي تصل نهر النيل بالبحر المتوسط مرورا بالإسكندرية؛ وإنشاء قناة السويس ومدينة بورسعيد.(4)
لم تكن التحولات الكبرى لبنية الدولة والمدينة الحديثة، خلال القرن التاسع عشر، مجرد عملية إنشاء أنظمة للري وشق للترع، ونمو زراعة المحاصيل المرغوب فيها، وتأسيس بنية المصانع الحديثة والجيش الحديث، وأنظمة القضاء والتعليم، وإنشاء جهاز إداري بيروقراطي، بل كانت أيضا عملية تفاعل واصطدام بالقوى الاجتماعية والإنتاجية السائدة، وعلى رأسها طوائف الحرفيين ورجال الدين وملّاك الأراضي.
أفرزت تلك التفاعلات الاجتماعية صيغة للحداثة المصرية، ورسمت التحوّل لمفهوم “الأمة” قوميا، عن طريق خلق مجال عام، أوسع مما كانت عليه المجموعات والطرق الدينية؛ وتفكيك التنظيمات الاجتماعية الداخلية المغلقة، مثل طوائف الحرف، فأصبحت الدولة ومؤسساتها المشرف الأساسي على عملية التنظيم القانوني والاجتماعي والاقتصادي والتنموي والصحي، كما أدمج محمد علي إنتاج الحرفيين في بنية الدولة، وجعله خارجا عن إطار الطائفة، عن طريق قانون ترخيص مزاولة المهن.
كان إلغاء طوائف الحرف، واختفاؤها، وانحسار الطرق الصوفية في عشرينات القرن العشرين، بداية لتحولات صناعية وثقافية في مصر، توسّعت مع مشروعات التنمية، التي نفذتها الدولة الوطنية الحديثة، خاصة بعد حركة الضباط الأحرار في تموز/يوليو 1952. إذ أنشأ الرئيس جمال عبد الناصر جمعية تعاونية لصناعة الموبيليا (الأثاث) في دمياط، كي تنمّي صناعة المدينة، وتطوّرها بالأساليب الحديثة، مع تسهيل حصول الحرفيين على القروض (5)، ما أدى لتطوّر صناعة الأثاث، بعد التأثّر بالنماذج الإيطالية والفرنسية، واتخاذها حيزا من الإنتاج، إلى جانب صناعة الأحذية، والبنية الصناعية الحديثة، المتمثّلة في إعادة تأسيس مصنع الغزل والنسيج، ومصنع الألبان، فضلا عن تنوّع المنتجات الزراعية، وتوسّع حركة الملاحة والصيد.
إلا أن هذا الازدهار المؤقت كان قائما على أسس هشة، ويبدو أنه كان محكوما بالتبدّد.
زمن “التحديث”: أزمة الأسطوات والصيادين
في كتابه الموسوم بـ “نقد الاقتصاد السياسي”، يشير المفكر الاقتصادي المصري محمد عادل زكي، إلى أن تسرّب القيمة الزائدة، المنتجة بفضل العمال، إلى خارج الاقتصاد القومي، من أجل شراء وسائل الإنتاج، أدى لأزمة هيكلية، وهي أن الاقتصاد المحلي يعتمد على السوق العالمي وتقلباته، لأجل تجديد إنتاجه الاجتماعي.
ويمكن القول إن تسرب القيمة الزائدة اتخذ منحى تصاعديا، عندما ازدادت تبعية الاقتصاد المصري للسوق العالمي، فبحسب الباحث عادل حسين، في كتابه “الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية”، انفتحت أنماط الإنتاج المختلفة في مصر، بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، على السوق العالمي بشكل متزايد، فدخلت المنتجات المنافسة، ووسائل الإنتاج المستوردة، إلى أسواق المدن المصرية. ومع صعود سياسات الخصخصة، خضعت المدن الصناعية، على مدار سنوات، للموت البطيء، خاصة في ذروة سياسات الاصلاح الاقتصادي النيوليبرالي، التي جاءت مع وزارة أحمد نظيف عام 2004، والتي دعمت تحرير الأسواق والاستيراد، وتخلّت عن نزعة حماية الصناعات المحلية، ما أدى لتراجع صناعات أساسية في دمياط، وإغلاق بعضها، مثل مصنع الغزل والنسيج، ومصنع الألبان.
بيد أنه بعد ثورة يناير، تعمّقت الأوضاع الاقتصادية النيوليرالية، التي أظهرت هشاشة دعامات قطاع الصناعة الحرفية، في مواجهة الأزمات الاقتصادية التضخمية. كما أن طبيعة الإنتاج الاجتماعي في المدينة، القائم على الورش الصغير ومتناهية الصغر، والعمالة غير المنتظمة، لم تستطع الصمود أمام الأزمات والتطورات التكنولوجية، وفتح الأسواق التنافسية، في ظل غياب دور النقابات العمالية الحرفية، وضعف مساندة الدولة، ما أدى إلى اضمحلال بعض الحرف، وإغلاق الورش، وهجرة العمالة الماهرة، وزيادة الفقر والمهن الخدمية والطفيلية، مثل السمسرة.
كما يواجه صيادو دمياط، في منطقة عزبة البرج، التي تحوي أكبر أسطول صيد في مصر، خطرا مماثلا لما واجهته صناعة الأثاث، فعلاوة على ارتفاع أسعار الوقود، وارتفاع الضرائب، ووقف تراخيص المراكب، حظرت الدولة على الصيادين العمل في أماكن الصيد الغنية، التي باتت مفتوحة أمام أسطول “الشركة الوطنية للثروة السمكية”، التابعة للجيش المصري، والمالكة لمعدات حديثة، ومراكب أكثر تطورا. وعندما احتجّ الصيادون على ذلك، أحيل بعضهم لمحاكم عسكرية.
هكذا تتعرّض أهم القطاعات، التي يقوم عليها التكوين الاجتماعي للمدينة، إلى الزول. ونجد أن عمليات التحديث لم تقم على نموذج اقتصادي، يبتكر أدوات جديدة للإنتاج والاستثمار، وإنما يخنق بكل بساطة القطاعات الإنتاجية القائمة، ويناقض مصالح معظم الفئات الاجتماعية في المدينة، بدون إعطاء أي بديل.
تتضافر في حالة دمياط السياسات النيوليبرالية، مع الدكتاتورية السياسية، ورأسمالية المحاسيب، والسيطرة الاقتصادية للقوات المسلّحة، مؤدية في النهاية إلى موت المدينة، التي لم تعد “قلعة الأثاث” ولا “يابان مصر”، وإنما تجمعا بشريا عشوائيا، يرزح تحت الفقر والبطالة وضعف الخدمات والعمل العشوائي، ولهذا انعكاساته بالتأكيد على ثقافة المدينة وتنظيمها الاجتماعي.
بين الركود والموت: لماذا لم يقاوم الدمياطيون؟
طرح الفيلسوف والجغرافي ديفيد هارفي، في كتابه “مدن متمردة”، مجموعة من الأسئلة، في سياق أطروحة “الحق في المدينة”: ما المدينة التي نريد؟ وما الناس الذي نريد أن نكون؟ وما القيم والعلاقات ونمط الحياة الذي نرغبه؟
يمكننا القول إن ثقافة طوائف الحرف، في مدن مثل دمياط، لم تنته كليا، رغم انتهاء وتحلل تنظيمها الاجتماعي في المدينة القديمة. إذ يبدو أن المدن الإنتاجية العربية وريثة نظام العمل لأجيال متعاقبة، الذي تقوم العلاقات الإنتاجية فيه على العائلة والقرابة والتقاليد.
كما أن العلاقة في الورشة بين الأسطى والحرفي، ما زالت كعلاقة الأستاذ بالتلميذ، ولها أهمية اجتماعية، تنظّمها قيم دينية محافظة. أما العلاقات الإنتاجية، على أساس منطق السوق والتعاقدية، فتقتصر على أصحاب الورش، وتجّار مواد الإنتاج وأدوات العمل، كما تكون أيضا بين أصحاب الورشات وملّاك المعارض، الذين يشكّلون برجوازية تجارية، تتحكّم في الورش بشكل غير مباشر، باعتبارهم أصحاب المنافذ المهيمنة على التسويق.
وبالتالي فإن استمرار العلاقات الإنتاجية القائمة يعني الركود المديد، والعجز الفعلي عن المنافسة، أما تحطيم تلك العلاقات، في ظل سياسات الدولة الحالية، فيعني بكل بساطة موت المدينة. هل قدر المدينة الإنتاجية العربية الاختيار بين الركود والموت؟
ما يثير التساؤل في حالة دمياط: كيف تصبح صناعة الأثاث الحرفة المهيمنة على إنتاج المدينة، وتخضع العمالة الحرفية غير المنتظمة للظروف والمخاطر نفسها، ورغم ذلك لا توجد تنظيمات جادة للعمّال، وبالتالي لا يوجد أي تمرد؟ حتى ثورة يناير كانت ثورة “طبقة وسطى” حضرية، لا تقوم على طابع عمالي أو اجتماعي، مثل بقية الثورات السابقة.
يبدو أن التفسيرات المقتصرة على دراسة العلاقة بين ممارسات السلطة السياسية وتجريف الحياة العامة، على أهميتها، غير كافية لفهم ظاهرة موت المدينة المنتجة. وبالتالي فلابد من اللجوء إلى تفسيرات أخرى، ومنها التفسير الأنثربولوجي.
أنثربولوجيا المدينة: كيف انتهى “الحلم الدمياطي”؟
ينطلق الأنثروبولوجي الفرنسي ميشيل أجيي، في كتابه “أنثروبولوجيا المدينة”، من تعريف المفكر الفرنسي هنري لوفيفر، في مؤلفه “الحق في المدينة”، بأن “المدينة شيء افتراضي”، وصولا لملاحظة ديفيد هارفي بأن “الحق في المدينة مسألة لم تعد موجودة، أي أنها ذات دلالة فارغة. تحتاج لمعنى”، لذا يسعى أجيي لصياغة منهجية أنثربولوجية لفهم المدينة.
تفارق تلك المنهجية النظرة الكلاسيكية للسوسيولوجيا الحضرية، نحو أنثروبولوجيا للمدينة، تنطلق من الحياة المدينية المعاشة، أي من التفاصيل اليومية للأفراد، في وضعيات وسياقات حضرية ملموسة بشكل مباشر. كما تركّز على علاقة المركز والهامش، من خلال التعقيد والحركة والعلاقات المركبة للعيش في المدن.
على هذا النحو، تستعمل أنثروبوجيا أجيي مفهوم “التيه داخل المدينة”، دون أي نموذج قبلي ومسبق، أو مقارنة بمدينة قديمة أو حديثة. وإذا طبقنا هذا المنهج على دمياط، فسنجد أن الورشة هي اللبنة الأساسية للشوارع وتصميم المدينة، إذ لا يخلو شارع من ورشة أو متجر مرتبطين بصناعة الموبيليا، لدرجة أصبحت الأحياء والمناطق معروفة بتقسيم العمل الحرفي لأحد مراحل إنتاج الأثاث، فهذه منطقة تغلب عليها ورش النجارة الثقيلة، وتلك منطقة تسود بها ورش الدهانات “الاستورجي”.. وهكذا، وكأن كل منطقة تمثّل “مينافكتورة” مستقلة(6)،بخلاف الطبقة البرجوازية وأبنيتها، من معارض أثاث كبيرة، ذات معمار فخم، موجودة في شوارع المدينة الرئيسية ومداخلها.
أما طابع الثقافة الاجتماعية في مدينة بهذه المواصفات، فتسوده الأحادية، في قطيعة تاريخية مع التنوّع القديم، وذلك بسبب الفراغ، الذي أحدثه الدولة الحديثة في بنية المدن، وقضائها على كثير من المظاهر المدينيّة المستقلة، لذلك شغلت الجماعات الدينية ذلك الفراغ لعقود، خاصة في ظل تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي والثقافي، والذي اقتصر على القاهرة، ما عزّز الخطاب الديني السلفي، الرضوخي والتواكلي في العلاقة مع السلطة، ومنطق الرضا بالرزق، وبالتالي التخّلي عن الحق في الاحتجاج، وكذلك الحق في المدينة.
ومن زاوية دورة العمل، يتعلّم غالبية العمال الحرفة منذ نعومة أظافرهم، وتسير حياة العامل الحرفي اليومية فيما يشبه الطواف حول الورشة، التي قد تكون تحت المنزل أو بالقرب منه، ويعمل ما لا يقل عن 72 ساعة أسبوعيا، حيث تحتسب أجرته باليومية. كما تستوعب المهنة آلافا من خريجي التعليم العالي.
يعيش الحرفي على ما يمكن تسميته “الحلم الدمياطي”، أي السعي إلى فتح ورشته الخاصة في يوم من الأيام، حتى يتاح له مراكمة رأس المال، الذي قد ينقله طبقيا لمرتبة “تاجر موبيليا”. لكن التغيرات السياسية والاقتصادية، في فترة ما بعد الربيع العربي، جعلت الصناعة الحرفية ترزح تحت عاصفة التضخّم والتدهور الاقتصادي، فتسربّت رؤوس الأموال خارج نطاق الإنتاج. وتوسّع الاستثمار في الخدمات الاستهلاكية، من مولات ومحلات تجارية وكافيهات ومطاعم، واتسمت حركة رؤوس الأموال بالانتقال إلى مدن على الطراز الحديث، المميّز طبقيا، مثل رأس البر ودمياط الجديدة، لكن ذلك أتى على حساب البنية الإنتاجية الاجتماعية، إذ واجهت مئات الورش مصير الإغلاق، وركود الإنتاج، وترك العمالة الماهرة للحرفة، أو البحث عن عمل بالخارج، مما يقطع عنصر التوريث في الحرفة، وبالتالي يفكك طابع الإنتاج الاجتماعي.
من جهة أخرى، لا يوجد لدى المدينة صيغة تواجه بها هذه الأوضاع، فإذا نظرنا لدمياط من زاوية معمارية، تبدو أنها تقوم على ثنائية الورشة والمعرض، التي مثّلت المحدد الرئيسي للعلاقات الاجتماعية، فمع فائض الإنتاج، على مدار الأربعة عقود السابقة، تعمّقت العمارة بما يناسب الورشة/المعرض، كما اتسعت رقعة النمو المعماري العشوائي في الأطراف والضواحي، تبعا للتأسيس نفسه. ينعكس هذا أيضا على تشكيل “المساحات الفارغة”، أي الفسحات التي تتشكل من خلالها علاقات البناء والفراغ، التي تحدد ملامح المكان وهويته” (7)، وكل هذه العناصر المعمارية والمكانية لا تتيح مجالا لمقاومة فعلية للتغيّر الذي يضرب المدينة، فلا الورشة/المعرض قادرة على البقاء، ولا التحولات العمرانية والإنتاجية تؤسس لأنماط جديدة من الاجتماع والتواصل. هكذا لا تغيب الممارسة الديموقراطية والحق في المدينة على المستوى السياسي فقط، بل بدءا من العائلة، وصولا الشارع والعمارة والثقافة.
تواجه المدينة حالة الاحتضار والضياع، وتفقد طابعها المتشابك مع التكوين الاجتماعي، فتتعرّض لظاهرة “الأمكَنة”، حسب تعبير الأنثربولوجي الفرنسي مارك أوجيه، أي تحوّلها إلى أماكن معزولة، وفضاءات استهلاكية منفصلة، لا ترتبط بألفة ومعنى لدى المستهلكين. والمثال الأبرز لمفهوم “الأمكَنة” في دمياط كان مشروع “مدينة الأثاث”، المقام في منطقة معزولة خارج المدينة، والذي أقرت السلطة السياسية فشله، معترفة بأن أهالي المدينة لا يريدون ترك ورشاتهم، والانتقال إلى مدينة الأثاث، حتى لو كانت ورشات خاسرة. بذلك تتجه المدينة نحو الخراب والمجهول، وتشهد نهايتها بوصفها مدينة منتجة.
هكذا تبدو صياغة المدينة سيرورة لا نهائية، بحسب ميشيل أجيي، إلا أنها لا تتجه حتما نحو “التطوّر”، بل كثيرا ما تتجه نحو الاحتضار، الذي يبدأ كالعادة من مدن الأطراف، كما هي الحال في مدينة دمياط. “إننا أمام عوالم متقاطعة متفاعلة متداخلة، لا تتحدد طبقا لقوانين ثابتة، بل تنتج منطق اشتغالها بقدر تعقيدها” (8)، ويبدو أن التعقيد العربي قد أوصلنا لمرحلة موت المدينة، بناء على “منطق اشتغال”، عانى دائما من أزمات بنيوية، وبعيش بدورها على هوامش منظومة عالمية شديدة التأزّم.
المصادر:
- مجمل تاريخ دمياط، جمال الدين الشيال، هنداوي.
- تاريخ مصر الاجتماعي الاقتصادي، أحمد صادق سعد، دار ابن خلدون.
- تاريخ دمياط منذ أقدم العصور، نقولا يوسف.
- دمياط في التاريخ الحديث، راضي محمد جودة.
- تاريخ دمياط منذ أقدم العصور، نقولا يوسف.
- المانيفاكتورة: هي تنشأ بتجميع حرف مختلفة يؤدي كل منها جزءا من العمل، وهكذا تنقسم كامل العملية الى مكوناتها الجزئية.
- العمارة والسياسة، مأمون فندي، مدبولي.
- أنثروبولوجيا العوالم المعاصرة، مارك أوجيه.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.