لا يمكن الحديث عن التأييد، الذي يناله تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق، من كثير من أفراد الطائفة الشيعة، بدون الحديث عن استغلال الرموز المقدسة لدى الشيعة، وتوظيفها جيدا. ويمكن القول إن الإمام الحسين، وأباه الإمام علي بن أبي طالب، هما الأكثر تعرّضا للاستغلال في معادلة السيطرة السلطوية على المجتمع الشيعي. إذ ظهر لنا نواب، مثل هادي السلامي، يقولون إن تعديل القانون هو “طريق الحسين”؛ ثم ظهر شيوخ يتفوّهون بالحديث نفسه، يتقدمهم رشيد الحسيني، الذي هدد علانية مجلس النواب، لدفعه لإقرار التعديل، ثم وصف المدافعين عن القانون الحالي بـ”مجموعة فاسدين وفاسدات، لا دين لهم ولا قيمة”، لتتحول كلماته بعد ذلك إلى حديث متداول بين كثير من شيعة العراق، ممن يعتبرون أن عدم مذهبة القانون كبت لحرياتهم الدينية، ما أدى إلى تسفيه ووصم كل من يدافع عن القانون الحالي، ووصف النساء بالذات بـ”العاهرات” و”بنات السفارات”.
ليست هذه المرة الأولى، التي يُستخدم الحسين فيها سياسيا، إذ يمكن، وعلى مدى تاريخ الحكم الشيعي للعراق، تقسيم استعمالاته إلى ثلاثة: الاستعمال السياسي/الانتخابي؛ الاستعمال الاجتماعي؛ الاستعمال الذكوري. وباجتماع تلك الاستخدامات يمكن القول إن حكومة الإطار التنسيقي، الموالية لطهران، متوجهة إلى صناعة حرب طائفية أخرى، هذا إذ لم ينهر العراق اقتصاديا واجتماعيا في السنوات القادمة.
كيف نفهم تلك الاستعمالات الثلاثة؟ وكيف اُسْتُخْدِمَت في كل مرة؟ وهل هي طريقة ناجحة دائما؟
الحسين الانتخابي: كيف ساهم الرمز المقدس في الحرب الطائفية؟
“ماكو ولي إلا علي، ونريد قائد جعفري”، هذا شعار تصدّر واجهة قائمة “الائتلاف العراقي الموحّد”، الذي حصل على النصيب الأكبر من الأصوات في الانتخابات التشريعية عام 2005، برئاسة إبراهيم الجعفري، ليستلم الحكم بعد ذلك نوري المالكي، المعروف بطائفيته. دخل العراق عقب ذلك بحرب طائفية، استمرت سنتين، ليستعمل المالكي المحكمة الاتحادية، ويحتال على الحكم، ويأخذه من إياد علاوي، الفائز بانتخابات 2010، ويستمر حكمه سنوات، لتقوم ضده بعد ذلك عدة تظاهرات، جميعها قُمعت، وانتهى حكمه بضغط دولي، بعد احتلال داعش لأجزاء واسعة من العراق.
لقد استعمل المالكي الحسين وعلي، والرموز جميعهم، التي تعزز من شعور الشيعة بالاضطهاد، للاستمرار في حكمه، وبالفعل استمر لسنوات طويلة، حتى انتهى عام 2014، وبالرغم من أن القانون العراقي يمنع استخدام الحس الطائفي في الدعايات الانتخابية، إلا أن انتخابات عام 2018 كانت ساحة واسعة لظهورها، إذ استخدمت أحزاب عدة الخطاب الطائفي، لإشعال الهمة الشيعية، لانتخابها وفق المذهب. وعلى الرغم من استعمال الطائفية بصورة مكثّفة، إلا أن نتيجة الانتخابات العراقية جاءت لمصلحة قائمة “سائرون”، بقيادة مقتدى الصدر، بعد تبنيه الخطاب المعتدل، وتحالفه مع الحزب الشيوعي، ومجموعة تكنوقراط مدنيين، ونال 54 مقعدا من أصل 329.
لقد تبيّن، في انتخابات عام 2018، إن الخطابات الطائفية قد أصبحت منبوذة نوعا ما، بالنسبة لمجموعة من الشيعة، وذلك نتيجة الحروب التي تعرّض لها العراق (داعش والقاعدة)، وتوّجت هذه الفكرة في انتفاضة تشرين عام 2019, التي شملت العراقيين جميعهم، مما اضطر السلطة العراقية إلى إعادة استخدام الرموز الشيعية، لتحقيق الهيمنة الأيديولوجية بطرق أخرى.
الحسين الطائفي: لماذا أصبحت المناسبات الدينية طريقة للتحريض المذهبي؟
لن يكون للنعرات المذهبية تأثير كبير، لولا دورها في التحريض الطائفي بين السنة والشيعة، إذ تبرز الرغبة في مذهبه الدولة، بناء على تهديد، يُشَار إليه على نحو مستمر، بوجود عدو يتربص بالشيعة دائما.
للطائفية قدرة على صناعة الحواجز مع الآخر، وتكريسها، فلا تكفيها الحروب الأهلية، وإنما تحتاج إلى وقود مستمرة، وعمل دؤوب للحفاظ عليها. يبدأ الأمر لفظيا، ثم يلجأ للاستعارات التاريخية، لينتهي إلى بناء علاقة هرمية بين المذهبين، يكون الشيعة فيها هم حماة العرض، الذين لولاهم لما بقي شرف في العراق. وهذا يبدوا محاكاة لحكم حزب البعث، الذي جعل مناطق الجنوب ضحية حروبه، ولكن بشكل معكوس: ما يزال الجنوب ضحية، ولكن ليس لأنه مغلوب على أمره من السلطة، ولكن لأنه “حامي العرض”.
تستمر المهاترات بين أبناء المذهبين، الشيعة يقولون: “نحن من حمى عرض السنة”؛ بينما يقول السنة إن الشيعة لا يصلحون للحكم، يضاف إليها النظرة العنصرية للشيعة بوصفهم محدثي نعمة، أو “شروكية”. وقد بات هذا النوع من الخطاب الطائفي “عريقا” ومترسّخا في العراق، إلا أن الجديد هو تحوّل الأمر إلى ثقافة فنية. لقد صارت القصائد الشيعية والحسينية والأناشيد المذهبية حقل شتائم لرموز المذهب السني، فقد استُعملت المناسبات الخاصة بآل البيت، وخصوصا شهر محرم (الشهر الخاص بالحسين) إلى طريقة للتنفيس مذهبي، يخدم الطائفية، التي تحرص عليها شركات إنتاج تلك القصائد والأناشيد.
الحسين الذكوري: كيف أصبح المعارضون أبناء زنى؟
يوضح لنا الاستخدام المستمر لعبارات مثل “طريق الحسين” الأسلوب الذي يُستخدم فيه الرمز المقدس لقمع النساء. إذ تمنع الممارسات الدينية الحالية كثيرا من النساء من المشاركة بها، لأنهن لا يرتدين كما يرغب الحسين.
تهان النساء على أبواب المراقد من المسؤولات عن التفتيش، لأجل معايير الحسين، وتنتهك حقوق النساء بشكل فاضح، مثلما حدث في تعديل قانون الأحوال الشخصية، لأن السياسيين والنوّاب “يسيرون على طريق الحسين”؛ وتتعرّض النساء في كربلاء والنجف للتوبيخ والإهانة، لأنهن في مدينتي علي والحسين.
تُقمع النساء باسم الحسين إذن، ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ يشتمن أيضا من أجل الحسين، فالقصائد الشيعية مليئة بسب الأمهات، اللواتي لا يؤمن أبناؤهن بالإمامة، وتترد فيها جمل مثل “يتأكد من الجابته”، أي يجب على منكر الإمامة أن يتأكد من المرأة التي ولدته حول أبيه الحقيقي، لأن من لا يوالي الإمام علي هو ابن زنى. وعلى هذا المقياس يكون شرف النساء مرهونا بإيمان أولادهن، والإيمان هنا لا يأتي فقط من الاعتراف بالإمامة، بل بمماثلة الصورة الشيعية السائدة للفرد، فإذ كنت ترفض إحدى الشعائر الحسينية، أو لا تؤيد الحكومة الشيعية الموالية لإيران، أو تقف بالضد من قانون يهين المرأة، فأنت ابن زنى، وأمك عاهرة.
أزمة المذهب: ما عواقب الاستغلال السياسي للحسين؟
من العواقب الخطيرة لواقع الطائفة الشيعية، في زمن الإطار التنسيقي وهيمنة إيران، ضمور الأبعاد الروحية للمذهب، إذ يُعرف عن المذهب الشيعي أنه الأكثر اعتدالا بين المذاهب الأخرى، لكن في مقابل تضخُّم أبعاده السياسية والطائفية، سوف يكون بيئة طاردة للشيعة أنفسهم، إذ يزداد تعصبا وانغلاقا يوم بعد آخر، لينقلب أبناء المذهب أنفسهم عليه.
قد يكون هذا متوقعا عندما يتحوّل المذهب إلى سلطة، يُلبس الإمامين علي والحسين رداء الحاضر، ويعاملانهما بوصفهما فردين، لديهما مشاكل شخصية مع السنة أو مع النساء. عندما نكسر هالة المقدسين، ونسحب مواقفهم إلى الحيز السياسي الحاضر، سوف يجنّدون وفق أهواء السلطة، لتتحول مطالبتهم بإقامة العدل، قبل ألف وأربعمئة سنة، إلى مطالبة بفرض رداء معيّن على النساء، أو منع المكياج والاختلاط، أو الحقد على المذهب السني.
لا يمكن للحسين، أو لعلي، أن يكونا إطاريين، إذ إن “إطاريتهما” سوف تجعل قدسيتهما مهددة ومهانة، والجانب الروحي، الذي يقدسه كثير من الشيعة، سوف ينهار يوما بعد آخر، حتى نصبح نسخة إيران، التي لا تجد توجّه مذهبي فيها، إلا في حدود قم ومشهد، وربما سوف تكون النجف وكربلاء النسخة المستقبلية من هاتين المدينين، وخارجهما كثير من الناقمين، والمتمردين، والمجدّفين. إنه التناقض المركزي في الإسلام السياسي: كلما استخدمت الدين أكثر، واستفدت منه، كلما قلّلت من قداسته، وجعلته هدفا لنقمة سياسية واجتماعية. إلى أن تخسر الدين والسياسة معا.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
مقال واقعي وصادق وتحليل مدروس، ذهن ذكي يلتقط العقد ويفككها.