مسخ الغولم 2: ما معالم طريق الإسلام السياسي نحو السابع من أكتوبر؟

مسخ الغولم 2: ما معالم طريق الإسلام السياسي نحو السابع من أكتوبر؟

في برقية مؤرخة بتاريخ 13 حزيران/يونيو 2007، تعجّب السفير الأمريكي ريتشارد جونز Richard Jones من رفض رئيس الأمن الإسرائيلي يوفال ديسكين Yuval Diskin لاقتراح أمريكي يقضي بدعم حركة فتح بالأسلحة، لمواجهة قوات حماس في غزة.

في ذلك الوقت، كانت التوترات بين حماس وفتح قد وصلت ذروتها، فقد استطاعت حماس الفوز على فتح في الانتخابات التشريعية في كانون الثاني/يناير 2006، وقامت بتشكيل حكومة جديدة برئاسة إسماعيل هنية، ثم انفجرت المواجهات المسلّحة بين الطرفين، عندما قررت حماس فرض سيطرتها الأمنية على قطاع غزة تحديدا، وطرد قوات الأمن التابعة لحركة فتح، مما أنذر بحرب أهلية في القطاع.

التقى السفير الأميركي وقتها مع رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي عاموس يدلين Amos Yadlin وقال السفير، في برقية إلى واشنطن، تعقيبا على اللقاء: “عاموس راضٍ تماما عن سيطرة حماس على قطاع غزة“.

وعلى عكس المتوقع، تفاجأ السفير من هدوء عاموس الشديد، في ظل نجاح سيطرة حماس العسكرية على القطاع، وقد فسّر الأمر للسفير بالقول: “الجيش الإسرائيلي قادر الآن على التعامل مع غزة باعتبارها أرضا معادية“.

لم يكن الأمر مجرد دردشة سرية. بعد أسابيع قليلة من ذلك اللقاء، قررت الحكومة الإسرائيلية بشكل رسمي التعامل مع غزة باعتبارها أرضا معادية، وبدأت سنوات الحرب والحصار على القطاع، نتيجة للمواجهات بين إسرائيل وحماس.

تُعدُّ العلاقة بين إسرائيل وحركة حماس من أعقد العلاقات في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومليئة بالفصول الغامضة والأحداث المحيّرة، وبداية تلك العلاقة تعود بنا إلى فرع جماعة الإخوان المسلمين في غزة، الذي ظل لفترة طويلة يتحرّك تحت مسميات مختلفة، حتى وصل إلى تسميته الحالية: حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

وقد أدى هذا التغيير المتكرر لأسماء الحركة إلى حجب كثير من تاريخ إخوان غزة القديم، المتصل بشكل مباشر بظهور حماس في الثمانينات.

إن الغوص في تفاصيل العلاقة التاريخية بين حماس وإسرائيل لا ينحصر فقط في محاولات فهم ماضي القضية الفلسطينية، فمن خلال تتبّع تلك العلاقة، نكتشف أيضا أبعادا هامة للحدث الأبرز في واقع الشرق الأوسط الحالي: السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

صورة لاقتحام قوات حماس للمكتب الرئاسي في غزة – 15 حزيران/يونيو 2007

عرضنا في المقالة السابقة، التناقضات الكامنة في الروايات المتداولة حول تاريخ حماس، فليست الحركة هي أصل وقلب المقاومة الفلسطينية، وأيضا لا يمكن وصفها ببساطة أنها صناعة إسرائيلية، لكن يظل السؤال مطروحا: كيف يمكن وصف تاريخ الحركة بداية من ظهور إخوان غزة، وصولا لحادث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، خصوصا في علاقتها مع الاحتلال الإسرائيلي؟ وهل تشعّبت تلك العلاقة إلى أبعاد أخرى؟

لا مقاومة ولا حتى مقاطعة: كيف أسَّسَ الشيخ القعيد حركة حماس؟

عندما اقتحم الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة لأول مرة عام 1956، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، كانت جماعة إخوان غزة هي القوة السياسية الأكبر على الأرض، بلا منازع.

وكما ذكرنا في المقالة السابقة، كان رفض القيادة الإخوانية لأي تنسيق وطني مع باقي الحركات السياسية الأخرى سببا في تمرد عدد كبير من أعضاء الجماعة البارزين، ضد التوجه الإسلامي للحركة، ثم تشكّلت حركة فتح في المنفى عام 1959 على يد المنشقين (خليل الوزير وياسر عرفات)، بوصفها حركة مقاومة وطنية مسلّحة.

استمر الاحتلال الإسرائيلي للقطاع ستة أشهر فقط، وعاد بعدها للإدارة المصرية الناصرية، ونتيجة لانشقاق الكثير من كوادر الإخوان، مرت الحركة بأصعب مراحلها، وركزت الجماعة فقط على إيجاد الطرق المناسبة للبقاء داخل غزة، في ظل المراقبة الشديدة من الأمن المصري.

كانت الإدارة المصرية الفاعل الرئيسي داخل القطاع، في الفترة ما بين العدوان الثلاثي (1956) وحرب النكسة (1967)، وكان الشاغل الرئيسي لجمال عبد الناصر وقتها خلق منظمة تمثّل الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية.

في البداية، شعر ناصر بتوجس كبير من عرفات ومجموعة فتح، لخلفيتهم الإخوانية، لذلك ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية بمبادرة مصرية في عام 1964، بوصفها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، لحشد وتجنيد الفلسطينيين في القطاع، تجنّبا لخطف أي حركة للقضية الفلسطينية.

اتخذ إخوان غزة موقفا سلبيا من المنظمة، والتف أعضاء الجماعة وقتها حول الخطيب والداعية الشاب أحمد إسماعيل، وهو مدرس قعيد على كرسي متحرك، اشتهر بخطبه الدينية فقط، واستطاع جذب المزيد من الأتباع في منتصف الستينات، حتى وصف بينهم بلقب “الشيخ ياسين”.

وفي عام 1965، قاد عبد الناصر حملة جديدة على الإخوان في مصر، نتيجة لكشف النظام لـ”التنظيم السري” بقيادة سيد قطب، فامتدت الحملة إلى غزة أيضا، وهربت أغلب قيادات الجماعة وقتها إلى الخليج، واعتقل الشيخ ياسين. بعد مرور شهر، أطلق سراح الشيخ، لاقتصار خطبه على الدعوة الدينية فقط، ورغم صغر سنه، صعد الشيخ سريعا لمركز القيادة الإخوانية، وأصبح مسؤولا وحده عما تبقى منها، نتيجة اعتقال وهروب أغلب القيادات.

كان الاختفاء الكامل لجماعة الإخوان في غزة مسألة وقت، فقد انخفض عدد أعضائها إلى حوالي 49 عضوا مع نهاية الستينات، لكن الهجوم الجوي الإسرائيلي على مصر في 5 حزيران/يونيو 1967، والذي أعقبه غزو بري للقطاع وسيناء المصرية، قلب معادلة القوى السياسية في غزة للأبد.

مع بداية حرب النكسة، كانت أغلب الحركات الوطنية في القطاع خاضعة للسيطرة المصرية، فأولا هناك حركة “القوميين العرب” بزعامة جورج حبش، المدعومة من المخابرات المصرية؛ وثانيا هناك القوة المسلحة لمنظمة التحرير الفلسطينية (جيش التحرير)، وهي في الأساس فرق عسكرية فلسطينية مدمجة في الجيش المصري؛ وبالنسبة لحركة فتح، فكانت بلا تواجد حقيقي في القطاع، واختار عرفات توجيه عمليات الحركة لجبهة الضفة الغربية المحتلة، عن طريق الحدود الأردنية والسورية.

وقد تعلّمت الفصائل الفلسطينية في غزة من درس العدوان الثلاثي، فلم تختر الانسحاب إلى القاهرة، أثناء غزو القوات الإسرائيلية، وتمركزت كل الوحدات والحركات في أماكنها، ونتيجة لغياب التوجيه المصري، اكتسبت تلك الحركات لأول مرة نوعا من الاستقلال.

وبشكل سري، تشكّل سريعا بين كل تلك الحركات تحالف واسع لمواجهة المحتل بشكل منسق، والتف الجميع، بمن فيهم الشيوعيون والبعثيون، حول شخصية معروفة بوطنيتها، وهي حيدر عبد الشافي، من مؤسسي منظمة التحرير، وأصبح واضحا لجميع الأطراف ضرورة مشاركة جماعة الإخوان أيضا في التنسيق، ولو على الأقل من خلال دعوات المقاطعة السلمية. 

وذهب مبعوث التحالف للقاء الشيخ ياسين بهدف الاتفاق، ولم يتوقع أحد بأي شكل رد الشيخ: لقد رفض ياسين مشاركة الإخوان في التحالف رفضا قاطعا، حتى على مستوى مقاطعة التعامل مع الاحتلال. لا تحالف ولا مقاومة ولا مقاطعة، والأكثر إثارة لذهول تحالف المقاومة، كان تأييد قيادة الإخوان لقرار الشيخ.

وبدلا من كل ذلك، تحوّلت خطب الشيخ الدينية إلى هجوم سياسي لاذع على النظام المصري، وحكم عبد الناصر، الذي وصفه ياسين بالفرعون والطاغية، في فترة “احتلاله” للقطاع.

في الوقت نفسه، كلّف جيش الاحتلال الجنرال شارون بمهمة تفكيك شبكة المقاومة في القطاع، وكلما أحرز الاحتلال نجاحا في تفكيك تحالف المقاومة، أعادت تشكيل نفسها مرة أخرى، فقرر شارون تنفيذ سياسة التهجير القسري لحوالي 38 ألف لاجئ من المخيمات، مع تثبيت دوريات لتضييق الخناق على مناورات المقاومة، وبحلول عام 1972، فرضت إسرائيل سيطرتها التامة على القطاع، بعد مقتل رمز المقاومة وقتها: محمد الأسود، المشهور بـ”غيفارا غزة“.

محمد الأسود (جيفارا غزة) قبيل اغتياله عام 1972

وبينما كانت دماء المقاومة الوطنية تنزف تحت قبضة الاحتلال، نجت جماعة الإخوان في القطاع من كل عمليات القمع والتهجير والاعتقال، بل استطاع الشيخ ياسين استعادة شبكة الجماعة مجددا، نتيجة لرفضه المشاركة في المقاومة والمقاطعة، فتحوّلت تلك الشبكة تحت إشراف الاحتلال إلى كيان أقوى، تحت مسمى “المجمع الإسلامي” في عام 1973

وفي 7 أيلول/سبتمبر من العام نفسه، حضر الحاكم الإسرائيلي شموئيل غونين افتتاح المجمع الإسلامي، الذي أقيم في مسجد “جورة الشمس”، ويرتبط ذلك الحضور الملغّز بتصريح العميد الإسرائيلي إسحق سيجيف، بتاريخ آذار/مارس 1981، لرئيس مكتب جريدة “نيويورك تايمز” في القدس: “تلقى الإسلاميون المساعدات الإسرائيلية. لقد أعطتني الحكومة الإسرائيلية ميزانية لذلك، وتُستخدم تلك الأموال في تمويل المساجد والمدارس الدينية، بهدف تعزيز القوة الإسلامية، لتعارض منظمة التحرير الفلسطينية“.

لقد حافظ إسحق سيجيف، صاحب التصريح، على اتصالات دائمة مع الشيخ ياسين، والتقى به حوالي اثنتي عشرة مرة، ورتّب لنقله إلى إسرائيل لتلقي العلاج، وما صرّح به عن الدعم المالي والتسهيل الأمني، تجلى في حقيقة ارتفاع عدد المساجد في القطاع تحت حكم الاحتلال، من سبعين مسجدا في عام 1967 إلى مائة وخمسين مسجدا مع بداية الثمانينات.

ليس هذا فحسب، لقد تشكّلت هيئة سياسية داخل المجمع الإسلامي، ستعرف لاحقا بـ”مجلس الشورى لحركة حماس”، مكوّنة من سبعة أعضاء، يمثلون مناطق القطاع الخمس، أي أنها تحوّلت تدريجيا لهيئة سياسية. ووسعت الجماعة نشاطها من خلال تدشين الجمعية الإسلامية على يد خليل القوقا، الذراع الأيمن للشيخ ياسين، والتي مُنحت ترخيصا رسميا من الإدارة الإسرائيلية في عام 1976.

لقد كان الغرض الأساسي من تدشين الجمعية الإسلامية، مواجهة آخر منافس حقيقي في القطاع للجماعة: جمعية الهلال الأحمر، التي أسسها حيدر عبد الشافي، الزعيم الأبرز للمقاومة بعد النكسة، وقد حولها فيما بعد لمعقل للوطنية الفلسطينية. وعقب فوز عبد الشافي برئاسة الجمعية مرة أخرى في نهاية السبعينات، حرك الشيخ ياسين مظاهرات حاشدة ضد “معقل الشيوعيين”.

ومع تصاعد الهتافات الإسلامية، هاجم المتظاهرون الجمعية، ونهبوا مكاتبها، ثم تحولت التظاهرة لهجوم أكبر على المقاهي والسينمات في وسط غزة، على مرأى ومسمع من القوات الإسرائيلية.

وبدأت حملة ممنهجة داخل القطاع من المجمع الإسلامي، معقل الإخوان، لمهاجمة أي خصوم سياسيين، تحت وصف “الشيوعيين”، ثم تطور الأمر لهجوم ضد مؤيدي حركة فتح، في الوقت نفسه الذي كانت قوات الاحتلال تطارد عناصر فتح، وعلى رأسهم ياسر عرفات، في بيروت.

ويمكن أن نلاحظ ذروة تلك العلاقة الغامضة بين الإدارة الإسرائيلية للقطاع وإخوان غزة، من خلال الاعتراف الإسرائيلي الرسمي بالمجمع الإسلامي في سبتمبر 1979، بعد فوز اليمين الإسرائيلي (حزب الليكود)، وهو الحزب الذي يقود السياسة الإسرائيلية حتى يومنا هذا، ومع نهاية الثمانينات، سيتحول المجمع الإسلامي، بكوادره وفروعه المختلفة، إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

وقد اكتملت لحظة التمكين النهائية، من خلال السيطرة الإخوانية الكاملة على المؤسسة العلمية الوحيدة في قطاع غزة، المختصة بالتعليم العالي (الجامعة الإسلامية)، بعد منافسة طويلة مع حركة فتح.

المعادلة السياسية بين إخوان غزة، الذين يسعون لأسلمة القطاع، وبين الإدارة الإسرائيلية الداعمة لهم، يشبه صعود حركات “الصحوة الإسلامية” في معظم بلدان الشرق الأوسط، بدعم بعض الأنظمة العربية، لضرب القوى المدنية. وفي ظل ذلك الظرف برز طرف غير متوقع في القطاع، ليهدد معادلة التوازن بين الطرفين الإسرائيلي والإخواني: حركة الجهاد الإسلامي.

الانفجار الشعبي وضغط “الجهاد الإسلامي”: كيف تعثرت صفقة “الصحوة الإسلامية” في القطاع؟

في نهاية السبعينات، تجمّع عدد من الطلاب الفلسطينيين المتواجدين للدراسة في مصر، وأعلنوا تمردهم على سياسة إخوان غزة الرافضة للمقاومة، وكان على رأسهم القيادي الإخواني فتحي الشقاقي، القادم من غزة لدراسة الطب في مصر (1974) 

تأثرت المجموعة بالفكر الجهادي، المنتشر وقتها في الجامعات المصرية، وطوّرت من خلاله موقفا راديكاليا معاكسا لما رأته من تقزيم التيار الإسلامي، خصوصا إخوان غزة، للقضية الفلسطينية، وعلى هذا الأساس أعلنت موقفا راديكاليا مسلحا يهدف لتصفية إسرائيل، وإقامة حكم إسلامي شامل في فلسطين.

وبعيدا عن تلك الأحلام النظرية في عقل المجموعة، عجز الطلاب المنشقون عن التنفيذ، لافتقارهم عمليا لنموذج قيادي في الوسط الإسلامي، ولغياب أي مصدر لدعمهم ماديا، وظل الأمر محض رغبات في نفوس المجموعة حتى نجاح ثورة إيران الإسلامية في 1979.

وجد فتحي الشقاقي في ثورة الخميني ما ينقص الحركة، فدعا لاتخاذها نموذجا، وقد ألف كتابا بعنوان “الخميني.. الحل الإسلامي والبديل”، نشره باسم “فتحي عبد العزيز”، واعتقل في مصر لمدة أربع أشهر (أيلول/سبتمبر 1979) نتيجة لانتشار الكتاب، وستساهم تلك الخطوة لاحقا في تلقي حركة الجهاد دعما إيرانيا كبيرا.

هرب الشقاقي سرا مع مجموعته إلى غزة بعد الإفراج عنه، وعند وصوله تم بناء القاعدة الأولى لحركة الجهاد الإسلامي (جناح سرايا القدس)، وبدأت الدعوة للجهاد في عام 1982، وشارك الشقاقي في عمليات نقل الأسلحة للقطاع، فاعتقلته قوات الاحتلال بعد وصوله بعامين.

كان موقف حركة الجهاد تحديا مباشرا لسياسة إخوان غزة، المتعاونة مع إدارة الاحتلال للقطاع، ومع زيادة تحركات الجهاد الإسلامي ضد إسرائيل، زادت الدوريات التفتيشية لجيش الاحتلال، حتى عثرت في يونيو 1984 على أسلحة مخبأة في مسجد الشيخ ياسين، فحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاما.

لم ينفّذ الحكم فعليا على الشيخ، وبعد مرور عام واحد تم إطلاق سراحه، في صفقة تبادل مع جبهة التحرير الفلسطينية (فصيل يساري)، ربما لأن التحقيقات الإسرائيلية قد كشفت استعمال الإخوان للأسلحة المُكتشفة بغرض ترهيب الفصائل الفلسطينية فقط. وخلال تلك السنة، استغلّ إخوان غزة فترة سجن الشيخ، لتطهير ماضي الجماعة بخصوص تعاونهم مع الاحتلال، أمام تصاعد شعبية حركة الجهاد الجديدة، فتضخّمت شهرة الشيخ خارج فلسطين، اعتمادا على شبكة الإخوان الواسعة في العالم الإسلامي.

وعلى عكس المتوقع بعد الإفراج عن الشيخ (1985) تمسّكت قيادات الإخوان مجددا بالسياسة الرافضة لمواجهة الاحتلال، وفي ظل تغاضي الإدارة الإسرائيلية عن امتلاك الجماعة للأسلحة، قرر الشيخ ياسين تأسيس أول ذراع مسلح للجماعة، المعروف بـ”جهاز الأمن والدعوة” (مجد)، وكانت الفكرة من اقتراح القيادي الشاب يحيى السنوار.

لقد كان تأسيس جهاز “مجد” الأمني حلا ذكيا لبقاء الجماعة، نتيجة للتحدي القوي من حركة الجهاد، فعلى عكس باقي الفصائل المسلحة، التي يمكن مهاجمتها ببساطة، بوصفها علمانية أو شيوعية، كانت الجهاد حركة إسلامية قادرة على استقطاب العناصر بسهولة من صفوف الإخوان، في ظل سيطرة الخطاب الإسلامي، الذي فرضته الجماعة بمساعدة الاحتلال لأكثر من عشرين سنة، لذلك اختار الجهاز الأمني للحركة استعمال العنف والقوة في شوارع غزة، لفرض نمط الحياة الإسلامية (الحجاب، منع الموسيقى والسينما، حرق الكتب، قمع المعارضة بحجة الخيانة) وهي الظاهرة التي وصفها بعض النشطاء الفلسطينيين بتحويل غزة إلى “طالبان جديدة”.

وهكذا، كان أول فرع مسلح لجماعة الإخوان في غزة (مجد 1985) موجّها للداخل الفلسطيني، وليس للمحتل الإسرائيلي، ولو تعمقنا في تلك التحولات، لاكتشفنا تطابقها مع ظاهرة “الصحوة الإسلامية” في البلدان العربية في الفترة نفسها: فأولا تقارب مع السلطة، بغرض القضاء على القوى العلمانية، سواء كانت معتدلة أو راديكالية؛ ثم توجيه العنف للشارع، بغرض فرض أفكار الإسلام السياسي الاجتماعية. والمثير للانتباه هنا ما نراه من أسبقية حالة غزة (المعادلة الإسرائيلية-الإخوانية في نهاية الستينات) على أشهر حالات الصحوة الإسلامية: مصر والأردن في السبعينات.

فلسطينيون يصلون في موقع مسجد دمر في مدينة غزة أثناء الحرب على القطاع

وفي ظل تلك المعادلة السياسية المعقدة في القطاع، بين الإخوان وإدارة الاحتلال، استطاعت حركة الجهاد قتل قائد الشرطة الإسرائيلية في غزة، في آب/أغسطس 1987، وبعد العملية بشهر واحد اصطدمت شاحنة إسرائيلية بسيارة مدنية في مخيم جباليا شمالي غزة، مما أسفر عن مقتل أربعة عمال فلسطينيين، ونتيجة لذلك تصاعد في المخيم غضب شعبي، متهما الطرف الإسرائيلي بتدبير الحادثة، بوصفها رد فعل متعمد على مقتل قائد الشرطة.

تصاعدت الاحتجاجات الشعبية في غزة والضفة الغربية، التي شملت أشكالا متنوعة من المقاومة المدنية: إضرابات عامة؛ ومقاطعة للمؤسسات والمستوطنات الإسرائيلية اقتصاديا؛ ومظاهرات واسعة؛ إضافة إلى عصيان مدني شامل، ولأول مرة انفجر الشارع الفلسطيني، خارجا على حسابات كل أطراف المعادلة السياسية الفلسطينية، وكانت تلك البداية لما سيُعرف بالانتفاضة الأولى.

كانت الانتفاضة (9 كانون الأول/ديسمبر 1987) مفاجأة للقوى السياسية الفلسطينية، سواء الطرف الإسلامي في الداخل، أو منظمة التحرير في الخارج، فقد غاب عن كل الأطراف، في ظل كل تلك الصراعات والحسابات، حياة الأفراد غير الآدمية في القطاع خصوصا، ولذلك كانت تلك الحادثة تجاه العمال، وما أعقبها من عصيان، نوعا من الاحتجاج على إدخال أفراد الشعب طرفا في ذلك الصراع السياسي.

اضطربت القيادة الإخوانية في الشهور الأولى للانتفاضة، ما بين التمسّك بالنهج القديم، الرافض لأي عمل مقاوم للاحتلال، وما بين المشاركة، وقد حسم الشيخ ياسين الأمر بالمشاركة، وبعد مرور ثمانية أشهر على الانتفاضة، تم اعتماد الميثاق الأول لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).

ونستطيع أن نصف نهج الميثاق بأنه نسخة طبق الأصل من عقيدة حركة الجهاد المنشقة، وهو يتناقض بشكل كلي مع مسار الجماعة الطويل في القضية الفلسطينية. والأكثر دلالة في ذلك التحول، هو التوقيت.

لقد رفض الميثاق سياسة المفاوضات بأي شكل، رغم تعاون الجماعة الطويل مع المحتل، ورفضها لاتجاه المقاومة الوطنية، ويأتي الرفض في الوقت نفسه، الذي مالت فيه منظمة التحرير للتفاوض، لأجل توحيد الصف الوطني، في اتجاه ولادة الدولة الفلسطينية، على حدود أراضي 67 (الضفة والقطاع).

أثناء وبعد الانتفاضة، وجدت الجماعة نفسها بلا مكسب سياسي حقيقي من تعاونها الطويل مع المحتل، فقد خط عدوها اللدود (منظمة التحرير) أولى الخطوات في الطريق الشرعي لحكم الأراضي الفلسطينية، بما فيها غزة، وعلى هذا الأساس اقتربت الجماعة من نهج حركة الجهاد، لإفساد العملية السياسية في بداية التسعينات، المفضية لحل الدولتين. 

ولم تكن الجماعة في الأساس رافضة لفكرة حل الدولتين، فهي لا تتعارض مع فكرة المشروع الإسلامي للإخوان، لكنها رفضت أي حل سياسي يسحب سلطة القطاع من بين يديها. وتنكشف تلك الحقيقة، بعد مرور خمسة عشر عاما على صدور الميثاق، عندما فازت حماس بالانتخابات التشريعية على فتح (2006)، فقد مالت أكبر قيادات حماس (إسماعيل هنية وخالد مشعل) لقبول حل الدولتين بصيغ ملتوية.

فمثلا، في أعقاب فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، أرسل إسماعيل هنية، رئيس الوزراء المنتخب حديثا، رسالة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش، طلب فيها الاعتراف بالحركة، وعرض هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، وإقامة دولة فلسطينية على حدود 67. ولكن رسالته، مثلها مثل رسالة مماثلة أرسلها إلى السلطات الإسرائيلية، ظلت بلا إجابة.

وفي أيار/مايو 2017 ، أعلن خالد مشعل عن ميثاق جديد للحركة، يقبل فعليا بفكرة حل الدولتين.

وكل الفارق بين لحظة الميثاق الأول وبين تلك المواقف اللاحقة هو اقتراب الجماعة من الاستيلاء على السلطة بشكل شرعي.

الدور الإيراني المبكر وسياسة نتنياهو: كيف وصلنا إلى السابع من أكتوبر؟

لقد استطاع الاحتلال توظيف جماعة الإخوان لسنوات طويلة في القطاع ضد قوى المقاومة الوطنية، لكن، هل تنتهي تلك العلاقة فعلا بظهور ميثاق حماس؟

يعود بنا ذلك السؤال إلى حدث هام، لكنه غائب عن البعض في خضم أحداث الانتفاضة، رغم أنه حاسم في تشكيل مستقبل الحركات الإسلامية في غزة.

في آب/أغسطس 1988، انتهجت الإدارة الإسرائيلية أسلوبا جديدا مع قيادات الحركة الإسلامية في القطاع، وهو النفي خارج فلسطين، فأولا قامت بنفي فتحي الشقاقي، زعيم حركة الجهاد، وبعد شهور قليلة قامت بنفي عدد من نشطاء حركة حماس (من ضمنهم إسماعيل هنية ومحمود الزهار).

والغريب هنا هو اختيار إسرائيل لمنطقة جنوب لبنان موقعا لنفي كل تلك الأسماء، إذ ساهمت عملية النفي في إقامة قنوات الاتصال بين تلك القيادات الإسلامية (حركتي الجهاد وحماس) وبين الطرف الإيراني، وذراعه حزب الله.

وبعيدا عن سر ملابسات الحدث، فإن نتائجه أكثر أهمية:

أولا، استطاع الشقاقي في لبنان التمهيد للقاء الخميني في طهران، وبعد وقت قصير التقى الطرفان، وحدثت نقلة نوعية في الدعم المادي لحركة الجهاد، إذ بلغ دعم الحرس الثوري الإيراني لحركة الجهاد حوالي 70 مليون دولار سنويا، بداية من التسعينات.

ثانيا، تطورت الاتصالات لأول مرة بين حركة حماس وبين الطرف الإيراني، وقامت علاقة وثيقة مع حزب الله تحديديا، وتكفّلت إيران بحوالي 10% من ميزانية حماس، وتصاعد الدعم حتى وصل في نهاية التسعينات لحوالي 30 مليون دولار.

والأكثر أهمية، هو تلقي المنفيين للتدريب العسكري على يد قوات الحرس الثوري الإيراني، وقوات حزب الله، مما ساهم في تطوير إمكانيات حماس والجهاد، في القدرات الصاروخية لاحقا، وتكتيك حرب العصابات.

مؤسس حركة حماس الشيخ ياسين يلتقي المرشد الأعلى الإيراني آية الله خامنئي في طهران عام 1998

في الوهلة الأولى، تعطي الأرقام انطباعا بقوة الدعم الإيراني لحركات المقاومة، لكنه في الحقيقة دعم مشروط بالمشروع الإيراني في المنطقة، إذ لم تقدّم إيران الدعم المادي للكيانات السياسية نفسها، ولكنها ربطت الدعم بالأذرع العسكرية الداخلية مباشرةً، مما خلق حالة من التنافس بين حركتي حماس والجهاد على تلقي الدعم، إضافة لظهور منافسات داخلية في كل حركة.

وكانت تلك الإستراتيجية مرتبطة بتأييد سياسات إيران في المنطقة (الموقف من الثورة السورية مثلا، أو حرب اليمن، أو الصراع مع الخليج العربي) وليس القضية الفلسطينية في حد ذاتها.

فمثلا عندما اختارت حركة الجهاد اتخاذ موقف محايد من تدخّل المملكة السعودية في اليمن (آذار/مارس 2015) منعت إيران دعمها المادي، بعد توقعها إدانة الحركة للتدخل السعودي، ودعمت فصيلا محددا داخلها، مؤيدا لسياستها (حركة الصابرين/ حصن) مما سبب أزمة مالية حادة في حركة الجهاد الأم.

وأثناء اندلاع الثورة السورية، ظهرت السياسة الإيرانية نفسها تجاه حماس، فقد رفضت الهيئة السياسية لحماس دعم حكومة بشار الأسد، ونتيجة لذلك قطعت إيران (حليفة الأسد) التمويل عن الحركة، وأمر حزب الله أعضاء حماس بالخروج من لبنان، بعد إغلاق مكتبها السياسي في دمشق.

ولولا تدخل الرئيس الأمريكي أوباما في نهاية 2011، لظلت قيادات الحركة هائمة في الشرق الاوسط بلا مكتب سياسي ثابت، فقد طلب شخصيا من قطر توفير قاعدة لحماس، لتسهيل التواصل مع الحركة.

من ناحية أخرى، عززت إيران من تواصلها مع الجناح المسلح للحركة (كتائب القسام) الذي أصبح شبه مستقل عن القيادة السياسية، منذ ظهور يحيى السنوار على الساحة في 2011.

لقد تكرر مديح سنوار لإيران إعلاميا، على الرغم من توتر علاقتها مع القيادات السياسية لحماس، فمثلا في حوار أجراه مع قناة “الميادين” في مايو/أيار 2018 وصف التنسيق المشترك بين كتائب الحركة وحزب الله بـ”شبه اليومي”، وأكد أن الحرس الثوري الإيراني “لم يقصّر في دعم الحركة”.

ويتجلى الانقسام داخل حماس، نتيجة لسياسة الدعم الإيراني المشروطة، في انتقاد أفراد من داخل الجماعة، مثل عزام تميمي، لتصريحات السنوار، التي وصفها بـ”سوء الأداء” و”غير الموفقة”. وفي ظل ذلك التوتر، ظهرت بعض الأصوات الغاضبة من داخل الهيئة السياسية، فقد سبق لعضو المكتب السياسي موسى أبو مرزوق أن هاجم طهران في تسريب صوتي مسجّل، ووصف دعمها للمقاومة بالكذب، قبل أن يغير موقفه، ويعبر بخلاف ذلك.

ومن ناحية أخرى، نجد مديحا للدعم الإيراني من عدة شخصيات إلى جانب السنوار، من أمثال محمود الزهار، ومحمد الضيف، وأبو عبيدة، أي الشخصيات صاحبة الدور الأكبر في عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

لقد قلصت إيران فعليا من دعمها لحركة حماس، ووجهت دعما محدودا للجناح العسكري، أي أنها تعاملت مع حماس بوصفها ميليشيا تابعة، وليس حزبا سياسيا، مسؤولا عن القطاع اقتصاديا وسياسيا، وفي ظل انخفاض الدعم القديم من الخليج، وغياب الدعم السوري والمصري، يصبح السؤال المطروح: من أين أتى الفائض المادي لدعم عملية السابع من أكتوبر؟

في 11 آذار/مارس 2019، عقد أعضاء حزب الليكود اجتماعا لمساءلة رئيس الحزب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن سر تمسّكه بتحويل الأموال من قطر إلى حركة حماس في القطاع (أكثر من 1.8 مليار دولار) وكان رد نتنياهو، الذي شهد عليه مئة عضو من حزبه، وأنكره لاحقا: “إن تحويل الأموال جزء من استراتيجية شق الصف الفلسطيني… كل من يعارض إقامة دولة فلسطينية لابد أن يدعم تحويل الأموال إلى حماس“.

لم تبدأ سياسة نتنياهو لإحباط تحقيق الدولة الفلسطينية عن طريق دعم حماس في القطاع مؤخرا، فمنذ منتصف التسعينات، شكلت تلك المناورة جوهر أسلوبه السياسي، لإحباط مسار التفاوض لتنفيذ حل الدولتين.

فخلال زيارة قام بها رئيس الوزراء التركي مسعود يلماز إلى إسرائيل في عام 1998، اقترح نتنياهو على تركيا دعم حماس. وقد صرّح قائلا للمسؤول التركي: “لدى حماس حسابات مصرفية في البنوك، ونحن ندعمهم ماديا، ويمكن لتركيا المشاركة في ذلك

كانت خطة نتنياهو جزءا من استراتيجية قديمة للقضاء على حل الدولتين، من خلال حصار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وإضعافها، في ظل تعزيز قوة حماس، وإظهار الأمر للجمهور الإسرائيلي والحكومات الغربية على أن إسرائيل ليس لديها شريك للسلام.

وقد لخص رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت جوهر تلك السياسة في مقابلة مع صحيفة Politico الأمريكية قائلا: “لقد بذلت إسرائيل قصارى جهدها، على مدار السنوات الخمسة عشرة الماضية، لتعزيز حماس، وكانت غزة على وشك الانهيار تحت حكم الحركة في العقد الأخير، لأنهم كانوا بلا موارد ولا أموال، ورفضت السلطة الفلسطينية في الضفة دعم حماس. ثم أنقذهم نتنياهو، وأبرم صفقة مع قطر، وبدأوا في نقل ملايين الدولارات إلى غزة“.

ولولا عملية الإنقاذ المالية من نتنياهو لم يكن باستطاعة السنوار إطلاق “طوفان الأقصى”، وهو ما ذهب إليه فعلا مسؤولو الاستخبارات الإسرائيلية: تلك الأموال لعبت دورا حاسما في تنفيذ حماس لعملية السابع من أكتوبر.

المصادر

1- (Israel-Hamas War: Iran’s Role and Comments) – The Iran Primer project   (October 2023)

2- Meir Litvak,The Islamization of the Palestinian-Israeli Conflict: The Case of Hamas, Middle Eastern Studies, (1998)

3- The Origins of Hamas: Militant Legacy or Israeli Tool?, Jean-Pierre Filiu, (2012) 

4-Martin Kear‏, Hamas and Palestine: The Contested Road to Statehood, Routledge, 2019

5-Avi Shlaim, the Oslo peace accords were wrecked by Netanyahu’s bad faith, (the guardian Sep 2013)

6- ARCHIVE | Fatah Asked Israel to Help Attack Hamas During Gaza Coup, WikiLeaks Cable Shows (haaretz Dec 20, 2010)

7- Mark Mazzetti and Ronen Bergman, ‘Buying Quiet’: Inside the Israeli Plan That Propped Up Hamas (nytimes archive) 

8- زياد أبو عمرو، حماس: خلفية تاريخية سياسية، مجلة الدراسات الفلسطينية (1993) / أصول الحركات السياسية في قطاع غزة (1948-1967) 

9- أحمد قاسم حسين، كيف أسست حماس جيشها في غزة؟ قراءة في تطور العمل العسكري لكتائب عز الدين القسام، مجلة سياسات عربية، (2020)

10- غزل السنوار بإيران (زلة لسان أم فصل البيان) – تقرير صحفي بتاريخ مايو 2018 (الجزيرة نت) 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.9 7 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات