من “فلسفة الثورة” إلى اللا فلسفة: كيف تطور مفهوم “كليات القمة” في مصر؟

من “فلسفة الثورة” إلى اللا فلسفة: كيف تطور مفهوم “كليات القمة” في مصر؟

يحلّ على الأسر المصرية هذه الأيام موسم نتائج الثانوية العامة، وفي كل عام يندلع النقاش والجدل ذاته: هل تفيد الشهادات الجامعية اليوم، أم أن الأمل في وسيلة سريعة للترقي الطبقي؟ فضلا عن النقاشات المستمرة بلا توقف، والتي يقارن فيها المهندسون والأطباء أنفسهم بفناني الراب والمهرجانات، وكيف يبخس المجتمع حقهم، في مقابل “تسمين” هؤلاء الصاعدين الجدد، والذين لا يمتلكون أي مؤهلات، من المؤهلات التعليمية، وصولا للموهبة والصوت أصلا.

تأتي هذه النقاشات في مجتمع يعيش 30% منه تحت خط الفقر، ونسبة مماثلة على هذا الخط، ولا يتجاوز الحد الأدنى للأجور ستة آلاف جنيه مصري، أي ما يعادل 110 دولار، وهو رقم أبعد من المُستطاع بالنسبة لفئات كثيرة، فأغلبية الوظائف في مصر اليوم تصرف مرتبات أقل من هذا الرقم بكثير، ضاربةً بقوانين العمل عرض الحائط.

وتحت تأثير الظروف الاقتصادية الراهنة، يتدخّل أهالي خريجي الثانوية العامة في اختيارات أبنائهم، ويصبح الطلب على كليات “القمة” (هندسة، طب، طب اسنان، صيدلة) هدفا في حد ذاته، وبتلك الشهادات يمكن للطالب أو الطالبة الحصول على مقابل مادي أكبر، أو تأمين فرص عمل في الخليج، أو حتى الحصول على منح، والسفر خارج مصر، والاستقلال ماديا عن الظروف الاقتصادية الصعبة فيها.

لكن “كليات القمة” ليست فقط هدفا للمجتمع المصري وفئاته من المتعلمين، وانما موقف الدولة أيضا، ففي تصريح قريب للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، طالب المصريين بأن يتوقفوا عن إدخال أبنائهم لكليات الآداب والحقوق، ففي رأيه هي كليات وعلوم بلا قيمة، لا يمكن مقارنتها مثلا بعلوم البرمجيات والحاسب الآلي، التي تدرّ دخلا عاليا في رأيه. وبعيدا عن الرئيس، فالحكومة ورجال الأعمال المقربين من النخب الحاكمة، سعوا، خلال العشر سنوات الأخيرة، لافتتاح عشرات الجامعات الأهلية والمعاهد، التي يمكن للطلبة فيها الحصول على شهادات جامعية في تخصصات القمة، دون أن يحصلوا بالضرورة على مجاميع الثانوية العامة المؤهّلة لها، لتتحايل تلك الجامعات على معضلة الثانوية العامة، وتسعى لتسجيل خريجيها في النقابات المهنية، مثل نقابتي المهندسين والأطباء، في مقابل مبالغ مالية مرتفعة للغاية.

تعطينا تلك السلوكيات والاعتقادات لمحة عن المعضلة التي يعيشها المجتمع المصري اليوم، فمن ناحية هو يعترف بالعلوم التطبيقية والجامعات التي تقدّمها، بدون أي اعتراف بالكليات النظرية، مثل جامعات الآداب والحقوق؛ ومن جانب أخر يهمل أي قيمة للعلم أو الثقافة أصلا، فأغلب الطلاب يعانون مع أسرهم، ويخضعون لإكراهات الدراسة، فلا يهم إن كنت تحبّ الفلسفة أو الأنثروبولوجيا أو حتى الرياضيات والعلوم، الأهم هو الحصول على شهادة من “كلية قمة” وفقط، ما يضع المجتمع بأسره في معضلة، فمع كل عام يتخرّج من الجامعات الحكومية ما يقارب 50 ألف مهندس، وتقريبا مثلهم من المعاهد والكليات الخاصة؛ أما الكليات الطبيّة فتخرّج تقريبا 50 ألف طبيب كل عام، ما يتسبب في تشبّع سوق العمل المصري بالكامل، الذي يعاني من ضغوط اقتصادية أصلا، فيضطر هؤلاء الخريجون للبحث عن فرصة للسفر والعمل في الخارج، كلما أمكن.

لكن هذه المعضلة في الحقيقة تضرب جذورها في نشأة الدولة المصرية الحديثة، من بعد ثورة تموز/يوليو 1952، واحتياجها لكوادر ومتعلمين وفئات تكنوقراط، ما جعلها تهتم بوضع سياسة تخطيط للتعليم، وحصر المعرفة المطلوبة في الدراسات العلمية والفنية. لكن كيف نشأت تلك المعضلة في مصر؟ وإلى ماذا تطورت؟ ولماذا كانت الثقافة والفلسفة والنظرية الضحية دائما في هذا البلد؟

عسكر وبيروقراطيون: كيف أثّرت “إزالة التسييس” على التعليم؟

 لا تولد العملية التعليمية في الفراغ، ولكنها تولد بالأساس تبعا للظرف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، الذي يموّلها ويحتاجها أصلا. ففي مصر كان الأزهر قبلة الطلاب والمتعلمين من جميع أنحاء العالم الإسلامي، بعد تأسيس الفاطميين له، لنشر المذهب الشيعي الإسماعيلي. ومع تحويل الأزهر للمذهب السني، استمرت قدراته التعليمية في صعود وخفوت، وصولا لحكم محمد علي لمصر، في بدايات القرن التاسع عشر، عندها توقف الأزهر عن أن يكون المنبر التعليمي الأساسي في مصر، فمحمد علي كان قد أخذ على عاتقه استحداث مدارس ومعاهد علمية جديدة، مثل “المهندس خانة” و”كلية الألسن”، وتأسيس مدرسة طب القصر العيني، مع توكيل عدد من الخبراء الأجانب لإدارة تلك المدارس والمعاهد، والاهتمام بإرسال البعثات العلمية إلى الخارج، من أجل أن يحلّوا مكان المعلمين الأجانب. كان محمد علي يطمح لنفوذ سياسي كبير، ليس في مصر وحدها، ولكن في السيطرة على الدولة العثمانية، والاستئثار بمنصب الباب العالي لنفسه، ولذلك كان في حاجة إلى جيش  حديث مُدرّب، وإلى دولة قوية، تعتمد على كوادر من المتعلمين والأطباء والمهندسين، من أجل تحقيق هذا الهدف.

لم يختلف الحال كثيرا مع دولة يوليو، ففي أعقاب ثورة 52، وجدت السلطة الجديدة نفسها في موقع متناقض للغاية، فمن ناحية نجح الانقلاب العسكري في الإطاحة بالملك والنظام القديم؛ لكنه في الوقت نفسه كان في حاجة إلى إحداث ثورة اجتماعية، من أجل الحفاظ على النظام وسط الظروف المتدهورة للمجتمع المصري، والأعداد المتزايدة، التي فشلت المدن في استيعابها، أو تقديم أية خدمات تذكر لها. فوجد النظام الجديد نفسه بين خيارين: إما بناء دولة جديدة، أو احتمال التعرّض لانقلابات وارتدادات اجتماعية في الأفق.

لكن الحقيقة أن نظام يوليو وُلد متناقضا في أساسه، فرغم التعاطف الجارف بين الجماهير تجاه “الثورة”، واعتبارها :حركة مباركة”، إلا أنها لم تكن ثورة مدنية في الأصل، ولم تمتلك الحد الأدنى من الكوادر، صاحبة الخبرة والولاء والأفكار الأيدولوجية نفسها، من المهندسين والاقتصاديين والمعلمين، فلم يكن من نظام يوليو إلا تقديم العسكريين من “الضباط الأحرار” لملء المناصب القيادية العليا، فأصبح الجيش هو المصدر الرئيسي لتوريد الوزراء والمحافظين ورؤساء المحليات ووكلاء الوزارات والسفراء وغيرهم. وحتى التنظيمات السياسية الأساسية، التي اعتمد عليها النظام فيما بعد، مثل الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي، كانت نسبة العسكريين في أماناتها العامة تمثّل الأغلبية دائما.

عدد من “الضباط الأحرار” مع جمال عبد الناصر والرئيس محمد نجيب

 ولكي يستمر نظام يوليو في الحكم، كان أمامه عدد قليل من الخيارات في ذلك الوقت، أولها بناء قاعدة صناعية-اقتصادية، تمكّنه من إحلال الواردات، وتقليل الاعتماد على الدعم الخارجي المشروط سياسيا؛ وثانيا بناء طبقة من البيروقراطية والكوادر التنفيذية، كي تتمكن النخب العسكرية من تنفيذ المشروعات الاقتصادية الجديدة بكل فعالية، وفي الوقت نفسه ضمان ولاء تلك النخب للنظام، وعدم مطالبتها بالمشاركة السياسية الفاعلة، فالنظام حرص منذ اللحظات الأولى للانقلاب على تفكيك الحياة السياسية، من أحزاب أو نقابات، وصناعة بديل “مؤمم”. وكان عبد الناصر، رغم تصريحه الدائم بضرورة تحقيق الديموقراطية، يؤمن أن الديموقراطية هي خلق مجتمع جديد، لا يخضع للنفوذ الأجنبي. في أحد اللجان التحضيرية قال: “الديموقراطية السليمة معناها إقامة مجتمع جديد، المجتمع غير المجتمع القديم الذي كنا نعيش فيه، والهدف من خلق هذا المجتمع الجديد أن تكون البلد مستقلة سياسيا، وفي نفس الوقت تكون مستقلة اجتماعيا، أي أن تكون بلدنا مستقلة سياسيا واجتماعيا، بمعنى أن نكون أحرارا، لا نخضع للاستعباد السياسي ولا النفوذ الأجنبي“.

لا يتحدّث ناصر هنا عن أي حياة حزبية، أو منافسة سياسية دستورية، أو أية مشاركة فعّالة من المجتمع نفسه، فإما كان يكتفي بقراراته الشخصية، أو تصرفات دائرته المقرّبة، التي يؤمن بولائها له، والقضاء على أية منافسة محتملة من خارج تلك الدوائر، سواء بالاعتقالات أو التضييق. فبالنسبة لناصر كانت الديموقراطية عملية مؤجّلة، لا يمكن أن يمارسها الشعب حقيقة، إلا اذا ملك زمام أموره، وحقق نهضته الاقتصادية والاجتماعية أولا.

يقول الكاتب المصري أسعد عبد الرحمن، في كتابه “الناصرية”: “كان لمسلك الثورة نتيجة مبكّرة مزدوجة، إذ أنه مع إفراغ النسق الرئيسي الاجتماعي، عبر عملية إزالة التسييس العنيفة، التي نفذتها القيادة الجديدة من جميع النشاطات والمؤسسات السياسية المستقلة، جرى تعزيز الجهاز التنفيذي، وتقوية دور وحجم بيروقراطية الدولة، عبر اصرار الحكام الجدد على توسل الأساليب اللاسياسية البيروقراطية، اللازمة للسيطرة على القيادة التنفيذية والبيروقراطية المتضخمة وضبطها“. لكن كيف أمكن للنظام بناء جهاز تنفيذي كهذا؟

الدولة ومتعلموها: من الخطة الخمسية إلى الهجرة نحو الخليج

في خطابه بجامعة القاهرة، قال جمال عبد الناصر: “فات شعبنا تطوران هامان، من أكبر التطورات التي أثّرت في الجنس البشري كله: تطور البخار والكهرباء، لهذا فاتنا الكثير من الثمرات الهائلة، التي حصلت عليها دول سبقتنا إلى المدنية، وواصلت هذه الدول المتمدّنة خطاها بطريقة طبيعية إلى الثورة الكبرى، التي أشرق فجرها على العالم ببداية عصر الذرة وعصر الفضاء.. إننا لا نملك أن نتخلّف عن العالم الجديد“.

وبعد هذا الخطاب بعامين بدأ تنفيذ أول خطة خمسية للتنمية، استهدفت 1400 مشروع، ليأتي نصيب قطاع الصناعة على ما يزيد عن 27%، إضافة إلى 6,5% للسد العالي، وحوالي 7% لمشاريع الكهرباء، وبذلك تكتمل أغلب القطاعات الإنتاجية، وتصبح تحت سيطرة الدولة الكاملة، من قطاع المال، للتجارة الخارجية، إلى الصناعات المعدنية والهندسية.

لكن الحقيقة أن النخبة المتعلّمة المصرية، من المهندسين والفنيين والعمال، التي تصدّرت مشاريع الخطط الخمسية، جاء أغلبها من خطة أو فلسفة تعليمية، كان قد وضعها اسماعيل القباني، وهو أول وزير للمعارف بعد الثورة، فالقباني كان يرى أن التعليم لابد ان يعمل في اتجاهين: فرض التعليم الابتدائي بشكل إجباري، وتوفير كل الموارد اللازمة له؛ في مقابل التعليم الجامعي، وهو الذي سماه “تعليم للصفوة بواسطة الصفوة” والذي لابد أن يكون توجّهه ناحية تحقيق الأهداف والمثل العليا، فيما يتعلق بشئون التصنيع، وغيرها من المسائل الاقتصادية والاجتماعية. وهذا الانتقاء حادث بسبب التكلفة المرتفعة للتعليم العالي، ومدى حاجة الدولة لخريجيه.

 وعلى الرغم من أن وجود القباني في الوزارة لم يستمر طويلا، إلا أن فلسفته وسياسته التعليمية لم تتغير، حتى مع الإدارة العسكرية لوزارة المعارف، وتغيير اسمها إلى “وزارة التربية والتعليم”، من قِبل الصاغ كمال الدين حسين، عضو مجلس الثورة، والذي تولى الوزارة عام 1954، فالرجل منذ اللحظة الأولى في الوزارة وجّه بتخطيط مرحلة التعليم الجامعي، لتخريج القادة ورجال المستقبل، والاهتمام بالمعاهد والكليات العلمية، وتشجيع البحث العلمي، ودعم التعليم الفني ما بعد المرحلة الابتدائية. أي أن التوجّه السياسي للوزارة الجديدة كان حصرا في صالح تشكيل نخبة تكنوقراط من المتعلمين، من أجل الخدمة في المشاريع الخمسية، وتعزيز بيروقراطية الدولة الجديدة.

كمال الدين حسين

وبسبب هذا التوجّه بدأ الوزير من الشكوى بسبب الضغوط الممارسة على وزارة التربية والتعليم من قِبل المواطنين، فالجميع يرغب في أن يصل بأبنائه إلى أعلى مراحل التعليم، وأن يصبحوا من حملة الشهادات العليا، لضمان أحسن المراكز الاجتماعية والوظائف، فالفلاح والعامل يريدان أن يبتعد أبناؤهما عن طائفة العمال والفلاحين، كذلك الموظفون والتجار وغيرهم، ليتساءل الوزير: إذا تركنا هذا يتحقق، فعل أي حال يمكن أن يكون المجتمع المصري؟

حاول الجميع الضغط علي كمال الدين حسين، للتراجع عن تلك السياسات، وفك الارتباط بين رغبات الدولة والجامعات، بل حتى أضافوا مقترحا يسمح بإمكانية أن يلتحق المتعلمون بالكليات النظرية، مثل الآداب وغيرها، بشكل انتسابي، أي بدون حضورهم فعليا، فقط كي يحصلوا على شهادة جامعية، تسمح بترقيهم اجتماعيا ووظيفيا. وأمام هذا الضغط الهائل في مجلس الأمة، واعتراض طه حسين وأحمد لطفي السيد، قرر الوزير تقديم استقالته، دون التهاون وقبول المقترحات، وفي 1957 رفض جمال عبد الناصر استقالة كمال الدين حسين، وقال إن سياسة الوزير تعبّر عن سياسة الحكومة، وعلى الجميع أن يلزم الصمت.

لم تتغير سياسات الدولة كثيرا تجاه التعليم العالي، فالانتظام بالجامعة أمكن تدريجيا، لكن كان لابد أولا من المرور باختبارات الثانوية العامة الشاقة، وإحراز نسبة مئوية محددة تقبلها الجامعات، ثم الخضوع ثانيا لمكتب التنسيق، الذي يُقيّم حاجة الدولة من التخصصات، والذي يضع التخصصات العلمية، مثل الهندسة والعلوم وكليات الطب، في أعلى النسب المئوية، وتحت أصعب الشروط.

وعلى الرغم أن مفهوم الدولة للتخطيط، والاعتماد على الكفاءات والتخصصات، أخذ بالخفوت تدريجيا بعد دخول مصر في مغامرة حرب اليمن، ثم النكسة، وتراجع الدولة عن تصور التخطيط الاقتصادي مع انفتاح السبعينات، إلا أن سياستها تحوّلت إلى سلوك اجتماعي قاهر. وجد هذا السلوك مبررا جديدا مع تعديل قانون الهجرة عام 1971، ليبدأ تدفّق الكوادر والمتخصصين والفنيين على دول الخليج الصاعدة.

في دراسة لدكتورة سها أحمد، الأستاذة بكلية الدراسات العليا للبحوث الإحصائية، تقول إن العامل الحاسم في قرار هجرة المصريين منذ السبعينات هو “المهنة”، وكذلك “الحالة التعليمية”، ليُشكل العامل الاقتصادي الدافع وراء 95% من قرارات الهجرة، منذ السبعينات حتى عام 2013. فمنذ السبعينات تعرّضت الدولة المصرية لإخفاقات اقتصادية، وصدمات متلاحقة، ما جعلها تسلك اتجاه التخلي عن فلسفة التخطيط، وبناء أية قاعدة إنتاجية أو استثمارية، في مقابل جذب الأموال الجاهزة، سواء من نشاطات السياحة، أو التمويل منخفض التكلفة، أو أية مصادر ريعية أخرى، ومنها تحويلات المصريين العاملين بالخارج. وأمام تلك الظروف وجد متعلمو الدولة وموظفوها أنفسهم أمام فرصة جديدة لبناء دول ومشاريع جديدة في منطقة مجاورة، احتاجت الى خدماتهم، بعد أن كفّت دولتهم عن الحاجة إليهم.

“بلاش شعارات”: هل تغيّرت “فلسفة” الدولة المصرية؟

في تصريح للإعلامي تامر أمين، على قناة “النهار”، يقول: “قولولي إيه في المواد الأدبية مفيد هذه الأيام.. إيه الاستفادة من دراسة التاريخ 3 سنوات.. بلاش شعارات، وخلونا في اللي بيأكل عيش ويجيب تقدم.. بدرس جغرافيا ليه.. فلسفة ومنطق هيعمل بيهم إيه.. أخره يبقى مدرس“. ليعقب هذا التصريح مباشرةً قرار من وزير التربية والتعليم بإلغاء مواد الفلسفة والمنطق وعلم النفس والجغرافيا واللغة الأجنبية الثانية من المجموع في الثانوية العامة، أي أن التصريح لم يكن أكثر من مقدمة لتوجّه عام في الدولة. وهذه المرة فالتوجّه ناحية محاصرة الكليات الأدبية، وتخفيض جاذبيتها عند الطلاب والأهالي معا، في مقابل التشجيع على الكليات العلمية والهندسية ودراسة الحاسبات.

لكن هذا التوجّه لا يأتي مع تمويل لتطوير الجامعات الموجودة أصلا، ورفع كفاءتها لاستقبال مزيد من الطلاب، بل مع تشجيع على التعليم الخاص، في الكليات والمعاهد والجامعات الأهلية مدفوعة الثمن، من ثم تخريج متخصصين، يعملون عملا حرا بالعملة الصعبة، أو حتى الاستفادة من أموال تحويلاتهم من الخارج عند هجرتهم. أي استغلال المواطنين مرتين: الأولى مع الأسعار المرتفعة في التعليم الخاص، والأسعار الآخذة في الارتفاع بالتعليم العام؛ والثانية الاستفادة من فارق العُملة، ودعم الوضع الاقتصادي للنظام القائم.

لكن الحقيقة أن التوجّه الحالي ناحية الدراسات العملية، واحتقار العلوم النظرية، بل وحتى الثقافة نفسها، ليس وليد اليوم، ولا الظروف الاقتصادية السيئة، وإنما هو تقليد طويل مستمر، بداية من دولة يوليو وحتى هذه الأيام، فالتقليل من شأن النظرية والثقافة والفلسفة هو موقف أصيل، لطالما أكدت عليه نخب هذه الدولة مرارا وتكرارا، في مقابل الإعلاء من كونهم رجالا عمليين، تنبع “عمليتهم” من الطبيعة العسكرية التي نشأوا عليهم. فكما يقول القانون الشفهي السائد في الجيش “نفّذ الأمر العسكري أولا، ثم تظلّم”.

كانت ثورة يوليو منذ بداياتها تبحث عن نظرية أو أيدولوجيا سياسية، وعلى الرغم من أن عبد الناصر نفسه حاول توضيح نظريته في كتابه “فلسفة الثورة”، إلا أنه عاد ليصارح الجميع بأن الكتاب لم يحمل نظرية مكتملة، بل خطوطا عريضة، وفي الدورة الافتتاحية لمجلس الأمة 1960 قال: “لقد كانت أعظم الملامح في تجربتنا الفكرية والروحية هي أننا لم ننهمك في النظريات بحثا عن حياتنا، وإنما انهمكنا في حياتنا بحثا عن النظريات، وبذلك وضعنا العقيدة في خدمة الحياة، ولم نضع الحياة في خدمة العقيدة، ذلك أن العقيدة الاجتماعية والسياسية ليست إلا أسلوبا للحركة، وطريقا الي الهدف، ولا يمكن أن تكون غاية في ذاتها“.

هذه النظرة السلبية للنظرية ولضرورة وجود أيدولوجيا واضحة، جعل النظام يصوغ شعارات رنانة عن الديموقراطية والنظام والعدالة الاجتماعية، دون وجود أي برامج أو أهداف واضحة، وهو ما دفع نظام يوليو في عام 1962 لإصدار “الميثاق”، الذي يهدف للبحث عن نظرية عمل للثورة، وإيجاد برنامج تفصيلي لها. لكن رغم ذلك لم تخرج بنود الميثاق عن كونها مجرد شعارات رنانة. الموقف نفسه تكرر دائما في التعريفات الفضفاضة والعمومية، التي وضعها ناصر للاشتراكية والديموقراطية، وغيرها الكثير.

وخلال المراحل المتعاقبة، لطالما تغيّرت سياسات الدولة وشعاراتها، لكنها لم تتغير قط في احتكار التفلسف والتفكير والنقد، ولم تتغير في الإعلاء من شأن الشهادات العلمية، ولم تتغير في تحكّمها الدائم بالمصريين، وسد أي أفق لتحرر ثقافي أو اقتصادي أو تعليمي، والذي يؤدي بالطبع في النهاية لتحرر سياسي.

المراجع

  • سعيد إسماعيل علي، التعليم في ظلال ثورة يوليو 1952، عالم الكتب، 2003
  • أسعد عبد الرحمن، الناصرية: البيروقراطية والثورة في تجربة البناء الداخلي، مؤسسة الأبحاث العربية، 1981
  • أسعد عبد الرحمن، الناصرية: ثورة بيروقراطية أم بيروقراطية ثورة، مطبوعات جامعة الكويت، 1977
  • سها أحمد حسن المتولي، عوامل اختيار دولة المقصد بين المهاجرين للعمل من مصر خلال الفترة 2000-2013، مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، عوامل اختيار دولة المقصد بين المهاجرين للعمل من مصر خلال الفترة 2000-2013 (ekb.eg)
  • رفيق حمود، تطور التعليم العالي في مصر، القسم الرابع: أوراق مرجعية
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 4 أصوات
تقييم المقالة
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات