في فترة تاريخية حرجة في مسيرة “القضية الفلسطينية”، وأثناء حدثين بارزين في أواخر الثمانينات، وهما تصاعد الانتفاضة الشعبية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي من ناحية، وتصاعد ميل منظمة التحرير للتفاوض مع إسرائيل، بشأن حل الدولتين، من ناحية أخرى، ظهرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على الساحة الفلسطينية، من رحم جماعة الإخوان المسلمين في غزة، معلنة عن وجودها عبر ميثاقها الأول: عهد حماس (18 آب/أغسطس 1988)
وبعيدا عن اللهجة الحادة لميثاق حماس، ودعوته إلى الجهاد، ورفض سياسة التفاوض، لم يشكل ظهور الحركة الدرامي أي مفاجأة للقيادات الإسرائيلية في غزة، مسقط رأس الحركة.
قبل نحو أربعة أعوام من ظهور ميثاق حماس، تنبّأ أفنير كوهين Avner Cohen ، مستشار الشؤون الدينية لقائد جيش الاحتلال في غزة، بظهور الحركة مستقبلا، وقد وضّح العلاقة الغامضة ما بين الإدارة الإسرائيلية، وحركة الإخوان المسلمين في غزة، بالإحالة إلى شخصية خيالية شهيرة: مخلوق الغولم Golem.
في القصص الشعبية اليهودية، يُجسّد الغولم مخلوقا صنعه سيده من الطين والوحل، وجعله قادرا على الحركة، وفي النهاية، خرج الغولم عن السيطرة، وفرّ هاربا من صانعه، وغالبا ما يستخدم الغولم، في الثقافة المعاصرة، للإشارة إلى الشخص الأحمق الذي يخدم سيده، ويخضع لرقابته، لكنه معاد له أحيانا.
يسلط تشبيه المستشار الإسرائيلي الضوء على نقطتين: أولا، اعترافه بسياسة الاحتلال الإسرائيلي في دعم الجماعات الإسلامية بغزة، ولا سيما الإخوان المسلمين، حتى الثمانينات؛ وثانيا، توقّعه لنقطة صدام حتمية في المستقبل، حين ستُفلت هذه الجماعات من سيطرة الإسرائيليين.
إن تصريح كوهين، الذي جاء في تقرير داخلي، موجّه لقائده الإسرائيلي، قبل أكثر من أربعين عاما، يطرح كثيرا من علامات الاستفهام حول تاريخ حركة الإخوان المسلمين الفلسطينية، قبل ظهورها تحت مسمى “حماس” الجديد، وخصوصا في علاقتها الغامضة مع الإدارة الإسرائيلية لقطاع غزة.
وعلى مدى سنوات طويلة، أثارت الأحداث والتصريحات الغامضة، حول تاريخ حركة الإخوان في غزة موجة من التساؤلات، ظلّت محصورة بين المراقبين والمحللين، لكن بعد عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر، التي نفذتها حماس، ونتيجة لتعقّد الأوضاع عقب الغزو الإسرائيلي للقطاع، برزت تلك التساؤلات مرة أخرى إلى الواجهة.
في البداية، واجهت الأغلبية هذه التساؤلات بالرفض، مشيرة إلى عدم جدواها، في ظل حرب مدمرة مع عدو غاشم، انتهك كل القوانين الدولية والإنسانية، وقد بلغ الأمر حدّ اتهام المتسائلين بالخيانة، ووضعهم في صف الأعداء، فـ”لا صوت يعلو على صوت المعركة!”.
ومن المؤسف أن هذه العبارة، ذات السمعة الأسوأ في تاريخ المنطقة، كانت تمهيدا لأكبر الهزائم العسكرية والسياسية العربية أمام إسرائيل، من نكبة 48 إلى نكسة 67، وهو ما عاد إلى الأذهان فعلا، بعد أن دمرت إسرائيل البنية التحتية للقطاع تماما، وشُرّدت أكثر من مليون فلسطيني، وارتفعت حصيلة ضحايا حربها على القطاع إلى حوالي 40 ألفت، لتعيد قواتها تثبيت أقدامها في قلب غزة.
في غضون شهور قليلة، تحوّلت آمال التحرير، النابعة من عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر إلى كابوس جديد، ينذر بنكبة فلسطينية جديدة، وأصبح السؤال المسيطر في عقول المهتمين بمراقبة الحدث: ما جدوى هذه العملية، التي أصبحت نتيجتها الآن مأساة إنسانية وخسارة وطنية؟
قاد هذا السؤال إلى استقطاب شديد، بخصوص الموقف من حماس وتاريخها، وانقسمت الآراء عموما إلى روايتين متضادتين عن تاريخ الحركة: إحداهما تضع حماس في قلب المقاومة الفلسطينية؛ والأخرى تزعم أنها صنيعة إسرائيلية.
والسؤال الآن: هل ما تردده الأطراف المختلفة من روايات يحمل شيئا من الحقيقة؟ وهل يمكن أن تقودنا التساؤلات التاريخية إلى معرفة أدق بتاريخ القضية الفلسطينية، ومصيرها القادم؟
لنبدأ أولا بفحص الروايات المتداولة، قبل استعراض التفاصيل التاريخية، حتى نقترب من المشاكل التي تقع فيها الخطابات المتصارعة/ بخصوص تاريخنا السياسي.
بين الدعاية والتسطيح: كيف يحجب الاستقطاب السياسي وضوح التاريخ المبكر لحركة الإخوان المسلمين؟
تردد الرواية الأشهر، والأكثر انتشارا حاليا، الحكاية الرسمية نفسها، التي روّجتها حركة الإخوان المسلمين خلال العقود الثلاثة الماضية، وتبرز فيها حماس على أنها الوريث الأخير لسلسلة متصلة من نضال الإخوان في فلسطين ضد الاحتلال الأجنبي.
وتُرجع أدبيات الحركة نقطة انطلاقها الأولى إلى الشيخ عز الدين قسام، القادم من مدينة جبلة السورية إلى الأراضي الفلسطينية، للجهاد ضد الاحتلال الإنجليزي، والذي قتل في عام 1935.
كما تعزز تلك الرواية من استقلالية النضال الإخواني في فلسطين، عن كل أنظمة الحكم العربي المتتالية، مما يطبعها بصفة الإخلاص المستمر للقضية، على مدى الثمانين سنة الماضية، أمام تخاذل وتهاون الأنظمة العربية. أي أن الرواية تضع حركة الإخوان المسلمين (ووريثتها حماس) في مقدمة ومركز المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال.
ورغم التداول الواسع لتلك الرواية، إلا أنها في الحقيقة أقرب لمنطق الدعاية السياسية (بروباغندا) لأن ركائز الرواية الأساسية تتناقض مع كثير من الوقائع التاريخية. فلم تكن ممارسات الشيخ عز الدين القسام مرتبطة بتنظيم الجماعة، ولم يشكّل مقتله وقتها نقطة انطلاق لنضال الإخوان في فلسطين، كما تدّعي روايتهم المتداولة، فقد انخرط الشيخ السوري في حالة النضال العربي والإسلامي العام ضد المحتل الأجنبي في البلاد العربية، خصوصا بعد عودته إلى سوريا من الدراسة الأزهرية بالقاهرة. فانضم أولا لـ”مجموعة عمر البيطار” لمقاومة الاحتلال الفرنسي في سوريا (ثورة الشمال السوري) بداية من عام 1919، تقريبا بعد شهرين من انطلاق الثورة الشعبية في مصر ضد الإنجليز، بقيادة حزب الوفد، ولم يكن حسن البنا وقتها، مؤسس الإخوان المسلمين، قد بدأ التفكير حتى في تأسيس الجماعة.
وفي مرحلة لاحقة، أصدرت قوات الاحتلال في سوريا مذكرة اعتقال بحق الشيخ، فاضطر إلى الهروب جنوبا إلى الأراضي الفلسطينية، وفي الوقت نفسه تقريبا، ظهرت أول مجموعة مسلحة في فلسطين لمقاومة الاحتلال الإنجليزي والهجرات اليهودية، وهي “جماعة الكف الأخضر” (1929)، التي قامت على يد المناضلين الدروز القادمين من سوريا، بزعامة أحمد طافش، وقد تأثّر الشيخ القسام بأسلوب الدروز في المقاومة، فقام بتأسيس مجموعة شبيهة، هي “الكف الأسود” في مدينة حيفا.
استمرت تلك المجموعات في تنفيذ بعض العمليات الفدائية، حتى قُتل القسام مع فرقته في اشتباك ضد القوات الإنجليزية في عام 1935، ونتيجة لذلك الضغط المتصاعد، انفجرت الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الإنجليز.
وبعيدا عن خلفية القسّام المُختلف عليها، والمنسوبة حاليا إلى تاريخ الإخوان المسلمين، فلم يكن الشيخ أبدا جزءا من التنظيم، الثابت هو انتماء القسّام للطريقة الصوفية التيجانية حتى مقتله. لكن من ناحية أخرى، يكشف موقف مرشد الإخوان حسن البنا، بعد انطلاق الثورة الفلسطينية السالف ذكرها، كثيرا عن المسافة بين القسام والإخوان في ذلك الوقت.
لقد كان مرشد الجماعة الأول سلبيا بخصوص المشاركة في المقاومة، فقد فضّل التريّث، ومَنَع شباب الجماعة في مصر من السفر والمشاركة في المعارك الفلسطينية.
إن جماعة الإخوان، حديثة الانتشار وقتها بالقاهرة، كانت على النقيض التام لموقف الشيخ القسام: فقد اختار البنا التمهّل لأسباب حزبية، تخصّ أهداف الجماعة السياسية في مصر، في الوقت نفسه الذي استشهد فيه الشيخ السوري، في القتال ضد الاحتلال الإنجليزي.
ولم يمر موقف البنا على أعضاء الجماعة مرور الكرام، إذ تمرّد عدد من الأعضاء ضد المرشد، نتيجة لتناقض قراره حول رفض المقاومة، مع خطبه الداعية ليل نهار لجهاد الأعداء، وعُرفت تلك الأزمة، في روايات الجيل الأول من الجماعة، بـ”الفتنة الأولى” (في صيف 1937 تزامنا مع ذروة الثورة الفلسطينية الكبرى).
وكان على رأس تلك المجموعة المتمردة الشاب أحمد رفعت، وقد انقسمت نقاط اعتراض رفعت ضد سياسة المرشد إلى محورين: مجاملة الإخوان للحكومة المصرية؛ وتقاعس الجماعة عن الجهاد في فلسطين، إلى جانب تساؤلات عن أموال التبرّعات، التي جُمعت بغرض مقاومة المحتل.
ولم يرضخ المرشد لضغط رفعت ومجموعته، وطالبهم بالطاعة، فانشق أحمد رفعت عن الإخوان المسلمين، وسافر وحيدا إلى فلسطين للمشاركة في المقاومة، وقُتل هناك في ظروف غامضة، فور وصوله إلى غزة.
ونتيجة لما سبق، حدث أول انشقاق في جماعة الإخوان (مجموعة شباب محمد)، في ظل وجود مؤسسها الأول.
إذن، فقد اختارت أغلبية الجماعة التريث والتفكير السياسي، على حساب المقاومة والنضال المسلح، وكلما توغَّلنا أكثر في التفاصيل التاريخية المبكّرة لجماعة الإخوان المسلمين، نكتشف مدى هشاشة الرواية المنتشرة حاليا.
فمثلا، لم تكن علاقة الجماعة بأنظمة الحكم العربي قائمة على الاستقلالية التامة، كما يُرَوَّج كثيرا، فعلى مدار تاريخها الطويل، اقتربت الجماعة أو ابتعدت عن أنظمة الحكم العربية، بناء على أفكار أيديولوجية/ تخصّ السياسة التنظيمية للجماعة، ولم تكن مسألة الصراع في فلسطين محورية في تلك الأفكار.
أيّدت الجماعة حركة “الضباط الأحرار” المصرية عام 1952، وتم اختيار القاضي الإخواني عمر صَوان لرئاسة بلدية غزة، الخاضعة للحكم المصري وقتها، بعد نجاح ثورة الضباط الاحرار مباشرةً، بوصف ذلك مكافأة للإخوان، ثم حدث الصدام الشهير في عام 1954، عندما حظر جمال عبد الناصر الجماعة في مصر، نتيجة لتمسّك الإخوان بتطبيق الشريعة الإسلامية، بينما مال الرئيس المصري إلى القومية العربية، بنكهة “علمانية” إلى حد ما.
ونتيجة لملاحقة عبد الناصر لأعضاء الجماعة في مصر، اقترب الإخوان من أنظمة الحكم في الخليج العربي في الستينات. ولم تكن مسألة فلسطين أساس ذلك التقارب، فقد كانت سياسة عبد الناصر داعمة للمقاومة الفلسطينية، على عكس دول الخليج، التي كانت متحفّظة في مسألة دعم المقاومة المسلحة.
تكررت الاستراتيجية نفسها مع فرع الجماعة الأردني في بداية السبعينات، وهو الفرع الأهم وقتها، بعد الفرع المصري مباشرة.
حدث ذلك أثناء الصدام الشهير بين الملك حسين الهاشمي، وبين فصائل المقاومة الفلسطينية داخل الأراضي الأردنية (أحداث “أيلول الأسود” 1970)، وقد اختار الإخوان صف الملك، على حساب فصائل المقاومة، مما أكسبها نفوذا كبيرا داخل الحياة السياسية الأردنية لسنوات طويلة، وحققت الجماعة نتيجة لذلك أداء جيدا في الانتخابات البرلمانية الأردنية عام 1989، لتصبح من أكبر الأحزاب السياسية في المملكة الأردنية.
والملفت هنا في تاريخ الجماعة الأم لحركة حماس، ما نراه من انتهاج أسلوبٍ براغماتيّ، على مستوى القرارات والعلاقات السياسية، وهو الأسلوب الذي أكسب تنظيم الإخوان قدرة كبيرة على الاستمرار لعقود طويلة، مقارنةً بباقي الحركات الإسلامية، وتتناقض تلك السياسة تماما مع الرواية الشائعة عن مظلمة الجماعة، في صراعها ضد الأنظمة العربية، نتيجة لتمسّكها بمبدأ النضال والمقاومة.
استنادا إلى وقائع تاريخية مشابهة عن تاريخ الجماعة، إضافة إلى عوامل أخرى سنناقشها لاحقا، تبنّى البعض رواية مضادة لدور الإخوان المسلمين في القضية الفلسطينية. في هذه الرواية، يبدو وجود الجماعة وكأنّهُ من صناعة السياسة الإسرائيلية، بمعنى آخر، يُصوّرُ الأمر وكأنَّ تنظيم الإخوان الفلسطيني ليس سوى دميةٍ تتحرك بأيدي أجهزة الأمن الإسرائيلية.
وكما أنَّ الرواية الأولى تمثل دعاية سياسية متناقضة مع الوقائع التاريخية، فإن الرواية الثانية تعاني من التبسيط، وعدم الدقة في التوصيف.
إن وجود الإخوان المسلمين في فلسطين، ولا سيما في غزة، سبقَ زمنيا ظهور أجهزة الأمن الإسرائيلية بسنوات. فعقبَ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وجد حسن البنا نفسهُ في موقعٍ كافٍ من القوة، لتأسيس أول فرع للحركة في القدس، تحت قيادة سعيد رمضان، في تشرين الأول/أكتوبر 1945، بعدما كان الأمر محصورا في استقطاب بعض الشخصيات الفلسطينية فقط.
وبعد عام، وتحديدا في الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1946، أُسِّسَ فرع غزة للجماعة، وكان مقرها الأول في مكان غير متوقع: “سينما السامر”.
والأكثر أهميةً من ذلك هو العلاقة الوثيقة التي ربطت فرع غزة بالجماعة الأم في مصر، إذ زارت القيادات المصرية فرع غزة بانتظام، مما أسهم في بناء شبكة التنظيم الأولى هناك، ثم جاء القرار البريطاني بسحب إدارتها من منطقة غزة في نهاية شتاء 1947، ليمثّل الحدث الحاسم في تمكين الجماعة، إذ سرّعَ ذلك الانسحاب المفاجئ تحوّل فرع الإخوان الحديث إلى خليةٍ نشطة، في وقتٍ قياسيّ، نتيجة لذلك الفراغ السياسي والإداري الكبير، مما منحَ الإخوان موطئَ قدمٍ ثابت في غزة، قبيل أكثر السنوات الحاسمة في تاريخ فلسطين، أي عام النكبة 1948
إنَّ الفحص السريع للروايات المتداولة عن أصل الحركة في فلسطين، يقودنا حتما لإعادة قراءةٍ متأنيةٍ للتاريخ، بعيدا عن الأحكام الجاهزة، ولابد أن تحمل تلك القراءة سؤالا أساسيا: ما موقع تنظيم الإخوان في غزة من نشأة المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي فرض نفسه على الساحة العربية بعد كارثة النكبة؟
صرخة التمرد الوطني: كيف نشأت المقاومة الفلسطينية؟
في أعقاب هدنة حرب النكبة (شباط/فبراير 1949)، حدَّدت الاتفاقية المصرية – الإسرائيلية، الموقَّعةُ في جزيرة رودوس، حدود قطاع غزة، الذي خرج من يد الغزو الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وخضع حينها لإشراف الحكومة المصرية، بمساعدة من الأمم المتحدة.
ورغم المساحة الضئيلة لقطاع غزة (حوالي 1.3% من مساحة فلسطين) إلا أن حركة النزوح الفلسطيني جراء النكبة غمرت مدن القطاع الهادئة (80 ألف نسمة) بمخيمات اللاجئين الضخمة (حوالي 200 ألف لاجئ).
في تلك الأثناء، كانت جماعة الإخوان في غزة تُعيد ترتيب صفوفها، نتيجةً لتنفيذ سياسة حظر الفرع الأم للجماعة في الأيام الأخيرة لمصر الملكية، واستطاع القيادي الإخواني ظافر الشوا الوصول إلى اتفاق مع قائد المخابرات المصرية أحمد كامل، بتقديم الجماعة في غزة تحت اسم جديد: “جمعية التوحيد الإسلامية”، التي ستقتصر على الأنشطة الدينية والاجتماعية فقط.
استطاع الشوا من خلال هذا الالتفاف، التوغُّل سريعا بين أبناء المخيمات، وكانت النتيجة خلقَ عشرات الخلايا الإخوانية فيها (المعروفة بـ”الأسر”)، وفي الوقت نفسه، قام أيضا بتأسيس النواة الأولي لجناح الجماعة المسلَّح سرا، ونتيجة لخبرته القديمة في الكشّافة، قام بشراء الأسلحة، وتدريب أكثر الأعضاء إخلاصا. وتشكّل على أساس ذلك التنظيم السري لإخوان غزة.
وقد خرج من تلك النواة، عدد من المقاتلين البارزين، على رأسهم خليل الوزير، المعروف لاحقا بلقب أبي جهاد.
وعندا أطاحت حركة الضباط الأحرار بالنظام الملكي في مصر في عام 1952، انتعشت الجماعة بقوةٍ في القطاع، نتيجة لتقرّبها من الضباط الأحرار، إذ بلغ عدد أعضائها آلافا بحلول عام 1954، وهو العام نفسه، الذي بدأ فيه الصدام ما بين نظام عبد الناصر وبين الجماعة في مصر، بعد محاولة اغتيال ناصر الشهيرة.
وقبل أن يتسلل ذلك الصدام إلى محيط غزة، اقتحم شارون، قائد الفرقة 101 الإسرائيلية، قلب القطاع في غارةٍ مباغتةٍ، راح ضحيتها 46 جنديا مصريا، مما أشعل أولى المظاهرات الفلسطينية في غزة، ونتيجةً لغارةٍ إسرائيليةٍ أخرى في آب/أغسطس 1955، قرر عبد الناصر تنظيم أولى القوات الفدائية الفلسطينية، تحت قيادة العقيد المصري مصطفى حافظ، بهدف تنفيذ عمليات هجومية لصد الهجمات الإسرائيلية، بدون أيِّ حسابات لانتماءات المنضمّين.
كانت النتيجة الأساسية لهجمات الفدائيين في عام 1955 اقتناع القيادة الإسرائيلية بضرورة احتلال غزة، لوقف تطور العمليات الفدائية، وبدأ التخطيطُ سرًّا لعملية عسكرية مشتركةٍ مع فرنسا وبريطانيا، ووُضعت الخطة قيد التنفيذ في أكتوبر 1956، فيما عُرف بـ”العدوان الثلاثي”، وفي غضون شهر، وقع قطاع غزة بشكل كامل تحت الاحتلال الإسرائيلي.
وعلى الفور من بداية الاحتلال، قدَّم ثلاثة من شباب الإخوان في غزة، على رأسهم العضو كمال عدوان، مقترحا من عشرين صفحة إلى قيادة الجماعة، بضرورة التعاون مع القوى الفلسطينية الأخرى (القوميين واليساريين) في مواجهة الاحتلال، إعلاميا وسياسيا.
ومن ناحيةٍ أخرى، عرض خليل الوزير، القيادي البارز في التنظيم السري للإخوان، تصورا يقضي بضرورة تكوين تنظيم مسلح، لا يحمل طابعا حزبيا أو دينيا، وإنما يحمل شعار “تحرير فلسطين” فقط، حتى يكون إطارا جامعا للمقاومة الفلسطينية بكلِّ أطيافها، وأضاف الوزير أن ذلك التنظيم سيكسر أيضا الحاجز ما بين الإخوان المسلمين والجماهير، ويخفف الصدع أيضا مع النظام الناصري.
رفضت القيادة الإخوانية المقترحين معا، فكان الرد على مقترح كمال عدوان السياسي: “لا تعاون مع الشيوعيين”، أما المقترح العسكري لخليل الوزير فرفضته تماما، لأن فكرة التنظيم تتعارض مع “المشروع الإسلامي للجماعة”.
لقد حاول خليل الوزير في تلك المرحلة أن يُقيم جسرا ما بين المشروع الوطني لمجابهة الاحتلال، وبين مصلحة الجماعة الأقوى سياسيا وقتها في غزة، وقد ظنَّ الوزير أنه عثر على المعادلة السحرية لخلق مقاومةٍ وطنيةٍ صلبة، لكنه صُدمَ بحقيقة أنَّ المصلحة السياسية والأيديولوجية لجماعة الإخوان لا تقبل التنازل أو المساومة، حتى أمام المشروع الوطني.
وفي ظلِّ ذلك الاضطراب داخل القوى السياسية في غزة، استطاعت قوات الاحتلال ضرب المجموعات الفدائية المُشتتة، فانسحب معظم أفرادها إلى مصر. وفي القاهرة، التقى كمال عدوان وخليل الوزير، الهاربان من ضربات الاحتلال، وصدمة رفض الجماعة للحل الوطني.
لقد أدرك خليل الوزير، في طريق المنفى بين القاهرة والكويت، بعد الحرب التي استمرت عدة أشهر، أنَّه لا يمكن التوفيق أبدا بين فكرة التحرير الوطني، سياسيا أو عسكريا، وبين المصالح الحزبية أو الدينية، لأنها تحمل في داخلها بذرة التفرقة. لذلك، أطلق، فور وصوله إلى الكويت، نداءهُ الشهير إلى كل رفاقه السابقين في جماعة الإخوان، بالتمرّد على الحركة، ورفع شعارا وطنيّا جامعا: الأولوية لقضية الوطن وتحرير الأرض.
وكانت صرخة خليل الوزير، أعنف ضربةٍ لجماعة الإخوان الفلسطينية، التي انشقَّ عنها أغلب السياسيين والفدائيين، الذين عايشوا صدمة الوزير نفسها، وانزوت الجماعة تماما عن الأضواء، بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة في 6 آذار/مارس 1957، وعاد القطاع مرة أخرى لسطلة الإدارة المصرية، ثم حظرت السلطات المصرية جمعية التوحيد، القناع القانوني للإخوان في غزة، في عام 1958.
في الوقت نفسه، اجتمع خليل الوزير (أبو جهاد) لأول مرة مع منشقين قدامى وجُدُد عن الجماعة في الكويت. كان الأول صلاح خلف (أبو إياد) الذي انشقَّ عن الإخوان منذ عام 1956، أما الثاني فهو ياسر عرفات (أبو عمار) الذي سبقهم جميعا في الابتعاد عن الوسط الإخواني، رغمَ تلقِّيه التدريبات على يد الجماعة في سن مبكرة، ثم انشق عنها نهائيًا في عام 1949.
وعلى يد الثلاثة، تشكَّلت «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» في أكتوبر 1959، والتي اختصرت تحت شعار “حركة فتح”.
وإليك أسماء أبرز المنشقين عن الإخوان وقتها، وأصبحوا قيادات بارزة في حركة فتح: كمال عدوان، أسعد الصفطاوي، سليم الزعنون، غالب الوزير، عبد الفتاح حمود، محمد يوسف النجار، فتحي بلعاوي.
لقد خرجت أول حركة مقاومة وطنية فلسطينية، وبذرة أول ممثلٍ فعليٍّ للقضية، من التمرد على الحسابات السياسية الخاصة لجماعة الإخوان، وبدأ على هذا الأساس فصلٌ جديدٌ، أكثرُ تعقيدا في ثلاثيِّ القضية الفلسطينية: فصائل المقاومة وحركة الإخوان المسلمين والاحتلال الإسرائيلي
نواصل استكمال الموضوع في المقالة التالية
مصادر
1- الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، محمود عبد الحليم، المعروف مؤرخ الإخوان (مصدر رواية الفتنة الأولى)
2- تصريحات Avner Cohen في wall street journal – 2009
https://www.wsj.com/articles/SB123275572295011847
3- د.سعيد علي نفاع، العرب الدروز والحركة الوطنية الفلسطينية، دار الجليل للنشر، 2009
4- كامل محمود خلة: فلسطين والانتداب البريطاني (1922-1939)، بيروت 1974
5- عبد الوهاب الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث، بيروت 1973.
6- هنري لورنس، مسألة فلسطين، الكتاب الخامس (تحقيق النبؤات 48 -67)، المركز القومي للترجمة
6- Jean-Pierre Filiu, The Origins of Hamas, (Spring 2012)
7- Shaul Mishal and Avraham Sela,The Palestinian Hamas,2000
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.